هو روائي ومترجم إيراني ولد في مدينة الأهواز. نشرت روايته الأولى بالفارسية عام 2001م (بالعربيَّة: وجه الله)؛ فحقَّقت نجاحًا ساحقًا واختيرت كأفضل رواية في إيران، ونالت جائزة القلم الذهبي، وطُبِعَت أكثر من ثمانين طبعة مذ ذاك. ثم نشر مجموعتين قصصيتين ناجحتين قبل أن ينشُر روايته الثانية عام 2005م لتُلاقي إقبالًا واسعًا، وقد صدرت بالعربيَّة، عام 2017م؛ بعنوان: «عراق خنزير في يد مجذوم».

وفي عام 2006م نفدت مجموعته القصصيَّة التالية فور طباعتها بسبب الإقبال منقطع النظير. وحين نُشرت روايته الثالثة عام 2009م؛ كانت أكثر الكُتب مبيعًا في معرض طهران الدولي للكتاب. ثم طُبِعَت مجموعته القصصيَّة الرابعة، عام 2010م؛ ست طبعات خلال ستة أشهُر. ليُسطِّر مستور اسمه كواحد من أهم عشرة روائيين وأكثرهم شعبيَّة خلال مئة عام هي عُمر الأدب الروائي الإيراني الحديث. وقد جاء هذا الحوار الممتع مع المؤلف عقِب نشر الترجمة العربيَّة لمجموعته الشعريَّة الأولى في القاهرة، عن تنوير للنشر والإعلام:[1]نُشِرَ لك باللغة العربية، حتى اﻵن؛ مجموعة شعريَّة[2] وروايتان تُعتبرا من أهم أعمالك، وإن كانتا تُعبِّران عن مرحلة مبكرة من مسيرتك الأدبية: «وجه الله»، و«عراق خنزير في يد مجذوم»؛ تُجسِّد الأولى رحلة بحثٍ عن الإيمان، والثانية استقذارًا صوفيًّا للتكالُب على الدُنيا؛ فهل تتفق مع هذا التوصيف لمجمل العملين؟
رواية «عراق خنزير في يد مجذوم» — مصطفى مستور

أتفقُ مع الوصف الأول بخصوص «وجه الله»، لكني أعتقد أن الوصف الثاني، الخاص برواية «عراق خنزير في يد مجذوم»؛ قاصِر رغم صحته. ففي هذه الرواية نواجه -واقع الأمر- بشرًا عاجزين قد حبسوا أنفسهم في عالم صغير لا يستطيعون الخروج منه. ربما لو تعرَّفوا إلى بعضهم البعض، وصاروا أكثر دراية بمتاعب بعضهم بعضًا؛ لأعان كل منهم غيره. ولكن لأنهم غير مدركين بالمرَّة لوجود بعضهم بعضًا، إذ حُبِسوا في زنازين أنفسهم؛ فهم يعانون المتاعب دومًا.

…وهذه هي حقيقة الحياة في رأيي. فرغم أننا نعيش زمانًا واحدًا، وقد نتجاور في شارع أو متجر أو حتى في المصعد؛ إلا أننا لا نعرف شيئًا عن آلام وأحزان بعضنا البعض. حقيقة الأمر أن القارئ العليم -الذي يشبه الإله في إحاطته بكل شخوص الرواية- هو الذي يُدرك وحده متاعب كافة الشخصيات. إنه «الإله» الذي وقف ينظر إلى حيواتهم وأحداثها من الخارج. وأنا أعتقد أن عدم إدراك شخصيات الرواية لوجود بعضهم البعض هو سبب شعورهم بالوحدة؛ فالوحدة أكثر المفاتيح أهمية لفهم حياة الإنسان الحديث وطبيعتها.

