سيدي، لا أعلم بالطبع إلا أنني متأكد من أنك سوف تقوم بجمع الضرائب على تطبيقاتها في غضون ثلاثين عاما[1]

هكذا كان رد «مايكل فاراداي» عندما سأله رئيس الوزراء البريطاني عن فائدة فهم الكهرباء والمغناطيسية. كان فاراداي ليسعد كثيرا إذا أتته فرصة زيارة زمننا الحالي وإلقاء نظرة على عالم يعيش على الكهرباء التي لم تصبح كالماء والهواء فقط، بل فاقتهما في القيمة المادية.

يعتقد مؤرخو العلم والعلماء بأن «فاراداي» كان أعظم اكتشافات ديفي Davy على الإطلاق. هذا النابغة ذو العقل النشط واليد الماهرة الذي فضل أن يطلق عليه لقب «فيلسوف تجريبي Experimental philosopher» بدلا من فيزيائي أو كيميائي، والذي رفض الفصل بين الفيزياء والكيمياء من الأصل. نحتفى اليوم بذكرى مولد مايكل فاراداي. العصامي الأشهر في العلم.


صنعة مفيدة

ولد فاراداي في بريطانيا عام 1791 لعائلة يعولها أبوه الحداد. ولضيق ذات اليد اضطر الصغير لإيقاف تعليمه الابتدائي والعمل كمساعد في حانوت كتب، حيث قام بتجميع أوراق الكتب ونسخها. ولأن الذهن المتقد يستغل أي مصادر متاحة له، فقد نهل الصغير مايكل من الكتب التي أتيحت له، فكان يقرأها بجانب عمله عليها بعد إذن صاحب العمل.

هكذا تعرف فاراداي على الموسوعة البريطانية Encyclopedia Britannica، ولكن الأهم أنه تعرف على كتاب جين مارسيت Jane Marcet المكتوب بهدف تقديم معرفة أساسية بالكيمياء للسيدات آنذاك، والمعنون «محادثات حول الكيمياء Conversations on chemistry».

بمجرد قراءة الكتاب قرر فاراداي أن العلم هو طريقه وأن الكيمياء هي الدرب الذي سيسلكه وأن التجربة ستكون منهاجه. كبر فاراداي ليصبح أحد أهم تجريبيي عصره وكل عصر.

في عام 1812 تلقى فاراداي هدية من أحد الزبائن – مستر دانس- على شكل تذكرة لحضور محاضرات ديفي في المعهد الملكي البريطاني The Royal Institution. تلك التجربة التي أخذها فاراداي على محمل الجد ودون كل ملاحظاتها كموثق ماهر. جمع فاراداي نص حديث ديفي وملاحظاته في ديوان كبير قارب 400 صفحة وبعث به إلى ديفي راجيا منه منحه وظيفة كمساعد. في العام التالي تحقق المراد وبدأ المساعد المجتهد العمل في مختبر ديفي[2].


التطور الطبيعي لعالم

أثناء تجواله في أنحاء أوروبا اصطحب ديفي مساعده الأثير هنا وهناك تحت الاسم الصوري «خادم»، إلا أنه ما إن عاد إلى أرض الوطن حتى أصبحت له مكانته الخاصة في المعهد، ليس فقط كمساعد، بل كمحاضر أيضا ومعلم. في خلال سنة بدأ فاراداي بنشر أبحاثه الخاصة تحت إشراف ديفي.

عاش فاراداي الجزء الأكبر من حياته يعمل كساعد أيمن لمرؤوسيه ناهلا من علمهم متواضعا لمعرفتهم لتتلاقي هذه المعارف في ذهنه صانعة منه المعلم الأكثر سلاسة فيما بعد

بدأ فاراداي مسيرة الباحث العلمي الجاد ذي المكانة المرموقة فخورا بخلفيته المتواضعة وبتأهيله العلمي الذاتي العصامي وبتلمذته على يد ديفي. لقد استطاع فاراداي بالذهن التواق للمعرفة واليد الثابتة صنع طريقه الخاص حتى أصبح أستاذا للكيمياء عام 1933. لقد عاش فاراداي الجزء الأكبر من حياته يعمل كساعد أيمن لمرؤوسيه ناهلا من علمهم متواضعا لمعرفتهم لتتلاقي هذه المعارف في ذهنه صانعة منه العالم الأجل والمعلم الأكثر سلاسة فيما بعد. هذا دون أن يفقد تواضعه قط. كان فاراداي رجل أخلاق من الطراز الأول.

بدأت مرحلة النضج البحثي في حياة فاراداي بالكربون والكلور، حيث استطاع اكتشاف وتحضير أول مركبين منهما. يلي هذا العديد والعديد من الاكتشافات التي كان معظمها تجريبيا كطريقة إسالة الكثير من الغازات أو طرق فصل مكونات البترول.

هذا الاستقصاء الأخير هو ما قاده لاكتشاف «ثنائي كاربيوريت الهيدروجين» والمعروف الآن باسم البنزين[3].


