أعترف أنني كنت من الكارهين لكل التراث العثماني، شأني شأن أي خريج لمدرسة التاريخ التقليدية ذات النزعة القومية والتوجه الأيديولوجي ضيق الأفق، والتابع بسفاهة لآثار نتاج المستشرقين في مرحلة ما قبل البحث عن الموضوعية.لكن مسألة المذابح الأرمينية «المزعومة» وأسلوب طرحها الفج كان أكثر استفزازًا لأي عقلية منهجية تبحث عن الأحداث وتطورها، وعن النتائج ومبرراتها، ثم عن منطقية ذلك كله.وجدت معظم المصادر والمراجع الأرمينية المعربة زاخرة بالشكوى والبكائيات وإعلان المظلومية؛ جراء ما تعرضوا له من وحشية وفظائع على يد العثمانيين إبان الحرب العالمية الأولى. هكذا تجد كلمات من قبيل: «وحشية، فظائع، مذابح…» دون سرد للوقائع والأحداث، ولا الإطار العام لمجريات الأمور.هكذا تناقل عنهم الباحثون والكُتّاب العرب أقوالهم وأحكامهم دون أدنى تحقيق أو تمحيص، بل من أراد منهم شيئًا من التميز فقد ذهب إلى النقل عن المراجع الأجنبية دون النظر إلى خلفيتها الفكرية الموجهة ضد العثمانيين، باستغلال المشكلة الأرمينية كإحدى أوراق اللعبة الدولية لتقسيم تركة الرجل المريض والتعجيل بوفاته أو قتله، حتى أن واحدًا من كبار المؤرخين «أرنولد توينبي» كان مجرد ترس في آلة الحرب الإعلامية والأيديولوجية هذه ضد الدولة العثمانية، وهو ما اعترف به بنفسه، إذ كتب رسالة إلى والدته في 22 يونيو/ حزيران 1912 بأنه يرغب «رؤية الأتراك يطردون من أوروبا، لأنهم طغاة مستبدون، ولأنهم أيضًا كسالى وأغبياء»[1]. ثم بعد بداية الحرب كتب لوالدته في رسالة أخرى: «لن نهدأ حتى تكون النهاية، لن نترك قطعة من تركيا إلا شظايا»[2].


الاعتراف

في مذكراته «معارفي» الصادرة بالإنجليزية في لندن سنة 1967 قال «توينبي»:

ما سبق أن كتبته ووصفت فيه أحوال الأرمن، كان دعاية حرب، لأن السلطات العثمانية قد وجدت الأرمن العثمانيين يمثلون الطابور الخامس لقوات الحلفاء فقررت ترحيلهم بعيدًا عن مناطق القتال، وأن هذا الإجراء هو إجراء أمني مشروع تتخذه غيرها من الدول في مثل هذه الظروف[3].

كان توينبي قد أصدر بالإنجليزية في لندن سنة 1932 كتابًا بعنوان «المسألة الغربية في اليونان وتركيا»[4] ذكر فيه أن ما كتب عن التنديد بأحداث سنة 1915 في الدولة العثمانية ضد الأرمن هو دعاية حرب تشوبها المبالغة.


المفاجآت والحقائق تتوالى

بالطبع لم تتكشف هذه الحقيقة إلا بعد القضاء على الدولة العثمانية، والقضاء أيضًا على أحلام الأرمن الراغبين في الاستقلال جزاء ما قدموه من مساعدات كطابور خامس للحلفاء للقضاء على دولتهم التي عاشوا في كنفها أكثر من أربعة قرون ونصف القرن.لم يكن توينبي وحده في هذه المؤامرة، ولم يصنع وحده تلك الأكذوبة ويتولى كبرها، ولكن كان ثمة آخرون تشابكت مصالحهم والتقت رغباتهم، فتشابكت خيوط المؤامرة واكتمل نسجها واشتدت حبكتها، ومن أبرز هؤلاء: «اللورد برايس»، و«هنري مورجنثاو».كان لورد برايس من الليبراليين البريطانيين، ويشترك مع أرنولد توينبي في بغضه الشديد للأتراك والمسلمين عامة، وللحكم التركي في أوروبا، وفي إحدى جلسات مجلس اللوردات أثناء الحرب العالمية الأولى، وتحديدًا في السادس من أكتوبر/ تشرين الأول 1915 قام اللورد برايس بعرض المسألة الأرمينية، وأعطى صورة رهيبة للحوادث في الأناضول، اعتمادًا على مصادر أرمينية وعلى المبشرين[5].كانت الصحافة البريطانية أيضًا قد أرسلت إلى اللورد برايس لإمدادهم بالأخبار والمعلومات عن الأحداث، ووعدهم بفعل ما يلزم، ورغم مساعدة أصدقائه الأرمن، فإنه لم يتمكن من الحصول على صور لعرضها في الصحف، ولا وثائق تؤيد أقواله[6]. ثم أوضح أنه «تعاون مؤرخ شاب له خلفية أكاديمية جيدة، إذ كان يعمل سابقًا في أكسفورد، هو أرنولد توينبي»[7]. الذي يجعلنا نتأكد أنها مؤامرة بعيدة الأهداف وطويلة المدى هو ما حدث من وزير الخارجية اللورد «جراي» في 23 أغسطس/ آب، حيث قال إن التقرير «دليل واهٍ جدًا»، بالطبع لم يكن يقصد الموضوعية أو تعففًا عن اتهام العثمانيين، لكنه أدرك حجم الفضيحة والمعارضة الدولية، لأن التقرير عند نشره سيتم فحصه على نطاق عالمي من قبل كل المهتمين بالمسألة، وكانت الإجابة القاطعة والمسكتة للجميع من لورد برايس بأن «هذا التقرير سيساعد ضد الحكومة التركية في دعم القضية الأرمينية والأرمن الضعفاء»، ليس هذا فحسب، وكان بعيد النظر عندما رأى المستقبل وقال عن تقريره إنه: «سيمد المؤرخين بالمعلومات في المستقبل»[8].