المعنى الحرفي لعنواني روايتيك هاتين، في أصلهما الفارسي؛ يعتمِدُ على مقولاتٍ وردت في سياق العملين. الأول أصله مقولة لأحد بطلات الرواية: «قَبِّل عني وجه ربّك الكريم»، والثاني مقتبس من مقولةٍ للإمام علي وردت في سياق الأحداث. فهل كنت تختار عنوان العمل أولًا، أم تجده يفرِض نفسه عليك -بعد الكتابة- في الفكرة الرئيسة التي يتم التعبير عنها، في موضع ما من العمل الروائي؛ من خلال مقولةٍ صريحة؟

العثور على عنوان مناسب أمر بالغ الصعوبة. وعلى عكس اختيار أسماء أبنائنا، فإن أسماء القصص والروايات لا تتشكل تأسيسًا على قيمة العمل الجماليَّة؛ فالعنوان إما أن يشير إلى خلاصة العمل أو إلى أحد أفكاره الرئيسة.

وقد ورد عنوانا كلتا الروايتين على خاطري أثناء الكتابة.

كل شئ في رواياتك يتكلَّم، بحرفٍ أو بغير حرف؛ حتى الجمادات. وكل صمتٍ عندك دال، بل شديد الدلالة. فكيف تجعل من الجمادات أبطالًا صامتةً تحمِل رسائلك؟

ثم أهمية كبيرة لكافة أجزاء النص في الروايات القصيرة؛ فلا تُستعمل الألفاظ آنئذ على سبيل الزخرفة أو التجميل، ولا لملء المشهد فحسب. إن كل شيء في هذه النصوص القصيرة (وهو النمط الذي أميل إلى كتابته؛ إن جاز أن نطلق عليه نمطًا) يتمتع بأهمية ذاتية. إذ أن كافة الأشياء والأشخاص الذين يرد ذكرهم يتمتعون بقدر من الأهمية؛ فزجاجة اللبن فوق المنضدة لها نفس القدر من الأهمية التي لشجرة أو لقطة أو لرسالة أو لمصعد كهربائي، أو حتى لصوتٍ ما أو لشعاع نور، فما من صدفة في هذا النوع من القصص؛ إذ تم التخطيط لكل شيء.

لماذا يرتبط الخلاص في رواياتك بالحب؟

لا شك أن الحب من أهم حقائق الحياة، وكما تقول واحدة من شخصيات روايتي الأخيرة:

إن الثمانية مليار إنسان الذين يعيشون على وجه الأرض هم نتاج ثمانية مليار حالة حب، حتى وإن كان زمن كل حالة خمسة عشر دقيقة فحسب.

ومع ذلك، فقد أدركت منذ زمن أن الحب لا يستطيع أن ينقذنا وحده؛ فلا بُد من السعي خلف أشياء أخرى حتى نحقق الخلاص.

بوصفك أديبًا إيرانيًّا يعيش في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، أي بعد ما يقرُب من أربعة عقود على الثورة الإسلامية في إيران؛ كيف تُعرِّف احتياجك للأدب وطبيعة هذا الاحتياج؟ أو بعبارةٍ أخرى؛ لماذا تكتب بوصفك إيرانيًّا يعيش في هذا الزمان المتعيِّن؟

أعتقد أن القصة/ الرواية بشكل خاص، والفن بشكل عام؛ ليس له تأثير كبير على حياة الإنسان. وعندما يخبرني شخص أن قراءة أعمالي قد تركت أثرًا كبيرًا على حياته، أو أنها قد غيَّرته (وهؤلاء ليسوا بالقلة للأسف)؛ فإني أتصور أنهم يقصدون أن قصصي/ رواياتي قد تركت أثرًا على حيواتهم لمدة خمسة أو عشرة دقائق.

بادئ ذي بدء، أعتقد أن تأثير الفن لا يكاد يُذكر. ومع قناعتي هذه، عن دور الفن وأهميته في حياة الإنسان؛ يصبح من الصعب جدًا عليَّ إجابة سؤالك، لأني لا أستطيع الزعم بأنني أكتب للتأثير على جمهور من المتلقين.

