في العام 420هـ، وبينما تجمّع أهل بغداد في ساحات المساجد الكبيرة استعدادًا لصلاة الجمعة، فوجئوا بالأئمة من فوق المنابر بدلاً من تلاوة خُطبَة معتادة تعجُّ بالحِكم والمواعظ، يقرأون عليهم أول وثيقة إيمان رسمية مُلزِمة في التاريخ الإسلامي، وهي ما عُرفت لاحقًا ب«الوثيقة القادرية» أو «الاعتقاد القادري»، والتي اختُلف بشأن تقييمها ما بين مؤيد اعتبر أنها نصرت «أهل الحق» وحرمت الأمة من شر الاقتتال والتفتت، وآخر اعتبر أنها أغلقت أبواب جدل ضرورية لو ظلت مفتوحة لبلغنا ميراث فكري وعقدي عظيم.

في سبيل إقرار هذا «الاعتقاد» جمَعَ الخليفة العباسي القادر بالله (381 – 422هـ) الأشراف والقضاة والشهود والفقهاء في دار الخلافة، للتوقيع على ورقته، اعترافًا منهم بأنها وحدها الطريقة المُثلَى للإيمان الحق، وأن ما عداها «فِسْق وكُفْر» يستحق صاحبه العقاب والتنكيل، ثم أمَرَ بأن تُرسل الوثيقة إلى كافة أنحاء الدولة العباسية، كي يدعوا لها الخطباء من فوق المنابر ويُلزم الجميع بِاتباعها.

هذا اعتقاد المسلمين، ومن خالفه فقد فسق وكفر (…) هذا قول أهل السنة والجماعة؛ الذي من تمسَّك به كان على الحق المبين؛ وعلى منهاج الدين والطريق المستقيم، ورجا به النجاة من النار؛ ودخول الجنة إن شاء الله تعالى.
جانب من نص الوثيقة

خلافة تحتضر

في ظل أوضاع شديدة الاضطراب أتى حُكم القادر لدُرة مُدن العالم؛ بغداد، والتي لم تكن، لسوء حظه، بأفضل حالاتها لحظة اعتلائه العرش، فعلى الرغم من أن الخليفة كان يتبع المذهب السُني، إلا أن هذه المظلة تفرَّعت الأمة لعشرات الفرق والطوائف إلى حد تجاوز التراشق الفكري لأعمال قتال وفتنة شهدتها شوارع عاصمة الخلافة، وفي ذات الوقت سيطر أمراء «بني بويه» الشيعة المتعصبون على السُلطة الفعلية وتحول الخليفة لمجرد رمز ديني، فدُعي لهم من فوق المنابر ونُقشت أسماؤهم على العملة، حتى أن «القادر» نفسه أصبح حاكمًا بناءً على قرار الأمير بهاء الدولة، الذي خلع الخليفة السابق «الطائع» ونصّب «القادر» بدلاً منه، الذي حلف للأمير، أمام الأشراف، على الوفاء والإخلاص!

يقول البيروني: «الدولة والملك قد انتقلا من آل العباس إلى آل بويه، والذي بقي في أيدي خلفاء الدولة العباسية إنما هو أمر ديني اعتقادي لا مُلك دينوي».

أما على أطراف دولته انتشرت دعوات القرامطة المتمردة لتُزاحِم الدولة الفاطمية (الشيعية) التي ثبتت دعائمها في مصر، ومنها انطلقت لتبتلع الشام، ثم دُعي لأميرها في الحرمين عام 396 هـ، حتى دانت لهم الموصل (401هـ) وهي على مرمى حجر من دار الخلافة الواهنة.

يقول ابن الأثير: «كانت الخلافة قبله قد طمع فيها الديلم والأتراك، فلما وليها القادر بالله أعاد جِدّتها، وجدّد ناموسها، وألقى الله هيبته في قلوب الخلق».

ثار الديلم 383هـ بسبب الغلاء وتأخر دفع الرواتب، ونهبوا دار الوزير أبي نصر سابور، وخازن المال أبي الفرج محمد بن علي، ولم يهدأوا حتى استجيب لمطالبهم. وفي 384هـ اجتاح العيّارون (الحرافيش) بغداد وعاثوا فيها فسادًا، استولوا على الأموال وأحرقوا عشرات المواضع، فلجأت الدولة للشدة المفرطة لقمعهم.

في العام 398هـ تداول بعض الشيعة فيما بينهم مصحفًا مختلفًا عن النسخة الأصلية التي يتعبّد بها عامة المسلمين، فأمر «القادر» بإحراقه، فأحدثوا شغبًا كبيرًا قابله الخليفة بالقمع والشِدة حتى هدأت البلاد إلى حين.

وفي 402هـ وضع «القادر» محضرًا رسميًا لذمّ أعدائه الفاطميين شكّك به في نسبهم لآل البيت وأكد أنهم «فجّار مُلحدون زنادقة مُعطّلون وللإسلام جاحدون، ولمذهب المجوسية والوثنية معتقدون».

وفي عام 403هـ اعترض مسلم على رفع النصارى للصلبان في جنازة زوجة أحد زعمائهم ببغداد، فنشبت مشاجرة تطورت إلى فتنة بين الطرفين لم تهدأ حتى تدخل «القادر» وقرر إعادة تطبيق الشروط العُمرية على النصارى فألزمهم بلبس الغيار وألا يرفعوا الصلبان.

وفي 408هـ جمَعَ الخليفة علماء المعتزلة واستتابهم حتى تبرأوا من أفكارهم، ثم نهاهم عن الكلام والتدريس في كل أقوالهم المُخالِفة، متوعدًا إياهم بالعقوبات المغلظة إن عادوا لما يروّجون إليه من أفكار، وكانت هذه النبتة الأولى لوضع «المعتقد القادري».

