احتلت تجربة الإصلاح الديني للمسيحية على يد لوثر أهمية كبيرة داخل خطاب النهضة العربي، نستطيع أن نتبين هذا بكل وضوح إذا تصحفنا كتابات الكواكبي ومحمد عبده أو حتى مالك بن نبي لاحقا، وهذا أمر طبيعي أن يلعب الإصلاح اللوثري دورا هاما في خطابات وضعت على عاتقها مهمة «إصلاح» الإسلام، والعودة به لحالة الأصل التي تستطيع حل معضلة الفوات التاريخي وتحقيق اللحاق بركب المدنية والعقلانية، فهذه العودة شبيهة تماما في ظن الكثيرين بعودة لوثر للمسيحية الأصلية، فكما احتاجت المسيحية إلى إلغاء الأسرار وطقس الاعتراف وكسر هيمنة الكنيسة على قراءة الكتاب المقدس، يحتاج الإسلام كي يعود إلى «الأصل» التخلص مما لحق به من خرافات وتشويهات خلطته بالسحر وحجبت بساطة ووضوح نصه وراء كثير من التعقيدات المذهبية فقهية وعقدية، هذا التشابه بين إصلاح لوثر والإصلاح المراد للإسلام نقرؤه جليا عند مالك بن نبي الذي يعتبر أن اللوثرية هي الثورة الروحية الأولى في المسيحية التي توزاي ثورة الإسلام الروحية الأولى في مجتمع مكة الفطري، والتي تحتاح لاستعادة في العصر الحالي كشرط من شروط النهضة.لكن هذا الحضور للوثر وتجربته في خطاب الإصلاح لم يقتصر على كونه فاتحة أمل لإصلاح إسلامي مماثل أو «ثورة روحية ثانية» بمصطلح ابن نبي، بل تعدى هذا ليصبح الإصلاح اللوثري أحد أوجه التأكيد الدائم على صلاحية الإسلام كمبدأ للتقدم والمدنية، ونحن نشاهد بداية هذا بوضوح عند عبده، الذي صاغ أحد حججه ضد رأي هانوتو في أن سبب تخلف المسلمين هو الإسلام، على هذا الأساس، فالدليل على تهافت رأي هانوتو وعلى أن الإسلام هو الدين الأقرب لصنع المدنية والتقدم هو أن الغرب كان متأخرا بسبب كاثوليكيته، ولم تتقدم أوروبا إلا لما تاثرت بنتائج علماء المسلمين وأصلحت مسيحيتها لتصبح أقرب لشكل الإسلام مع ثورة لوثر.إن هذه الأهمية لثورة لوثر، والتي لم نذكر هنا إلا إشارة بسيطة لأسباب حضورها وأهميتها في خطاب النهضة العربي، جعلت هذا الخطاب لا يهتم كثيرا لأي اتجاه آخر لإصلاح المسيحية، بل إن كلام «السعيد الإنكليزي» في كتاب «أم القرى» للكواكبي يكشف تصورا عن ثبات في المسيحية الكاثوليكية، ورغم أن هذا قد يُبرر وقتها لعدم تبلور الفلسفات والأنساق اللاهوتية الكبيرة في الكاثوليكية والبروتستانتية والتي تعددت مداخلها من مثالية ووجودية وتجريبية وتاريخية -أو المعرفة على الأقل بنتائجها- مما يجعلنا نقدم اعتذارا عن رواد هذا الخطاب، ولا نُرجع هذا الاختزال في تصور المسيحية الغربية لرؤيتهم للإصلاح الإسلامي ومداه وآفاقه فحسب بل لظروف أخرى خارجة عن بنية خطابهم، فإننا لا نستطيع أن نعتذر عن هذا الإهمال اللاحق والطويل لهذه الإصلاحات، فهذا الاستمرار في تناول الفكر الغربي كمجموعة من الخطابات الفلسفية الصرفة –غالبا عقلانية- أو حتى المحترفة وقصر الإصلاح المسيحي على اللوثرية يعد دليلا على تجاهل مقصود لهذه الخطابات الدينية المغايرة والمتغايرة، لصالح تصور واحد ووحيد ومجتزأ عن عقلانية منتصرة على الأساطير وتقدم كونتي لا راد له وخط صاعد من لوثر لسبينوزا وظيفته تصفية الأوهام وصياغة دين أقرب لدين طبيعي يستطيع أن يكون سندا لمرتكزات العقلانية الحديثة، كأن التاريخ «تطور تدريجي للبشرية من التطير إلى العقل، ومن الإيمان إلى الإلحاد، ومن الدين إلى العلم» وهذه رؤية أسطورية لسيرورة العلمنة «تحتاج إلى إلغاء طابعها المقدس» كما يقول كازانوفا ( الأديان العامة في العالم الحديث ص31).