المجموعة الشعرية «ثم فاح النور من يديك» — مصطفى مستور

وبصراحة، فأنا أكتب لأن الكتابة هي طريقة لتنظيم أفكاري ومشاعري. أضف إلى ذلك أن البشر يتشابهون مع بعضهم البعض في الكثير من مشاعرهم وتجارب حيواتهم؛ مثل: الخوف والوحدة والأمل، والفزع من الموت، والمعاناة من المرض والحب، والفشل والسعادة والقلق، وهلم جرا…

ومن خلال قراءة قصصي/ رواياتي -التي تجسِّد مشاعري وتجاربي ومعتقداتي- فإن قُرائي يُعيدون قراءة مشاعرهم وتجاربهم -بطريقة أو بأخرى- ويشعرون بأنها تعبر عنهم، وأنهم أبطالها الحقيقيين. هذا الاتحاد الشعوري يجعلنا نقترب أنا وقرائي من بعضنا البعض. ولنفس هذا السبب؛ نتشابه كثيرًا أنا وقرائي في إيران أو إيطاليا أو تركيا أو إندونيسيا أو البوسنة والهرسك أو مصر أو أي مكان آخر في أنحاء العالم.

ولا شك عندي أنني إذا التقيت يومًا مع بعض قراء أعمالي العرب -في القاهرة أو غيرها- سنشعر أننا نعرف بعضنا البعض منذ زمن طويل، رغم أنها ستكون المرة الأولى التي نلتقي فيها.

أعتقد أن هذا هو ما يمنحني دافعًا قويًّا للكتابة: التعاطف العميق مع مَنْ لَنْ أراهم أبدًا.

إذن فأنت تكتب للمجتمع الإنساني الأوسع وليس للمجتمع الإيراني فحسب؟

نعم هذا صحيح، أو على الأقل هذا ما أرجوه…

فهل تؤمن بإمكان تحقيق الخلاص من خلال الكتابة أو من خلال العمل الفني في مجمله؟ وإن كان ثمت، فأي مستوى من الخلاص تحققه هذه الكتابة؛ أهو خلاصٌ فرديٌ محض للكاتب، أم مسعى لتحقيق قدرٍ من الانعتاق الاجتماعي؟

من الممكن أن تزيد الكتابة من وعينا، لكنها عادةً ما تنتقِص من سلامنا الجواني. بناء على هذا، فلا يمكن للكتابة أن تؤدي -في رأيي- إلى خلاص الفرد، أو خلاص المجتمع. وإذا كنا نسعى خلف الخلاص البشري؛ فعلينا أن نفعل ذلك من خلال التربية والتعليم والتأهيل في المدارس، وليس عن طريق الفن.

أهذا يعني أنك ترى تحقيق الخلاص مُعلَّقًا بسُلطةٍ دنيويَّة ما (سُلطة نظام التعليم كما أسلفت؟) في مقابل إمكان تحقيق الخلاص بالعمل الفردي والاجتماعي؟

ليس بمقدور الفن وحده تغيير الناس. بل يجب أن تكون هذه الجهود الفردية في إطار التعليم والتدريب، والعمل العلمي؛ حتى تصير مؤثرة.

ولا أقصد بذلك أن التربية يجب أن تتم من خلال المدارس وحدها، وإنما من خلال كل تلاقي بشري: الأم مع ابنها، والصديق مع صديقه، والمعلم مع طلابه، والعاشق مع معشوقه، إلخ. إن الكِتاب أو الفيلم أو المقطوعة الموسيقيَّة لا يمكنهم أن يخلفوا أثرًا مشابهًا لأثر الإنسان الذي نلتقيه بشحمه ولحمه.

وهل ما زال بإمكان الإنسان الإيراني تحقيق الخلاص الفردي، والتطلُّع لانعتاقٍ جماعي؟

الإيرانيون أبعد ما يكونون عن المجتمعات المتقدمة؛ بسبب افتقارهم للنظام التعليمي المناسب، وعدم وجود علاقة جديَّة ومستمرة مع العالم الحر، وغياب الإعلام القوي ثقافيًّا وعلميًّا.

من الممكن أن تتخلَّق أعمال فنية بارزة في مثل هذه المجتمعات، لكن هذه الأعمال ليس بوسعها تحقيق الخلاص للمجتمع. فمن الممكن أن تُكتب رواية رائعة حول الفقر الاجتماعي، في مجتمع جد فقير، مثل رواية «عناقيد الغضب» للكاتب الأمريكي جون شتاينبك؛ لكن علينا أن نتذكَّر أن هذه الرواية لن تستطيع أن تقضي على الفقر. إذ أن تحقيق التنمية الاقتصادية، وليس كتابة الراوية؛ هو الذي سيقضي على الفقر.