دستور كهربائي

كان لفاراداي اهتمام عميق بالكهرباء وسلوكها. مثلت أبحاثه وتجاربه المتعلقة بتأثير الكهرباء على التفاعلات الكيمياء حجر الأساس لعلم الكيمياء الكهربية Electrochemistry الذي يعتبر أباها الروحي ومرجعها الأعظم. لم يكن فاراداي يهتم كثيرا بالصياغة الرياضية لأعماله ولم تكن تشغله القوانين الرياضية المعقدة، لكن في المقابل استطاع رفع دقة قياساته مئات الأضعاف. هكذا تمكن فاراداي من التوصل للقوانين التي ستضع اسمه في قائمة أهم علماء التاريخ.. نتحدث هنا عن قوانين فاراداي.

انصب اهتمام فاراداي على مراقبة تأثير التيار الكهربي على المحاليل. هل هناك علاقة بين التيار وبين المواد الذائبة أو المترسبة من المحلول عند مرور التيار فيه؟ هل تختلف درجة الذوبان باختلاف قيمة التيار واختلاف المادة؟ كلها أسئلة ستمثل إجاباتها قاعدة أساسية لقيام الصناعات الكيماوية فيما بعد، ولتوفر لنا منتجات لا غنى لنا عنها اليوم.

بعد الملاحظة المستمرة والتجريب الدقيق وجد فاراداي أن كمية تحلل المواد في المحاليل تزداد بشكل طردي مع كمية الكهرباء السارية في المحلول. كان هذا هو القانون الأول(4) من قوانين فاراداي، والتي تقدم لنا لأول مرة فكرة التحلل الكهربي Electrolysis.

ذهب فاراداي في تفسيره للحدث إلى أن الكهرباء تسري في المحلول لتقوم بشق المادة إلى شقوق تسمى أيونات Ion، وهي كلمة وضعها فاراداي واستلهمها من الكلمة اللاتينية التي تعني المتجول Wanderer. استمر فاراداي في رسم مخطط نظريته الجديدة ليخبرنا أن هذه الأيونات المشحونة تتجول بين الأقطاب الموجبة والسالبة التي أطلق عليها Electrodes ثم قسم هذه الأخيرة أيضا –بتوجيه من ويليام ويويل- إلى أنود وكاثود.

هكذا أصبح الأيون السالب يدعى أن-أيون أو أنيون Anion، والموجب كاث-أيون أو كاتيون Cation.


ختام الرحلة

لم يكن فاراداي يهتم كثيرا بالصياغة الرياضية لأعماله ولم تكن تشغله القوانين الرياضية المعقدة، لكن في المقابل استطاع رفع دقة قياساته مئات الأضعاف

مزيد من الاختبارات أعطت فاراداي الأساس التجريبي لقانونه الثاني. نص هذا القانون على أن كميات أو كتل المواد المترسبة من محلول عند مرور تيار كهربي فيه تتناسب طرديا مع أوزانها المكافئة. يعني هذا أنه إذا مر تيار في محلول يحتوي على خمسة مركبات مختلفة الأوزان المكافئة فإن كمية ترسيب كل منها ستتناسب طرديا مع وزنها المكافئ [4].

رغم هذه التطورات التي ظهرت على السطح بفضله لم يكن فاراداي من داعمي نظرية الذرات، ولم يصدق بوجودها. كان البديل بالنسبة له لتفسير سلوك المواد الكهربي هو نظرية بوسكوفيتش Boscovich الذي جعل من الذرات مجرد مراكز لمجالات كهربية صغيرة تخضع لقانون التربيع العكسي النيوتيني [2].

أسس فاراداي محاضرات موجهة لصغار السن عرفت بمحاضرات رأس السنة ومازالت تعطى حتى الآن كل عام

حتى وفاته كانت محاضرات فاراداي من أكثر المحاضرات شهرة وحضورا. لم تكن هذه المحاضرات موجهة للمختصين فقط، بل إنه قام بتأسيس وإلقاء سلسلة من المحاضرات موجهة لصغار السن والأطفال عرفت بمحاضرات رأس السنة Christmas lectures والتي مازالت تعطى حتى الآن كل عام[5].

هكذا استطاع فاراداي أن يؤسس علما جديدا معتمدا على ملاحظاته وقدراته على التصميم واجتهاده فقط، وهكذا آتت المثابرة ثمارها. لقد كانت نصيحة فاراداي لويليام كروكس بسيطة للغاية: «اعمل، أنه عملك، انشر». كانت تلك هي طريقة عمل فاراداي دائما; المنهجية والنظام والتسلسل المنطقي.

بذلك وضع فاراداي نفسه في مصاف أوائل ناشري العلوم للعامة في تاريخ العلم الحديث. توفي فاراداي بعد فترة تفرغ تام للأبحاث وانقطاع عن التدريس والمحاضرة في منزل أهدته له الملكة فكتوريا نفسها تاركا تراثا عظيما من التجريب والمعرفة التي ما زال صداها يتردد في حياتنا اليومية حتى هذا اليوم، ممتدا نحو المستقبل.

المراجع
  1. Electrochemistry: The basics with Examples-Lefrou, fabry and poignet. page: 5
  2. J. R. Partington-A History of Chemistry. Vol 4. Page 99
  3. Noretta Koertge: New Dictionary of Scientific Biography Dictionary of Scientific Biography 2007. Page: 965
  4. Bagotsky: Fundamentals of electrochemistry 2nd Edition. Page 15
  5. John Hudson: History of chemistry. Page: 99