يقول ابن تيمية:


من كتَب «الاعتقاد» لـ«القادر»؟

يكاد يُجمع المؤرخون أن الكاتب الحقيقي للوثيقة، هو العلاّمة أبو أحمد محمد بن علي الكرجي، نسبة إلى مدينة فارسية تُدعى «الكَرَج» تقع بين همذان وأصفهان، عُرف باشتراكه المفرط في المغازي وحماسه في قتل أعداء الإسلام حتى سُمي بـ«القصَّاب».

لا ترشدنا كتب التاريخ بكثير من المعلومات عنه، عدا أنه اتبع المنهج «السلفي» وعارض بشدة تأويل صفات الله (مذهب المعتزلة)، ووضع سلسلة من الكتب أشهرها «السُنة»، و«تأديب الأئمة»، و«نكت القرآن».

ولا نعلم أيضًا شكل العلاقة بين الشيخ والخليفة، ولكن «الكرخي» توفي 360هـ، وتولى «القادر» الحكم عقب ذلك بـ21 عامًا، فمعنى ذلك أن الاعتقاد (الكرخي/ القادري) ظل حبيس الأدراج 40 عامًا على الأقل حتى ظهر للنور.

انتصر «القادر» في ورقته لعددٍ من قضايا الفقه التي كثر فيها الجدل بعصره، انتقى منها رأيًا وحرّم خروج أي عالم عليه أو القول بغيره، وبالذات المعتزلة. فهو منعهم بالقول إن الإنسان هو خالق لأفعاله وإنما الله «خلق كل شيء بقدرته»، كما يُقرّ بأن الله هو «السميع بسمع، والمبصر ببصر وكل صفة وصف بـها نفسه أو وصفه بها رسوله؛ فهي صفة حقيقية لا مجازية»، وهو بذلك يحرّم تأويل الصفات عند المعتزلة، وهم المعتقدون في الله أنه «قادر بلا قدرة، سميع بلا سمع».

وفي موضع آخر يكفّر معتقدهم في خلق القرآن «من قال: إنه مخلوق على حال من الأحوال؛ فهو كافر حلال الدم بعد الاستتابة منه»، علاوة على حسم جدل نهج تكفير مُرتكب الكبيرة بأنه «لا يكفر بترك شيء من الفرائض غير الصلاة المكتوبة وحدها»، وبهذا فإن الحاكم مرتكب الذنب ولو كان كبيرًا تجب طاعته لأنه لم يخرج من المِلة، كما أوضحت الوثيقة أنه «لاحظ في الإسلام» لِمَن لَمٍ يحب الصحابة وفقًا لترتيب حدده؛ أبو بكر أولاً، وعُمر ثانيًا، وعثمان ثالثًا، وعلي رابعًا، بالإضافة لكل من يسب السيدة عائشة أو لا يقول في معاوية خيرًا.


التنفيذ بالجلد والصَلْب

وكانت قد انتشرت إذ ذاك دعوة الملاحدة المنافقين.. وكان هذا مما دعا القادر إلى إظهار السُنة، وقمع أهل البدع، فكتب الاعتقاد القادري.. وأمر باستتابة من خالف ذلك من المعتزلة وغيره.

يروي الذهبي، أن أبرز مَن امتثل لأمر خليفة المسلمين في تطبيق العقيدة، حتى من قبل إقرارها رسميًا، هو ملك الدولة الغزنوية محمود بن سبكتكين الذي حكم خراسان وأجزاء من الهند، وأنه عمل على «بث السُنة في ممالكه» فـ«قتل المعتـزلة والرافضة والإسماعيلية والقرامطة والجهمية والمشبهة، وَصَلَبَهُمْ وحبسهم ونفاهم، وأمر بلعنهم على المنابر»، ويضيف عليه ابن خلدون، أن ابن سبكتكين لمّا دخل مدينة الريّ أمر بجمع كتب الفلسفة والاعتزال وعلم الكلام وإحراقها.

لم يتوقف تطبيق هذا المعتقد حتى بعد وفاة صاحبه، وأصبح مرجعًا يُحتكم إليه كلما أثيرت أفكار جديدة أشاعت الفتن بين العلماء، فأمر ابنه الخليفة القائم بتطبيقه بكل شدة حتى أن ابن الجوزي نسبه إليه ووصفه بـ«المعتقد القائمي»، ويُروَى أنه بعدما استشعر أن بعض الشيوخ عادوا للترويج إلى «التأويل» أمر بقراءته من جديد في المساجد على رؤوس الأشهاد عام 433هـ تأكيدًا على أن العمل به لم ينقطع أبدًا، وأقر العلماء على أنه هو «اعتقاد المسلمين، ومن خالفه فقد فسق وكفر»، وبلغ التنفيذ الصارم ذروته بتحديد 5 بنود يُقتل فورًا كُل من لا يؤمن بها، وهي: تقديم «الإمام علي» على «أبي بكر» و«عُمر»، سب السيدة عائشة، الطعن في معاوية، ترك الصلاة، عدم التسليم بأن كلام الله قديم وأن كل أفعال الإنسان مُقدّرة من قبل.

كما يروي ابن الجوزي، أنه في 460 هـ حاول بعض المعتزلة نشر أقوالهم مجددًا فاجتمع علماء بغداد، وأكدوا على ضرورة إعادة إذاعة «الاعتقاد القادري» من جديد، وينقل عن أحد الحضور لعنه للمبتدعة وقوله «لا اعتقاد لنا إلا ما يشمل عليه هذا الاعتقاد».