خيوط المؤامرة المتشابكة

كان اللورد برايس على علاقة بالسفير الأمريكي في إسطنبول هنري مورجنثاو وقد صاحبه في زيارته إلى القدس عام 1914، وقد راسله برايس بعد ذلك بخصوص المسألة الأرمينية ، وكتب: «إذ ما استلمت سفارتكم أي تقارير من المبشرين الأمريكان في آسيا التركية/ الأناضول، والتي من الممكن أن تلقي الضوء على الموقف هناك؛ فإنني آمل أن تسمح لي بالاطلاع عليها من حين لآخر». وهو ما فعله مورجنثاو؛ إذ كان يزود برايس بتقارير المبشرين والقناصل وغيرها من التقارير الخاصة بالسفريات والرحلات[9]. وقد صرح مورجنثاو بهذا قائلًا: «إن أغلب المواد التي جمعتها نشرت بالفعل في النشرة الممتازة للمواد الموثقة التي جمعها الفيكونت برايس»[10].عند مراجعة ما كتبه توينبي في كتابيه «الفظائع الأرمينية .. مقتل أمة»، و«الطغاة القتلة الأتراك»، نجد الكثير من التقارير التي لم تكن سوى وصف السفير مورجنثاو نفسه[11]. لقد لعب السفير مورجنثاو دورًا رئيسيًا في المواد المجمعة للكتب التي تتحدث عن الأحداث وقت الحرب ومعاملة الأتراك الأرمن. وهو ما يدعونا إلى دراسة هذه المذكرات للوقوف على مدى صحتها وصدقها.


مذكرات «مورجنثاو»

أما بخصوصهنري مورجنثاو سفير أمريكا في العاصمة العثمانية، فقد كتب مذكراته عن السنتين اللتين قضاهما هناك في بداية الحرب، وكلها تدور حول المشكلة الأرمينية، وثلاثي رجال حكومة الاتحاد والترقي: «أنور، طلعت، وجمال»، وسوف أنقل من رسائله الأصلية المحفوظة في أرشيف مكتبة الكونجرس، وأهمها الخطاب الذي أرسله السفير مورجنثاو في 26 نوفمبر/ تشرين الثاني 1917 لصديقه وموضع ثقته، رئيس الولايات المتحدة «وودرو ولسن»، لأن في هذا الخطاب الذي لم ينشر إلى الآن، يعرض مورجنثاو فكرة كتابة كتاب، كان هدفه الوحيد يكمن في إثارة ومساندة الرأي العام للمجهود الحربي للولايات المتحدة، وذلك عن طريق ممارسة عمل دعائي ضد ألمانيا وضد تركيا يرمي إلى «تحقيق النصر لسياسة الحرب الحكومية»، وليس غريبًا حصول مورجنثاو على مباركة الرئيس، فقد عبّر عن مشروعه لولسن بالعبارات التالية:هذا الكتاب المسمى «قصة مورجنثاو» أو مذكراته في إسطنبول، كان أكبر عملية تزوير عرفتها الدبلوماسية في التاريخ الحديث، فهي لم تكن مذكرات مورجنثاو على الإطلاق، ولم يكن فيها من الحقيقة سوى وجود السفير في إسطنبول وخيانته لأصدقائه من القادة الأتراك، وبمقارنة طفيفة بين رسائل السفير إلى أسرته وإلى وزارة الخارجية، نتبين مدى تضاربها مع ما جاء في كتابه، والذي صمم ليكون دعاية تشويه للأتراك والألمان، بزعم واختلاق قصة المذابح ضد الأرمن لإثارة الرأي العام والمشاعر الإنسانية.الكُتّاب الحقيقيون لهذه القصة هم: سكرتير السفارة «أندونيان» الأرميني، صديق هنري مورجنثاو وسكرتيره الشخصي «سكمافونيان» وهو أرميني أيضًا، وزير الخارجية الأمريكي «روبرت لانسينج»، وأخيرًا الصحفي الأمريكي «برتون هندريك»، الذي اعترف بكل ذلك، وقبله ظهر اعتراف وزير الخارجية في رده على شكر مورجنثاو ورجائه ألا يذكر اسمه مطلقًا في مقدمة الكتاب[13]. كما رددت كثيرًا: صارت هذه المذكرات الملفقة أو المزورة هي المرجع الأساسي لكل برلمانات الدول ومشرعيها في اتخاذ موقف من العثمانيين وتاريخهم، واعتبارهم صناع أول هولوكوست ضد الأرمن في القرن العشرين وحتى الآن!