إن الخطابات الدينية المغايرة والمتغايرة لم يتوقف إنتاجها أبدا في الغرب حتى في قلب عصر العقلانية الكلاسيكي، فباسكال وبيرونو المعاصرين لرواد العقلانية حتما لم يكونوا لا عقلانيين ولا مندمجين في الإصلاح اللوثري، بل وكما يذكر سالم يفوت فإن فيلسوف العلم النمساوي الكبير فيير آبند بول قد استطاع كشف خروقات العقلانية والتجريبية في فكر غالليلو نفسه الذي طبع العلم الحديث كله بطابعه (الفلسفة والعلم في العصر الكلاسيكي، ص102)، كذلك فإن ديكارت وكما قرأه كثيرون يصعب تجاهل التأثير الكاثوليكي في فكره، كاثوليكية إصلاحية كان هدفها مقاومة انتشار اللوثرية بإصلاح من داخل الكنيسة تلقاها ديكارت في مدارس اليسوعيين، مما يمكننا من اعتبار ديكارت ذاته أحد أوجه الإصلاح الكاثوليكي، لذا يحمل خطابه توترا كبيرا بين عالم الكاثوليكية وعالم الميكانيكية.بل إننا حتى لو اقتصرنا على البروتستانتية، فإن اعتبارها فحسب تخلصا من أسرار الكنيسة وطقس الاعتراف وبلورة دين أقرب لديانات العقل الطبيعي، يعد اختزالا شديدا لها، فالتقوية والزهد ونشأة القلق الروحي الشديد هي نتاجات إصلاحية بروتستانتية كذلك، بل كما سيأتي فإن الصلة بين البروتستانتية والفلسفات الوجودية -برفضها التام للعقلنة الغربية- لا يمكن نكرانه، كيف وكريكجارد البورتستانتي هو رأس فلسفات الوجود الأهم على الإطلاق، فلو أن ثمة علاقة بين الدين الطبيعي وبين إصلاحات لوثر فهذا لا يعني أبدا أنها نتاجه الوحيد، فليس كل بروتستانتية كانطية بالضرورة.إذن فهذه الرؤية التي تتصور أن الدين قد أصبح له شكلا محددا في الفكر الغربي يدعم توجهات العقلانية الحديثة دون أي جدل بينهم، هي رؤية تضيع كل التفاصيل وتقضي تماما على التمايزات وتهدر التطور الروحي واللاهوتي الكبير والمتغاير الذي حدث للمسيحية من لحظة بدايات عصر النهضة الأوروبي، كما تهدر تلك النسخ الكثيرة والطرق المتعرجة لصياغة وحل مشكلات الدين والعلم، الدين والمجال العام، فردية الدين واجتماعيته، والتي لم تتوقف يوما عن الظهور.إن هذا الجدل المستمر حول موضوع الإيمان هو جزء رئيس لا يمكن محوه من أي دين ومن أي حضارة في أي من أطوارها، بل دعنا نقول من أي وجود بشري تتنازعه بحكم طبيعته عوالم القداسة والعادية، ودخول الغرب في الأزمنة الحديثة لم يلغ هذا الجدل، بالعكس فقد أشعله! يقول كازانوفا في كتابه سالف الذكر «فبوسعنا أن نجزم يقينا بأن الادعاء الذي يعتبر الأوروبيين قبل الحداثة أكثر تدينا منهم في العصر الحديث يتكشف تدريجا عن كونه إدعاء بحاجة لإثبات» ص31.لذا فإن غرضنا هنا هو محاولة التعرض لأحد المنسيات في قرائتنا للفكر الغربي، بتناول بعض أفكار أحد أهم أقطاب الإصلاح الروحي في المسيحية وهو البروتستانتي بول تيليش، علها تكون مدخلا خجولا للاحتفاء بهذا الفيلسوف الذي قدم نسخة خاصة جدا –حتى داخل اللوثرية- من الصياغات لوضع ومكانة الدين في العصر الحديث ولمعنى الإيمان وعلاقة الحقيقة الدينية بالحقيقة العلمية والفلسفية، تتميز بأنها نسخة كتبت لا من المركز ولا من الهامش، لا من اللاهوت ولا من الفلسفة، لا من الحقيقة الدينية ولا من الحقيقة العلمية، لا من المثالية ولا ومن التجريبية، لا من المسيحية ولا من نقدها، لا عن مقدس الوجود ولا عن مقدس الوجوب، بل نسخة يصح عليها هذا الوصف الذي ذكره عن أفكاره ومواقفه في أحد كتبه، نسخة كتبت «من على التخوم» تخوم كل هذه المتقابلات!سنحاول الدخول لعالم هذا الألماني من خلال أحد أهم أفكاره وهي فكرته عن «الإيمان كشجاعة»، محاولين أن نستخدم هذه الفكرة كمصباح يضيء لنا معظم زوايا عمله، أو تخومه!