فهل تعتبر إذن أن العمل (والوجود البراني) أسبق على الشعور والوجدان والاعتقاد (الوجود الجواني)؟ وما هو «النظام التعليمي المناسب» الذي قد يرفع الإيرانيين -من وجهة نظرك- لمصاف المجتمعات المتقدمة؟

إن المؤسسات الاجتماعية هي آليات بناء المجتمع الحقيقية، ويمكن أن يصير الفن والأدب، بل وحتى الدين؛ مؤثرين من خلال هذه المؤسسات. والنظام التعليمي المناسب هو النظام الذي يصنعه “علم التربية والتعليم”، وليست الأيديولوجيا أو التطلُّعات السياسيَّة. إذ تتطلب الإشكالات الواقعيَّة (المادية والذهنية) إجابات علميَّة، وطالما اكتفينا بالاقتناع والصمت -بدلًا من البحث عن هذه الإجابات- فإن الأمر سيُشبه علاج حالة مرضية شديدة باستخدام المُسكِّنات بديلًا للتدخُّل الجراحي.

لنسحب السؤال إلى مساحةٍ أكثر عُمقًا، إن لم تُمانِع؛ كيف يُمكن للإنسان الإيراني اليوم أن يؤمن؟ خصوصًا إذا كان رافضًا لبعض أو أكثر ما يفرضه عليه النظام الحاكم، الذي يدَّعي تمثيل الإسلام؛ وهل بإمكانه فعلًا أن يصل للإيمان في مثل هذا السياق المُلتبس المُرتبك؟ أم أن رد الفعل الحتمي -والمفهوم- النابع أحيانًا من رفضه لطبيعة النظام السياسي والاجتماعي يجعله يرفض الإيمان كذلك، لارتباطه، ولو نظريًّا؛ بهذا الوجود البراني الثقيل؟

من الطبيعي أن يُنسَب سلوك الحكام إلى الدين، بسبب طبيعة النظام الديني الحاكم. فالناس ينظرون بالأساس إلى ما نفعله، لا إلى ما نقوله. ومن هذا المنطلَق؛ أعتقدُ أن الدين قد تضرَّر كثيرًا في روع الإيرانيين بسبب السلوكيات الخاطئة لبعض السياسيين. ورفض المعتقدات الدينية، أو الاحتجاج عليها؛ تجربة شائعة في مجتمعنا، خاصة بين الشباب.

وبصرف النظر عن سلوك السياسيين، فاعتقادي أن انعدام القدرة -أو انعدام السعي أصلًا- على الإجابة على الإشكالات الفكرية والنظرية التي يطرحها الشباب؛ يمهد الطريق لإلحاق الضرر بمعتقداتهم الدينية. ونتيجة لذلك، وسواء أكان سلوك الحكام أو المجال الفكري هو العاجز عن إجابة الأسئلة؛ فقد أضر كلاهما بالمعتقدات الدينية للإيرانيين.

أهذا يعني أنك تعتبر الإيمان مسألة عقليَّة بحتة، مثل بطل روايتك «وجه الله»؛ رغم أنك نفيت ذلك ضمنًا في نهاية الرواية؟ بل ورغم أن إجاباتك السالفة تُرسِّخ لمفهوم اعتلاء سلطة الانفعال والشعور على سلطة الأفكار؟
رواية «وجه الله» — مصطفى مستور

الإيمان لا علاقة له بالعقل. فالإيمان يبدأ حيث ينتهي العقل. إذ عندما يمكننا شرح وبيان موضوع ما بعقلانية؛ فإن الإيمان به يصير لا معنى له. فإذا تمكَّنا مثلًا من تبيان كون المطر ناتج عن تبُّخر مياه البحر، وتكوين السحب، ثم تفريغها لشُحنتها الكهربائية؛ فإن الإيمان بالمطر يصير لا معنى له.