المشهد من زاوية مختلفة

«لقد وهن عزمي من قوة المعارضة المعلنة، ومن فداحة اللامبالاة حيال الحرب، وكذلك من غياب الحماس لدى هؤلاء الذين يساندون الحرب.. يجب علينا الانتصار لسياسة الحرب الحكومية، وذلك بأن نأخذ في الاعتبار كل إجراء أو كل وسيلة شرعية للوصول لذلك»[12].

بعيدًا عن الاعترافات، وبعد أن نستعرضبعضًا من هذه الوثائق والشهادات التي جمعها برايس في كتابه «معاملة الأرمن في الإمبراطورية العثمانية»، والاتهامات الموجهة إلى الحكومة العثمانية بالجرائم المقترفة ضد الأرمن. بقراءة متجردة عن تأثيرات الدعاية، وبوضع الأمور في سياقها التاريخي، نجد ببساطة أن هذه الاتهامات ضد الحكومة العثمانية تحمل اعترافات أرمينية قد تكون هي الأخرى جرائم مسوغة لتصرفات الحكومة العثمانية المتهمة. فهناك من الاتهامات أو الجرائم التي تحملها شهادات مجموعة برايس أو بالأحرى اعترافات هؤلاء الشهود. ثمة نقطة مهمة في إعادة قراءة المشهد هي أكثر سهولة وأشد وضوحًا، حيث قامت الباحثة الأرمينية «لويزا نالبنديان» بعمل أطروحتها للدكتوراه حول «الحركات الثورية الأرمينية»، والتقت عددًا من قادة هذه الحركات من الذين شاركوا في أحداث الثورة ضد العثمانيين إبان الحرب العالمية الأولى، وقد أدلوا بشهادات مفصلة حول تحركاتهم وأعمالهم وعلاقاتهم مع روسيا وفرنسا وغيرهما من الدول والمنظمات، على اعتبار أن ذلك مصدر فخر لهم وبطولة. بقراءة من زاوية أخرى نجدها اعترافات مخزية لمجموعة من المتمردين الذين ارتكبوا جناية الخيانة العظمى ضد دولتهم العثمانية، بل وهي في حالة حرب كبرى، وكانوا طابورًا خامسًا لأعدائها، رغم تجاربهم الطويلة مع روسيا في الخيانة ثم تلقيهم جزاء سنمار.القراءة الأخيرة للمشهد على المستوى العربي الحاضر، هو حالة الاستقطاب الأيديولوجي واستعداء فرقة ضد أخرى، وحالة العبث الطائفي، سواء استنصار الأقليات الطائفة بالخارج أو العلاقات الحميمة غير المبررة علنًا بين الأنظمة وبين الكنيسة مقابل صفقات سياسية، إذ سرعان ما تتغير المعادلات فتتنافر المصالح، وتتكرر مأساة الأرمن مع العثمانيين، وتتكرر مأساة ملوك الطوائف في الأندلس، ولا نستطيع حينها التخلص من جنود المرتزقة القادمين من الخارج، أو إتمام المصالحة في الداخل، ولا يربح الخونة سوى الخسران المبين، ولا عزاء للأغبياء.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. I bid, P.: 72
  2. Arnold Toynbee: Acquaintances…, Op. Cit., P.: 81
  3. Arnold Toynbee: The Eastern Question in Greece and Turky, London, 1932
  4. F. O. 371/2483, 6.10.1915
  5. F. O. 371/148680, 11.10.1915
  6. S. Sonyel: The Great Ware and the Tragedy of Anatoli, T. T. K., Ankara, 2001, P.: 144
  7. Toynbee : Op., Cit., Preface, P.: 16 – 18
  8. Sonel, Op. Cit., P.: 145
  9. Loc Cit
  10. Toynbee: Armenian Atrocitees, Op. Cit., The murderous Tyranny of the Turk, London, 1917
  11. أهم مجموعة عامة من المستندات عن حياة وعمل السفير هنري مورجنثاو (1856– 1946) موجودة في مكتبة الكونجرس بواشنطن في قسم المخطوطات تحت عنوان «أوراق هنري مورجنثاو»، LC: PHM – Lobine No
  12. H. Lowery: Op. Cit., P.: 46 .. ولمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع انظر، أحمد عبد الوهاب الشرقاوي: أمريكا والبروباجندا الأرمنية، دار البشير، القاهرة، 2017م.