إذا كانت الموضة عابرة إلى هذا الحد فذلك لأنها متنافرة وغير جمالية، لدرجة أننا لا نستطيع التصالح معها إلا لبرهة قليلة. فالانكماش السوسيولوجي بلغ هنا حده الأعلى؛ فالوله يترجم تطلعاتنا للتقدير الاجتماعي فقط، وغالباً ما نحب الموضة لأنها تسمح بوضعنا في طبقة اجتماعية معينة وبمنحنا ماركة لاستغلالها تمايزيًا.[1]

ذلك كان جزءًا من تحليل ثورستاين فيبلن (1857- 1929) عالم الاقتصاد الأمريكي لتفسير ظاهرة مركبة وأكثر تعقيدًا مثل الموضة. فهي ليست تلك الظاهرة السطحية التي نشاهدها في عروض الأزياء أو المحالات التجارية. بل هي معترك نفسي واجتماعي وسياسي يخبئ في طياته الكثير من التعقيدات المكونة للمجتمعات.

بداية من القرون الوسطى وخصوصًا القرن الـ14، تحولت مسألة الزي من مجرد ساتر لجسد الفرد لساحة تنافسية طبقية يظهر فيها صراع الفرد مع ذاته وصراعه مع مجتمعه، مُحاولًا إظهار (الأنا) الذاتية وتوكيدها. وبذلك تحول المجتمع من ساحة تعايشية لساحة أشبه بالمسرح يحاول الفرد توكيد ذاته بما يمليه عليه الجمهور.

ظهرت الموضة في القرن الـ14 في طبقة النبلاء الارستقراطيين، وما كانت تلبث كثيرًا حتى تنتقل للطبقة الاجتماعية الأقل منهم. ومع نشوء طبقة جديدة من البرجوازيين؛ أصبح معترك الموضة يسير في دائرة مفرغة بين الارستقراطيين والبرجوازيين، الأمر الذي يدفع الارستقراطيين دائمًا نحو الابتكار كي يهربوا من التشابه الذي يسعى له البرجوازيون.[2]

بُنيت فلسفة الموضة على توكيد الفردانية لدى الإنسان فحولته من مجرد منتمٍ للمجموع، لفاعل يسعى دائمًا لتوكيد ذاته، وذلك عن طريق خلق ذوق خاص لديه. فكان لابد أن يظل منتميًا للمجموع، ولكنه في الوقت نفسه يشترط أن يكون له ذوقه الخاص، فتحولت الملابس ومساحيق التجميل أداة لتوكيد (الأنا) لدى الفرد.

وظل هذا المعترك دائرًا حتى حدث نوع من الانصهار الطبقي بين النبلاء والبرجوازيين. وكانت الموضة تتغير ولكن لم يتغير محتواها، فهي دائمًا ما تهتم بالتفاصيل الدقيقة، ولكنها في المجمل كانت ثابتة على قواعد محددة.

استمر ذلك حتى القرنين الـ18، 19، حيث أضحت الموضة جزءًا من هيكلة المجتمعات الحديثة، وصورة من صور تكوينها. وبما أن الموضة قائمة على منطق «الشطط والمبالغة والإفراط» فإن ذلك المنطق جعل المجتمع الحديث أكثر استعراضية.


ما بين تشكيل الآراء وقومية الموضة

أصبحت الصيحات هي مصدر القيمة المدنية، وعلامة الامتياز الاجتماعي.[3]

بما أن الموضة تسعى لتشكيل شخصية متفردة عن المجتمع ومنتمية له في الوقت ذاته؛ فإنها سعت لتغير تصوراته الذاتية عن مفهوم الجمال، بتدريب عينة على تمييز الفروق الدقيقة في اللباس ومساحيق التجميل، بل وإقناعه باستقبال الأشياء الجديدة على أنها هي الجمال؛ فما كان ينفر منه بالأمس، بات يتمتع به الآن.