لكن الاعتقاد في وجود الله، ووجود حياة بعد الموت، وغائيَّة الوجود كله؛ يدخُل في دائرة الإيمان، بما أن العقل لا يملِك أية إجابات قطعية ونهائية في هذا الباب. إن هذه القضايا بطبيعتها تقع خارج نطاق العقل. لكن الدين ليس إيمانًا فحسب؛ فكثير من أمور الدين، التي تقع في دائرة الأحكام والأخلاق والعلاقات الاجتماعية؛ تحتاج إلى تفسيرات عقلانية بما أنها تثير أسئلة عديدة. وهي نفسها الأمور التي لا يستطيع مُمثلو الدين إجابة الشباب عنها.

هل تأذن لي بأن أسحب السؤال إلى مساحة أكثر شخصية؛ أأنت مؤمن؟ وإن كنت مؤمنًا؛ فكيف تحقَّق هذا الإيمان؟ كيف أمكنك أن تستلَّه من بين الحطام السياسي والاجتماعي الذي خلَّفته الأيديولوجيا؟

اسمح لي أن أجيب على سؤالك على النحو التالي:

أعتقد أن واحدًا من أهم التقسيمات التي قد تُفسِّر لنا السلوك البشري؛ هي تقسيم البشر إلى: من يؤمن بوجود غائيَّة ومعنى لهذه الحياة وهذا الكون، ومن يرونها عدمًا محضًا لا طائل تحته ولا شئ وراءه. وأنا أعتقد بأن هذا الوجود هادِف وذو مغزي، وليس عدمًا خُلِقَ بالمصادفة. أعتقد أن العالم نتاج عقلٍ خلَّاق شديد الذكاء، ويجب تفسير حياة الإنسان ووجوده في إطار هذا الاعتقاد. لقد اكتسبت جزءًا مهمًا من هذا الاعتقاد عن طريق العلم، وليس عن طريق الفلسفة واللاهوت.

وهذا التصور أعمق كثيرًا وأعلى مرتبة من تصور السياسي والمنظَّر الأيديولوجي. إن الأديان جمعيها تؤمن بمعنى وغائيَّة العالم، ويحمل الكثيرون من كبار الفيزيائيين والبيولوجيين نفس هذا الاعتقاد اعتمادًا على العلوم التجريبية، وليس على الفلسفة أو اللاهوت. لقد حملتني تجاربي الشخصية إلى الإيمان أنا الآخر، وليس إلى العدمية والإلحاد.

لهذا كان كل وجود غائي وهادف ومُخطط، في أعمالك الفنيَّة؛ حتى وجود الجمادات؟

أعتقد أنه ليس ثمة حدود واضحة وظاهرة بين بُعدي هذا العالم: المادي والغيبي. إذ يبدو أن الوجود كلٌ متكامل معقَّد؛ مُكوَّنٌ من بُعدين مُتشابكين: مادي وغيبي. ذلك أن للقدر والمصير والموت والروح والعشق والخوف والإيمان وجود حقيقي، مثلهم في ذلك مثل وجود الشمس والمجرَّات، والقوة الكهربائية، والجاذبية والذرة، والنور والثقوب السوداء.

هل يرتبط تحقيق الإيمان في السياق الاجتماعي والسياسي الإيراني اليوم، بوصفه سياقًا مهزومًا بصورةٍ، ما كما يُعبِّر إنتاجه الفني؛ بالاستقذار الصوفي للدُنيا والانسحاب منها؟ أعني هل سنشهد في المرحلة القادمة انسحابًا شيعيًّا، اجتماعيًّا على الأقل؛ من المجال التاريخي، حفظًا للإيمان، أم سيطرد الأمر بالغالبية -مع تزايُد معدلات العلمنة- إلى نبذ الإيمان كليَّة للاحتفاظ بالمكاسب المادية الحديثة؟

أعتقد أننا عندما نستقل الطائرة، لننتقل من الشرق الأوسط إلى أوروبا الغربية؛ فإننا لا نسافر فقط في الجغرافيا، بل نسافر بالمثل داخل التاريخ. ويبدو لي أن مستقبل مجتمعنا [الإيراني] سيتشابه مع المجتمع الغربي الحالي. إذ أتصور أن نوعًا من الثقافة العالمية بطريقه للتغلُّب الكامل على كافة الثقافات المحليَّة. ومن ثم، فسوف نشبههم إن عاجلًا أو آجلًا.

