إن النظام العالمي الحديث باعتباره منظومة تاريخية لها بداية وتطور ونهاية، قد دخل أزمة النهاية، وليس من المحتمل أن يمتد وجوده إلى أكثر من خمسين عامًا مقبلة. وحيث يتعذر علينا التنبؤ، فإننا لا نعرف مسبقًا ما إذا كانت المنظومة أو المنظومات المحتملة، والناتجة والتي ستكون أفضل أم أسوأ، بيد أننا  نعرف عن يقين أن فترة الانتقال ستكون فترة مشكلات عصبية.
إيمانويل فالرشتاين، نهاية العالم الذي نعرفه

عن عمر يناهز 89 عامًا، توفي عالم الاجتماع والمؤرخ الأمريكي الشهير «إيمانويل فالرشتاين – Immanuel Wallerstein»، في 31 أغسطس/آب الماضي.

فالرشتاين آخر رجال المجموعة الأكاديمية المعروفة باسم «عصابة الأربعة»، التي كانت تتكون من المفكر و الاقتصادي المصري سمير أمين، والمفكر الإيطالي جيوفاني أريجي، والمؤرخ وعالم الاجتماع والاقتصاد الأمريكي من أصل ألماني أندري جوندر فرانك.

ولد فالرشتاين في مدينة نيويورك عام 1930 وتلقى تعليمه الجامعي في جامعة كولومبيا الأمريكية العريقة، ومنها حصل على درجة الدكتوراه، وبدأ منها مسيرته الأكاديمية الحافلة كأستاذ جامعي فيها، ثم في جامعة ييل وأخيرًا في جامعة بنغهامتون في نيويورك.

أسس فالرشتاين وزملاؤه في مجموعة الأربعة نظرية المنظومات العالمية، التي تعتبر دراسة تطور الأنظمة الاجتماعية في مجتمع بمفرده غير كافية لفهم الاجتماع البشري والعلاقات الدولية، وهي نظرية من أكثر النظريات الاجتماعية جديًة وعمقًا في القرن الماضي، فهي لا تفسر لنا فقط حقائق عن الاقتصاد والنظم الاجتماعية في العالم، ولكن تفسر لنا كذلك حقيقة النظام الدولي المعاصر.

لفالرشتاين في هذا السياق العديد من المؤلفات الهامة ومنها: النظام العالمي الحديث (The Modern World-System)، وكتاب تحليل النظم الدولية (World-Systems Analysis : Theory and Methodology).

حقيقة النظام الدولي المعاصر

يؤكد فالرشتاين في العديد من مؤلفاته أن النظام العالمي القائم اليوم يعود بجذوره إلى القرن السادس عشر في أوروبا، وتوسع مع مرور الزمن ليمتد إلى الأمريكتين حتى شمل في النهاية جميع أنحاء المعمورة، النظام الذي يتحدث عنه فالرشتاين هو الآن كما كان على الدوام هو نظام اقتصادي عالمي رأسمالي، كما يشرح باستفاضة ماذا يقصد بكونه اقتصادًا عالميًا، ورأسماليًا، موضحًا حدوده التاريخية وجذوره وجغرافيته وتطوره الزمني[1].

يقصد فالرشتاين بالاقتصاد العالمي، ذلك المجال الجغرافي الكبير الذي يسود فيه نظام تقسيم العمل، وينتج عنه التبادل التجاري وحركة رؤوس الأموال والأيدي العاملة بين الوحدات السياسية المتعددة لهذا النظام بثقافتها وأديانها المتعددة. نفهم هنا من خلال حديث فالرشتاين أنه رغم عدم تمتع ذلك النظام العالمي ببنية سياسية موحدة فإنه يتمتع بجوهر اقتصادي واحد يمثل قلب هذا النظام ونواة تشكله.

يحدد فالرشتاين هدف هذا النظام بمفهوم بسيط وسهل الاستيعاب ألا وهو هدف التراكم اللانهائي لرأس المال، أي أن الناس والشركات في هذا النظام لا يراكمون الأرباح المالية إلا بهدف تحقيق المزيد من المال في عملية متواصلة لا نهاية لها، وهو نظام يتمتع بآليات بنيوية تضع العراقيل أمام الذين يعملون بدوافع أخرى، تصل إلى عزلهم ليس فقط من العملية الاقتصادية ولكن من المشهد الاجتماعي أيضًا.