الإيمان كشجاعة

يرى شبستري أن اللاهوت الذي ينتمي إليه تيليش والذي تمتد جذوره إلى شلايماخر هو لاهوت يعتمد على ركيزة التجربة الدينية تجربة المتعالي واللامتناهي، لذا فطبيعي جدا أن يحتل مفهوم «الإيمان» وفعاليات هذه التجربة أهمية كبيرة داخل عمل تيليش، بل إن تيليش قد خصص له كتابه «فعاليات الإيمان» والذي طمح فيه لإعادة تأويل هذه الكلمة الذي صارت في رأيه عرضة للتشويه والتحمل بحمولات زائفة، «إنها تحتاج لمداوة قبل أن تستخدم في مداواة الناس»، إعادة تأويل هدفها فصل «الإيمان» عن تلك المعانى الزائفة وبحث فعالياته وأنماطه ورموزه وحقيقته التي تختلف عن الحقائق الأخرى «الفلسفية» و «العلمية» و «التاريخية»، ومبدئيا علينا التنبه لكون هذه المحاولة من تيليش للبحث عن معنى حقيقي للإيمان لا تشبه تلك المحاولات التي ينتقدها بورديو عند بعض الفلاسفة والفيلولوجيين، حيث يتم تصور أن ثمة معنى حقيقي في الكلمات شوهه الناس في تجربتهم التاريخية حيث “جهل وضلال العامي هو المسؤل عن استحضار معاني آثمة ومبتذلة للكلمة” مما يحتم على الخبير استبعاد هذه المعاني للوصول للمعنى الحقيقي الخفي (الإنطولوجي السياسية عند هيدجر، ص147)، ما يعنيه تيليش ليس كذلك، فتيليش يحاول الوصول للمعنى الحقيقي للإيمان عبر تحليل وجودي لوقائع تجربة الإيمان نفسها، وما يعتبره زائفا ليس سوى استخدام كلمة الإيمان في صراعات فكرية وثقافية تتنكر لهذا المعنى الذي تكشفه الوقائع بوضوح لتخلطه بمعان أخرى كالإنفعال وكالإرادة أو كالإعتقاد، كفيلسوف وجودي يعتبر تيليش تعريفات الإيمان زائفة طالما أنها تعرفها بما هو خارجها أو بما هو أحد أجزاءها فحسب، طالما أنها لا تستطيع معايشة التجربة الإيمانية «هنا والآن» بكليتها دون تجزئة، والتموج مع جدلها الداخلي والانتباه للفعاليات المُشكِّلة لها. ومن أهم هذه الفعاليات التي اعتبرها تيليش مُشكِّلة للإيمان ومرتبطة جوهريا به ومحددة له هي «الشجاعة»، فلأن تيليش يرى أن تجربة الإيمان هي تجربة الإنشغال بهمّ إلى الحد أقصى، تجربة تتم لا بالعقل ولا بالانفعال ولا بالإرادة وحدها، بل بمركز للشخصية «فالإيمان هو فعل الشخصية الشاملة» (بواعث الإيمان، ص10) «فعل انجذاب، يتعالى على دوافع اللاشعور اللاعقلي وبنى الشعور العقلي. يتعالى عنها، لكنه لا يدكرها» (نفسه، ص13)، فإنه يؤكد على ما في تجربة كهذه من مخاطرة كبيرة تشكل رديفا لها، مخاطرة التعلق بموضوع لا يصلح موضعا لحد أقصى، وهذا الأمر ليس قليلا في تاريخ البشرية الطويل، بل كما يقول تيليش “إن تاريخ الدين هو تاريخ الصراع مع موضوعات الهم الأقصى الزائفة”، ووفقا ليتيلش ليست الوثنية سوى هذا التعلق بهم غير أقصى والإشغال به إلى أقصى حد، فالوثني مؤمن يعايش كل جنبات هذه التجربة بـ«إيمانه الذاتي» لكنه يعلق همه الأقصى على ما لا يستحق أن يكون «موضوعا له»، كذلك