ومع ذلك، فإن هذا لا يعني ضمور المعنى وتآكل الإيمان. فالإنسان دائم البحث عن المعنى. إن طلب المعنى هو ذاته جوهر الإنسان وماهيته. ولن نشهد أبدًا هيمنة للمادية بمعنى الجحود الكامل للغيب. إن العلمانية عندي ليست جحودًا لعالم الغيب؛ بل فصل للإيمان عن السلطة.

لماذا يحفل الأدب الإيراني اليوم برموز وإشارات تُعبِّر عن ضيق الأفق ووأد الأمل؟ أو تعبِّر، من جهة أخرى؛ عن تمركُز حول الذات الفردية ولذَّاتها؟ هل غاب التجاوز الذي كانت أفلام مجيد مجيدي -مثلًا- تُعبِّر عنه خلال العقدين الماضيين؟

الأدب الحديث، على عكس الأدب الكلاسيكي؛ هو تعبيرٌ صارِخ عن هيمنة النزعة الفردية. وعندي أنه ليس للمؤلف، وللفنان بشكل عام؛ أي رسالة ومهمة عدا رواية عالمه الجواني والفردي.

واقع الأمر أن الأدب الأصيل هو الذي يعكس شخصية الإنسان، وليس الذي يوظَّف في خدمة الأيديولوجيا أو الرسالة الاجتماعية. ومن الطبيعي أن الشخص المؤمن بالمسئولية الاجتماعية سيعكِس عمله مثل هذه المسئولية. لكن على الفنان أن يكون شديد الحرص على تصوير ذاته ورسم معالمها، لا الغرق في وجود غيره. نفسه الصغيرة أكثر أهمية وقيمة من الآخر الكبير.

أتفق معك في أهميَّة عكس الفن للعالم الجواني والفردي، فهذا هو جوهر تفرُّده؛ لكن ألا يعني ما تقول: فصل الفنان والفن عن كل سياق، ومن ثم تحطيم السرديات الكبرى لصالح سرديات فُسيفسائية تجعل الإيمان تجربة غنوصيَّة ليس لها أي انعكاسات على الواقع؟ وبدلًا من أن تدور الأعمال الفنيَّة داخل سرديَّات كبرى -مثل الأدب الكلاسيكي- فإنها تتحوَّل بذاتها إلى سرديات إيمانيَّة صُغرى تزيد الواقع انقسامًا وتشظيًّا وتصارُعًا؟إن رفض الأديب الحديث للتوظيف الأيديولوجي وابتذاله أمر مفهوم ومُعتبر، لكن لِمَ يضع نفسه على طرف نقيض مع “رسالة اجتماعية” مفترضة؟ أهو مجرد رد فعل على كثافة التوظيف الأيديولوجي داخل سياقه الاجتماعي والثقافي؟ وألا يعني هذا أنك تؤمن -في التحليل الأخير- بعبثية الأدب رغم إيمانك بغائيَّة الوجود؟

لا أؤمن بالرسالة الاجتماعية للفنان. إذ يتم تعريف الرسالة الاجتماعية بأنها استهداف التأثير على المجتمع وتغييره. إن الفنان، حتى وإن كان صاحب رسالة؛ فهو صاحب رسالة فرديَّة بالكُليَّة، رغم أن إحدى هذه الرسالات الفرديَّة قد تكون المطالبة بالعدل أو حماية البيئة أو التصدي للجهل.

إذ أن هذه الموضوعات يتم طرحها من منظور فردي بالكليَّة، وليس من وجهة نظر اجتماعية. لهذا، فالفنان ملتزم بنفسه فقط، ولهذا أيضًا فإن قدرته على التأثير ضعيفة. وإذا كان للفنانين تأثير أكبر، مثلهم في ذلك مثل المُصلحين الاجتماعيين؛ فسيصير العالم أفضل حالًا بغير شك، إذ سيُشاهِد الجمهور الأفلام، ويقرأ الروايات، ويستمع إلى الموسيقى؛ بأكثر من إنصاته إلى السياسيين والمصلحين الاجتماعيين، لكنهم لن يتغيَّروا لأنهم لن يتأثروا.