يتكون هذا النظام العالمي الرأسمالي من مجموعة من المؤسسات المتعددة، عندما نجمع بينها سنفهم كيفية سير عملياتها المتشابكة بعضها البعض، وتلك المؤسسات هي : الأسواق، الشركات التي تنافس في الأسواق، الدول المتعددة، التي تعمل ضمن نظام دولي، العائلات الثرية الكبرى، الهرم الطبقي الاجتماعي، ويضيف إليها فالرشتاين أخيرًا بتأثير من خلفيته الماركسية، الهويات الثقافية.

لا تتمتع الأسواق داخل هذا النظام في الحقيقة بالحرية الكاملة، سواء كنا نتحدث عن انسياب مختلف العناصر فيها من رؤوس الأموال أو العمالة أو تدفق المعلومات، حيث سيؤدي هذا إلى وجود أعداد كبيرة جدًا من المشترين و أعداد  كبيرة من البائعين، مما سيؤدي بنهاية المطاف إلى خفض هامش الربح بسبب المنافسة العالية في تلك السوق المثالية، وهو ما لا يحدث في الواقع بسبب وجود الدول التي يؤدي تدخلها إلى خلق الاحتكارات الكبرى والعمليات شبه الاحتكارية.

تنطوي نظرية فالرشتاين عن النظام الدولي على عدد من المسلمات الرئيسية التي تختصر لنا فهم بنية ذلك النظام من أبرزها:

1. يتكون النظام العالمي من ثلاثة نطاقات أساسية ألا وهي: المركز، المحيط، شبه المحيط. المركز هنا هو المكان الذي يتراكم فيه رأس المال، ودول المحيط أو الهامش هي البلدان المصدرة للمواد الخام التي تشكل في ذات الوقت أسواقًا للفائض السلعي من المركز، وشبه المحيط هنا هو الدول التي تقع في منزلة وسيطة بين الدول الفقيرة والدول الثرية وتحمل اقتصاديتها ومجتمعاتها ملامح من بلدان كلا النطاقين، مثل جنوب أفريقيا والبرازيل.

2. تنطوي العلاقة بين دول المركز ودول المحيط على علاقات تبادل غير متكافئة، وعلى قمع خفي من دول النطاق الأول على دول الثاني.

3. التراكم اللامحدود لرأس المال يستلزم بدوره سلعنة كل شيء وإخضاعه للسوق والتبادل التجاري، في إطار توسيع مجالات المشاركة في التبادل الرأسمالي.

السلطة بين الماضي والحاضر

تعود أصول النظام الدولي السائد في الزمن الحديث كما يذهب فالرشتاين إلى تطور دبلوماسية عصر النهضة في شبه الجزيرة الإيطالية كما، وتشكلت ملامحه المؤسسية من خلال صلح ويستفاليا في عام 1648 الذي وقع عليه معظم دول أوروبا، وعبر ذلك أو تلك المعاهدة تم إرساء قواعد محددة للتعامل بين الدول[2].

رغم أن حكام الأنظمة الملكية في القرن السابع عشر إبان تلك المعاهدة أعلنوا أنفسهم في ذلك الوقت ملوكًا مطلقين، إلا أنهم من وجهة نظر فالرشتاين كانوا عمليًا يفتقرون إلى السلطة الحقيقة، حيث كانت سلطاتهم محدودة نسبيًا، ويضرب فالرشتاين في هذا الإطار مثالًا يستدعي التأمل من فرط ما يطرحه من مفارقات، وهو أنه إذا ما قارنا السلطة الحقيقية (القدرة الحقيقية على اتخاذ القرارات) التي حازها لويس الرابع عشر، ملك فرنسا الذي تولى الحكم بين 1661 – 1715، والذي يعد في العادة رمزًا للسلطة المستبدة، مقابل على سبيل المثال سلطة رئيس الوزراء في السويد في عام 2000م، سنرى أن الأخير تمتع بقدر أكبر من السلطات الحقيقية التي حازها لويس الرابع عشر في فرنسا في عام 1715.

يفسر فالرشتاين تلك المفارقة في أن الملوك المطلقين في أوروبا في أنهم لم يكونوا يمتلكون العوائد الضريبية الكافية للإنفاق على تأسيس الأنظمة البيروقراطية، ولذلك كانوا يلجئون إلى وسيلة بديلة ألا وهي بيع المناصب، وهو الأمر الذي جعل من سلطتهم على هؤلاء الموظفين البيروقراطيين أقل مقارنة من إذا ما تم تعيينهم مباشرة من الملك. ولهذا يسند فالرشتاين العنصر الأساسي في تأسيس هياكل الدول إلى امتلاك القدرة الفعالة على تحصيل الضرائب وليس فقط السلطة لفرضها.