يفعل من يختار الأمة أو النجاح كموضوعات لهمه الأقصى، وليس شعور الخيبة الذي يمنى به هؤلاء إلا ناتجا طبيعيا عن كون هذه الموضوعات التي اختاروها لتجربة همهم ليست موضوعات صالحة لتكون تجربة هم أقصى، لذا فإنها تفشل في تحقيق ما يسميه تيليش بـ «الوعد الأقصى»، فما يحققه التعلق بهذه الموضوعات ليس إلا وعود تخايل فحسب بأنها وعود أقصى لكنها لا تصلح إلا لتحقيق وعود أقل.ويرتبط بفكرة تيليش هذه عن «الشجاعة» والمخاطرة التي ينطوي عليها فعل الإيمان، عدد آخر من الأفكار، منها فكرته عن ارتباط «الشك» جذريا بالإيمان، أي اعتبار «الشك» مكونا رئيسا في معنى الإيمان ذاته لا نقيضا له، وتيليش هنا لا يتحدث عن الشك المنهجي حيث الإيمان ليس مجرد فعل للمعرفة كما قلنا، والأهم أنه لا يتحدث عن الشك الذي هو شك في «موضوع الإيمان»، بل ما يتحدث عنه تيليش هو شك وجودي، شك ينتج من الإيمان كمخاطرة ويصاحبه طالما هو كذلك، فهو شك لا يمكن أن يتوقف أو يُلغى أو يُرفع، شك نابع من عدم وجود موضوعا للإيمان يصلح كموضوع أخير للهم الأقصى، فكل الأديان لها «رموز» تمثل موضوعا لهمها الأقصى والأخير، لكن تيليش يصر على كون هذا الرمز هو دوما غير قادر على استيعاب ما يشير إليه، مما يجعله دوما رمزا لا يمكن الاطمئنان إليه، ولا يمكن الإيمان به إلا مع الشك فيه، واستحضار تجربة النفي فيه إلى جانب الإثبات، فنحن لا نستطيع وفقا لتيليش الإيمان سوى برمز مصلوب، أي مثبت ومنفي في آن، نحن لا نؤمن إلا على هذه التخوم بين الإثبات والنفي، في هذا الإطار يقرأ تيليش حادثة صلب المسيح، بإعتبارها نفي المسيحية لرمزها الخاص تأكيدا لعدم كفاية الرمز لاستعاب ما يرمز إليه أي الله كغاية قصوي! وهنا علينا أن نؤكد نقطة هامة وهي أن تيليش لا يسوي بين موضوعات الإيمان أي محتوى «الإيمان الموضوعي» الذي يفرق بين الأديان وبعضها، فحتى خارج التوثين ثمة موضوعات أنسب أن تكون موضوعات للهم الأقصى، ثمة أديان أقدر على تمثيل تجربة الإيمان كتجربة مخاطرة وهي تلك التي تمتلك «رموزا منفية» تؤكد على عدم الكفاية وعدم القدرة على استعياب الله كهم أقصى، لذا فوفقا له فالمسيحية هي الأقدر لانطوائها على «رمز الصلب» الذي يؤدي هذه المهمة.لكن ظننا أن الأمر أوسع بكثير، فالتوحيدية كلها تنطوي على فكرة «النفي» كفكرة رئيسة في إيمانها وهذا لأن التوحيدية تتحدد في مقابلة التعلق بالمنجز والنهائي والزائل، لذا فإنها لا تقبل أن تتحول حتى رموزها الخاصة لرموز مكتفية ونهائية وإلا سقطت في الوثنية مرة أخرى، لذا فظننا أن النفي الذي تتضمنه الشهادة الإسلامية هو نفي دائم، بمعنى أنه إعلان عن عدم اكتفاء أي تصور بتمثيل الحقيقة القصوى، ولعل هذا واضح في فكر بعض الفرق الإسلامية التي انتهت في تصورها لله بنوع من اللاهوت السلبي صيانة لهذه الحقيقة من أي حصر لا يليق بها في أي رمز منتزع من حياة البشر: القدرة، القوة، الكلام.