الكاتب والروائي «مصطفى مستور»

ألا ترى ثمت فارق بين التأثُّر والاستجابة؟ قد يتأثر المتلقي بما يتلقاه من العمل الفني، لكنه يعجز عن الاستجابة لهذا الأثر لسبب أو ﻵخر؟وألا يُمكن أن يصير العمل الفني -جنبًا إلى جنب مع التعليم- بناءً فوقيًّا -بالاصطلاح الماركسي- لبناء تحتي قد تُمثِّلهُ المؤسسات الاجتماعيَّة والعمل السياسي والإصلاحي؟

بالتأكيد، يمكن أن يكون الفن مؤثرًا بصفته عاملًا محركًا ودافعًا، جنبًا إلى جنب مع المؤسسات الاجتماعية؛ ولكن ليس بالمعنى الماركسي، الذي يعتبر الثقافة بالأساس بناءً فوقيًّا والاقتصاد بناءً تحتيًّا. إذ تشمل الثقافة التربية والتعليم، وتؤثر هي الأخرى في الإنسان بصورة أبطأ، وإن كان التأثير يتصِفُ بالديمومة والاستمرار. وبهذا المعنى، فالثقافة هيكل أساسي للبنىَ الاجتماعية. والأخلاق والدين والفن والقيم الإنسانية هي كلها من مكونات هذه البنية، رغم أن حصة الفن ليست كبيرة.

الحق أننا لا نريد لهذا الحوار الثري أن ينتهي، لكن لا مناص لنا من ختمه آخر الأمر. فدعنا نختم هذه الرحلة الممتعة بسؤال يُكمِل صورة مصطفى مستور -التي حاولنا رسمها ها هُنا- في وعي القارئ العربي. تُرى هل للتيَّارات والمدارس الأدبيَّة مكانة ودور في نفس أديبنا ووعيه ورحلته مع الكتابة؟

يمكن للمدارس الأدبية أن تُكسِبَك أدوات عديدة تستطيع من خلالها التمييز بين القصة المتوسطة والقصة الجيدة أو القصة العظيمة. قد تعلمك فن كتابة القصة، لكن لا يمكنها أن تحقن وجدانك بروح وإلهام هذا الفن. فإن لم تكن تملِك مهارات الكتابة، فلن تفيدها من المدارس الأدبية. إذ الكتابة ضرب من الجيشان الروحي والتأجج الذهني اللذان لا يمكن نقلهما من شخص إلى آخر. أما المصاب أصلًا -وبشكل ذاتي- بهذا الجيشان والتأجُّج، فيمكنه الإفادة من المدارس الأدبية لتنمية موهبته وإنضاجها إنضاجًا سليمًا.

ومع ذلك، ورغم أن الإصابة بهذا التوهُّج الجواني فضيلة فنيَّة؛ فإنه غير مُحبَّذ إنسانيًّا، إذ تصحبه المعاناة والألم والحزن. إن ظهور القصة الجيدة يعني أن كاتبها قد أمعن النظر في أمور وتأمَّل في تفاصيل لم يكن يحب الانشغال بها أبدًا في الظروف العادية. ذلك أن القُبح الإنساني وجروح الآخرين ومعاناتهم ليست مما قد يحب أي إنسان الانشغال به، أما الكاتب؛ فيجب عليه الغوص فيها، وسبر أغوارها، وتشريحها؛ حتى يستطيع الكتابة عنها. وهو ما يقترِب في مشقَّته عندي من الحماقة، بل من الجنون؛ أكثر من كونه عملًا فنيًّا.

المراجع
  1. الإصدارات جميعها عن تنوير للنشر والإعلام، القاهرة.
  2. ثم فاح النور من يديك، مصطفى مستور، ديسمبر 2018م، تنوير للنشر والإعلام.