ومع تعزيز روح التفرد لدى الشخص، كان سهلاً تعزيز فكرة الذوق الخاص لدى أفراد المجتمع. الأمر الذي جعل الفرد محل نظر لدى نفسه، ولدى المجتمع؛ بحيث يظل دائمًا يسعى لتأكيد ذاته لدى المجتمع الذي نصّب نفسه حكمًا عليه. بل وأصبح الآخرين خاضعين لأحكامه وتقييمه الشخصي.

وهنا تحول اللباس لحاكم على الأفراد ومدلل على ديانتهم وانتماءاتهم، وثقافتهم وطبقاتهم الاجتماعية. فظل الفرد يسعى نحو تحقيق وهم منشود للالتحاق بالصفوة، وأصحاب البريق والنفوذ والطبقة الاجتماعية هي من تُنتج الموضة.

ولم تقتصر الموضة على مجرد الصراع القائم بين الذات ونفسها أو بين الذات والمجتمع، بل انتقلت نحو تمثيل وتحديد البلاد قوميًا. فأصبحت البلاد لها ما يميزها عن جيرانها في اللباس، وأصبحت القوميات فكرة تعزز روح الانتماء لدى الفرد، والانتماء هذا ليس قومياً فقط بل سياسيًا وثقافيًا.

فكان الإغريق مثلاً يطلقون اللحى محاكاة للإسكندر وتمجيدًا له. أو أن يقوم الغزاة بفرض لباس معين على الشعوب المحتلة أو على الأقل في الطبقات الثرية مثلما فعل المغول مع الهنود حينما احتلوهم.[4]

فالسياسة استخدمت الموضة كمُعبِّر عن سلطتها عن طريق أفراد المجتمع. الأمر الذي أدى لمزيد من الاغتراب الفردي داخل نسيج المجتمع، وأصبحت الثقافات والسياسات تتم وفقًا لأبجديات الموضة الحالية. وأعُيدت هيكلة «الاتصالات السياسية» وأصبحت المنافسة الديمقراطية تمر من خلال المباريات، والمناسبات الترفيهية، والمظهر، والشخصيات الإعلامية.[5]


الموضة والديمقراطية

مع صعود رأسمالية السوق وثقافة الاستهلاك؛ كان لابد أن يتحول أفراد المجتمع لمستهلكين يسعون نحو المزيد من الاستعراض وتوكيد الأنا المهتزة بين جنباتهم. وكان المد الديمقراطي يسعى حينئذ لجعل الموضة أكثر حرية وانفتاحًا، وذلك بجعل التصميمات تجمع بين «الحداثة والخيال والإبداع الفني».

وانتقلت الموضة من ثقافة التفصيل لثقافة البيع الجاهز، الأمر الذي عزّز مزيدًا من ثقافة الاستهلاك لدى الجماهير. ومع نجاح الموضة في تعزيز روح التفرد لدى الأشخاص، جاءت الديمقراطية لتُعلي شعار حرية الاختيار لكل فرد، مُعلنةً بذلك عصر «الاختيار الديمقراطي الحر».

ومع تعزيز ثقافة الاستهلاك والسعادة المؤقتة، ومحاولة تقديم السعادة بسعر زهيد كانت العلاقة بين «الجمالية والسعر» وكانت ثورة الماركات الديمقراطية. حيث تساوت الأزياء الرخيصة مع الأزياء الراقية، وحاولت الديمقراطية هنا أن تُزيل الفوارق الطبقية التي صنعتها الموضة ابتداءً، ولكنها لم تكن لصالح الفرد بل أنها استغلت الفرد من أجل اقتصاديات السوق الرأسمالي. وأصبحت الدعاية تنتشر لترغيب المستهلكين في أنواع معينة من الملابس وذلك عن طريق مزيد من الإنتاج الضخم بأسعار مقبولة لدى الجمهور.

أصبحت الدعاية تشكل الوعي الجمعى للجماهير، وانتهجت الشركات سياسة الإعلانات التي تُوحّد الرغبات والأذواق كبديل عن «الدعاية الشمولية»، كون الدعاية الشمولية تغسل الأدمغة وتُسلب الفرد القدرة على اتخاذ القرار، بعكس الإعلانات التي تعزز روح الاختيار من بين المتاح.