لكن ورغم إصرار تيليش على فكرة عدم كفاية أي “رمز” بتمثيل الحقيقة القصوى، ورفضه حتى وصف الله بالوجود، حيث يعتبر في فكرة تذكرنا بولتر ستيس أن عالم الحقيقة القصوى هو عالم الأزل الذي لا تصلح له اعتبارات عالم الزمان يقول تيليش “وجود الله يظل تأليفا مستحيلا بين الكلمات”ص57، إلا أنه ومثل ستيس أيضا يرى أن وجود الرموز ضرورة داخل كل دين، وأن الرمز الديني بمعناه الأشمل لا يمكن الاستغناء عنه، فالرمز أساسي في نسق ديني يجسد تجربة لمعاناة الآخر تماما بتعتبير يستعيره تيليش من أوتو.وظننا أن ما يقوله الفاروقي في «كتاب التوحيد»(1) عن أن حديث تيليش عن كون الله مفارق و متعالي لا يمكن أن يُعرف إلا إذا تجسد في شيء طبيعي أو تاريخي، داخلا في سياق “التزام المسيحيين بمقولة ألوهية غير متعالية” لا يعد دقيقا، فنقاش تيليش في هذه النقطة هو نقاش عن هذا الجدل بين ألوهة هي بطبعها قصوى و إيمان غير ممكن دون رمز و إن كان غير كاف، و هذا جدل لم يخل منه أي دين، و ليس خلاف فرق المسلمن حول إمكان وصف الله أو عدم إمكانه إلا وجه من وجوه هذا الجدل المشكل لكل دين.وموقف تيليش هذا من الرمز يتضح بصورة أكبر في موقفه من “القصص الديني”، التاريخي مثل خروج اليهود من مصر والمجيء الثاني للمسيح أو الطبيعي مثل عمر الأرض أو الشمس أو حادث الطوفان، فتيليش يعتبر هذا القصص قصصا أسطوريا، لكن ليس بمعنى أنه قصص خرافي لابد من الاستغناء عنه أمام حقائق العلم، فالحقيقة الدينية لها منطقها الخاص، لذا فهو فحسب يغير معنى الإيمان بهذا القصص فيقول: «وليس الإيمان هو تصديق هذه القصص، بل القبول بالرموز التي تعبر عن همنا الأقصى من خلال الأفعال الإلهية»، إذن فتيليش وبدلا من الدعوة إلى التخلص من الأسطورة التي ينادي به العلماء أو حتى اللاهوتيين الليبراللين الراغبين في علمنة المسيحية مثل بولتمان، يدعوا هو إلى تهشيمها فيما يسميه بـ «الأسطورة المهشمة»، أي الإيمان بها لكن لا كحقيقية تاريخية أو طبيعية بل كرموز مرتبطة جوهريا بالدين و بحقيقة الإيمان، فهذا القصص الأسطوري «تأليف رموز همنا الأقصى».ومهم لنا أن ندرك أنه لا ينادي بهذا «التهشيم» للأسطورة خوفا من قطار العلم الحديث أو رغبة في تقديم تنازل له، بل ينادي بهذا انطلاقا من فكرته عن عدم كفاية الرمز المرتبطة بأفكاره عن الشك و شجاعة الإيمان، «فالإيمان حين يأخذ رموزه حرفيا يتحول إلى وثنية» ص63.إذن ففكرة الشجاعة عند تيليش هي الأساس في أفكاره عن «الشك» و «تهشيم الأسطورة» وعن الدعوة إلى «الشك جماعيا» أي قبول الجماعة لعدم نهائية رموزها ولكون الشك تجربة لا تضاد الإيمان بل تصاحبه مما يفسح المجال لتدينات فردية لا تكسر المجموعة ويؤمن للأفراد مجموعة من الرموز تكون بداية لإيمانهم لا نهاية له، لذا فالشجاعة عند تيليش هي دوما شجاعة الوقوف على التخوم.