مصير النظام الدولي الراهن

 بدا نجاح الولايات المتحدة في تسعينيات القرن العشرين استثنائيًا على صعد عدة كما يقول فالرشتاين في كتابه «انحسار القوة الأمريكية: الولايات المتحدة في عالم من الفوضى»، حيث تمتع الاقتصاد الأمريكي بأداء مذهل لسوق السهم، ونسبة بطالة منخفضة، ومعدل تضخم ضئيل، تصفية دين أمريكي حكومي ضخم مما أدى إلى تحقيق فائض كبير، الأمر الذي خلق حالة من التفاؤل الأمريكي بمستقبل واعد من المجد اللانهائي، وهو ما اتضح كما يقول فالرشتاين أنه لم يكن حلمًا بل وهمًا، وهو وهم خطير على حد تعبيره[3].

كان رخاء التسعينيات في الحقيقة ليس إلا مجرد فقاعة تم الحفاظ عليها اصطناعيًا، بينما تعود أسباب الانكماش في الاقتصاد العالمي إلى جذور أعمق ترجع إلى مرحل السبعينيات من القرن الماضي، وما حدث في هذه الفترة هو تحول في الخسائر بين المناطق الاقتصادية الثلاث الأقوى في العالم في النصف الثاني من القرن العشرين وهي: أوروبا الغربية، أمريكا، اليابان، ففي السبعينيات كان أداء أوروبا جيدًا، وفي الثمانينيات تفوقت اليايان، وفي التسعينيات ازدهر الاقتصاد الأمريكي، ولكن لم لم يكن الاقتصاد العالمي ككل بحالة جيدة في أي من تلك الفترات، وكانت المعاناة الاقتصادية في العالم هائلة، ونحن الآن في المرحلة الأخيرة من الحلزون الطويل المنحدر.

يعتقد فالرشتاين أن النظام الاقتصادي العالمي شأنه شأن أي نظام آخر، ينطوي على جملة تناقضات وعندما تصل هذه التناقضات حدًا معينًا يتحرك خلال المسار بعيدًا عن نقطة التوازن، يستحيل على النظام أن يعمل بصورة اعتيادية، ذلك أن النظام وقتًا يبدأ في التفرع والتشعب، وهي النقطة التي يعتقد فالرشتاين أننا بلغناها الآن[4].

هذه النقطة التاريخية التي نعيشها الآن تنخفض خلالها بحسب فالرشتاين القدرة على تكديس رؤوس الأموال من جهة، بينما تنخفض قوة الدولة من جهة أخري، للمرة الأولى من خمسة قرون، لا بسبب تعاظم قوة الشركات المتعددة الجنسيات كما يجري التأكيد في معظم الأحيان بل بسب تقلص الشرعية التي تمنحها الشعوب للدول، جراء فقدان الإيمان باحتمالات التحسن التدريجي في المستقبل، ونظرًا لانحطاط قوة الدول، تجد الشركات المتعددة الجنسيات نفسها في هذا السياق في صعوبات حادة لنها تواجه انكماش أرباحها للمرة الأولى على المدى البعيد، في الوقت الذي لا تعود الدول خلاله قادرة على إنقاذ تلك الشركات ماليًا ولوجستيًا.

ولهذا فإننا الآن في زمن المصاعب، مصاعب الانتقال التاريخي من نظام عالمي دام خمسة قرون إلى نظام آخر، مصاعب بوزن ثورات وحروب كبرى يمكن أن تندلع في أي وقت، هنا ليس بوسعنا التيقن من نوع النظام الذي سيخلف سابقه، فقط المعلوم علم اليقين في هذه اللحظة الراهنة كما يجزم فالرشتاين هو أن هذا النظام الغريب الذي نعيش فيه، قد وصل إلى مرحلة لن يستطيع بعدها الاستمرار في أداء مهامه بعد الآن.

المراجع
  1. تحليل النظم الدولية، إيمانويل وولرستين،ص43
  2.  المرجع نفسه ص 59
  3. انحسار القوة الأمريكية: الولايات المتحدة في عالم من الفوضى
  4.  نهاية العالم كما نعرفه: نحو علم اجتماعي للقرن الواحد والعشرين، إيمانويل فالرشتاين، ص 147