فأنت سيُتاح لك الاختيار من بين ماركتين لأنه قد تم الزج بك في معترك الموضة. لن تستطيع لباس موضة قد انقضت لأن ذلك سيعرضك للنبذ المجتمعي. فأنت ستختار من بين الموضة المتاحة لك.

واسُتخدمت الدعاية كافة الوسائل لإقناع الفرد أنه حر في اختياره وانتهجت في ذلك «الإغراء بدلًا من التوجيه الآلي»، وأصبحت الإعلانات غير مقتصرة على توجيه الجماهير نحو منتجات بعينها، بل أصبحت توجه الجمهور نحو تحقيق دعم للسياسات العامة للدول والأيديولوجيات المختلفة، وتمت قولبة الأفكار والمبادئ طبقًا لمفاهيم السوق.


الموضة وإسلام السوق

لم تعد الملابس تنتمي للذاكرة الجماعية، بل أصبحت انعكاساً متفرداً لميول الهيمنة والسلطة.[6]
الموضة تحيا مع المفارقات: تعزز الوعي مع فقدانها الإدراك، والجنون يكرس روح التسامح، التقليد الأعمى يدعم التفرد والرعونة مع احترام حقوق الإنسان. في التاريخ الحديث، ندرك أن الموضة هي أسوأ السيناريوهات.[7]

«أبجديات السوق تعزز: النزعة الفردية، والانفتاح وعدم التقييد بالمقدس، وأولوية الشأن الخاص على الشأن العام». تلك الأبجديات التي عززتها الموضة سابقاً، أكدتها ممارسات السوق الرأسمالي لاحقًا. وكان خير مثال على ذلك: فكرة «إسلام السوق» الذي عرضها «باتريك هايني» في كتابه الذي حمل الاسم نفسه.

حيث قامت الموضة الرأسمالية الجديدة والرافعة لشعار الاختيار الديمقراطي الحر باختراق فكر المجتمعات الإسلامية، الأمر الذي بدأ في تسعينيات القرن الماضي، حينما ظهر التصالح بين الموسيقى والتيار الإسلامي.

ظهر ذلك في النشيد الإسلامي من داخل حرم الجامعات متغنيًا بأدبيات الجهاد والنضال، مرورًا بالدعاة الجدد حالقي اللحى، والمتكلمين بالعامية، وهاجري السياسة؛ وانتهاءً بالزي الإسلامي الذي تحول من مفهوم الستر لمفهوم الإغراء والاستهلاك. فأصبح الحجاب يسير مع صيحات الموضة أينما رست، ودخل الحجاب معترك التفوق الطبقي والاستهلاكية الرأسمالية.

أضحت المبادئ الإسلامية خاضعة لمفاهيم السوق التي تحدد مضامينها، واكتسحت الموضة المظهر والفكر. الأمر الذي أدى لعلمنة داخلية لمسألة التدين. وأصبحت المضامين الدينية أكثر انفتاحًا على الآخر، بل أصبحت تلك المضامين خاضعة للحكم طبقًا للموضة السارية في الوقت الحالي.

وأخيرًا، تعد الموضة هي أحد العوامل الكاشفة عن ثقافات الشعوب وتطور مجتمعاتها. وفي ظل التلاحق السريع لموجات الموضة، الواحدة تلو الأُخرى، يفنى الفرد ويغدو مغتربًا عن ذاته، متفردًا في ميدان الاستعراض المسرحي للمجتمع، ويتحول لمستهلك تملكه الماركات العالمية وبيوت الأزياء.

المراجع
  1. جيل ليبوفتسكي، ممكلة الموضة زوال متجدد: الموضة ومصيرها في المجتمعات الغربية، ترجمة: دينا مندور، العدد 2947، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2017). ص [59].
  2. المصدر نفسه ص [42].
  3. المصدر نفسه.
  4. المصدر نفسه ص [29].
  5. المصدر نفسه ص [200].
  6. المصدر نفسه ص [46].
  7. المصدر نفسه ص [21].