الوجودية كفلسفة دينية

لكن هذا المفهوم المركزي في فكر تيليش «مفهوم الشجاعة» والذي يشي بارتباطات واضحة بالفلسفة الوجودية، هل هو مفهوم توصل له «تيليش» من خلال تحليل وقائع الإيمان بإعتباره فعالية له، أم إنه وبالعكس مفهوم وجودي استخدمه هذا اللاهوتي الألماني لفهم التجربة الدينية؟لو كان هذا الأخير فلنا أن نسأل عن مدى فعالية مفهوم كهذا ومدى شرعية نقل الفكرة من مجال الفلسفة للدين.في الحقيقة إجابة السؤال لا تكمن في أحد شقيه، هذا لأن تيليش لا يفرق الدين والفلسفة الوجودية ولا يضع بينهما متاريسا، بل وكما تقول يمنى الخولي في «الوجودية الدينية(2) «إن القيليين هم من كانوا يصفون أنفسهم بالوجوديين، ومنهم تيليش» (ص19)، هذا لأن الفلسفة الوجودية عند تيليش هي دينية دوما و إن كانت ملحدة، هذا لأن الفلسفة الوجودية هي فلسفة اكتشاف الحدود، و هو أمر ديني بإمتياز، فالإيمان البروتستانتي وفقا ليتيلش هو «إيمان وقائعي»، أي إيمان يدرك تماما الهوة بين الله و الإنسان ويدرك حدود هذا الأخير، هذه الفكرة عن «وقائعية الإيمان» هي التي تجعل تيليش شديد الاحتفاء بالفلسفة الوجودية كفلسفة حدود أو فلسفة “الخضوع لله» (على التخوم، ص43) و كذلك بالماركسية والداروينية والفرويدية لا كإيدلوجيات ولكن كاكتشافات لهذه الحدود أو «منهج لكشف المستويات الخفية للواقع» تسهل «عرض الوضع الحق للإنسان» (على التخوم، ص67)(3). لذا فيصعب هنا تماما القول أن الوجودية فُرِضَت على بروتستانتية تيليش أو أن وجودية تيليش قد تدينت، إن بول تيليش وكما قال عن نفسه، يقف دوما على التخوم!في النهاية علينا أن نقول أننا لم نفعل هنا سوى إلقاء ضوء بسيط للغاية على فلسفة شديدة التركيب والاتساع، بتحركها بين تخوم اللاهوت والفلسفة، الكنيسة والمجتمع، الواقع والمثال، وبدخولها في جدل طويل مع نظرات لاهوتية أخرى ونسخ لوثرية عديدة مثل نظرة كارث بارث ولاهوتيي جامعة «هوله» واللاهوتيين الليبراللين، لكننا نتمنى أن يكون هذا الضوء البسيط للغاية بداية ولو صغيرة للفت النظر لهذا المفكر الكبير والهام.إن رغبتنا في سحب تيليش لبساط نقاشاتنا عن الدين، أو سحب نقاشاتنا لبساطه، هي نوع من “الهجرة الروحية” التي يتحدث عنها تيليش ويعتبرها المعنى الأعمق للتوحيد، المعنى الكامن في هجرة إبراهيم لأرض غريبة، حيث يفقد هناك صلته بكل مألوف، ليلتقي إلها لا ينتمي لمحل، نحن أيضا نحاول بدخول فكر تيليش أن نهاجر لأرض غريبة، ونقطع الصلة بمألوفنا في النظر للفكر الغربي أو للدين، لنقف بعد هذا على التخوم، حيث “التخوم أو الحدود هي خير موضع لاكتساب المعرفة” (الموقف الديني)، حيث لا إيمان إلا على التخوم!


(1) لابد من الإشارة لكون أحد أهم مميزات كتاب الفاروقي هو دخوله في جدل مع مستمر مع أفكار تيليش وبارت وغيرهم من أكبر لاوهيتي أوروبا، مما يميز كتابه عن الكتب التي اعتادت رسم تصورها للتوحيد الإسلامي في مواجهة العقلانيات الغربية المثالية والمادية فحسب.(2) كتاب يمنى الخولي عن تيليش والوجودية الدينية فيه تناول جيد جدا لعدد من أقطاب الوجودية الدينية وليس تيليش وحده، وهو ما يعطي الكتاب أهمية وجدة، وقد تناولت أوجها عديدة لفكر تيليش وركّزت على أفكاره الوجودية عن الزمان وعن القلق وأنماطه الثلاثة التي تناولها في كتابه «الشجاعة من أجل الوجود».(3) كتاب «على التخوم» ترجمه مجاهد عبد المنعم مجاهد بعنوان آخر: «جدل الدين والفلسفة»، وكتاب «بواعث الإيمان» الذي استخدمناه هنا هو ترجمة سعيد الغانمي لكتاب تيليش الذي ترجمه مجاهد بعنوان آخر ربما أكثر دقة، هو «فعاليات الإيمان».