تقول الأسطورة إن الأم دورها الرئيسي التربية، والأب دوره الرئيسي أن يعمل ليوفر لأسرته الحياة الكريمة، ولا أدري حقيقة من المسئول عن توزيع الأدوار هنا، لكنه فاشل؛ لأنه لا دور أعظم لكليهما من رعاية أبنائهما وتربيتهم، لا أولويات أخرى.. لذا إن كان العمل هو الوسيلة وأبناؤنا هم الغاية فلماذا تجرفنا الوسائل عن الغايات؟

على الرجل أن يقوم بدوره الأساسي أولا في تنشئة الأبناء، ثم الإنفاق والعمل بجانب ذلك لا ضرر، الأم كذلك تقوم بعدة أدوار في المنزل.

يقول سيجموند فرويد:

لا أستطيع التفكير في أي احتياج أشد ضرورة للطفل من احتياجه للشعور بالأمان والحماية من والده.

كثيرا ما تجد الأطفال يفزعون لغياب أمهاتهم، ينفجرون بالبكاء، وأتعجب لم يفعلون ذلك رغم أن الأب لا يزال موجودا والطفل بين ذراعيه! لا أقلل أبدا من أهمية الأم وقوة الرابطة بينها وبين الأطفال، لكن هل من الطبيعي أن يشعر الطفل مع أبيه كما قد يشعر مع أي شخص غريب؟ والحقيقة أن الطفل لا تعنيه الأسماء وشجرة العائلة والحمض النووي بشكل كبير في ذلك الوقت، هو فقط يريد أن يشعر بالأمان، وأن هناك من يستطيع العناية به، وهو ما لم يجده عند من يفترض أن يكون أباه!

فلماذا نطلب من ابنك أن يشاركك تفاصيل حياته وهو في الثامنة عشرة من عمره، وقد نشأ على أنه لا يستطيع الاعتماد عليك لتطعمه، أو تساعده لقضاء حاجته وهو صغير؟

دورك من البداية كان المال، فماذا يدعوك حقًا أن تتخيل أنه سيكتشف فجأة أنك قد تفيد بشيء غير المال؟ تلك الفائدة التي ارتضيتها لنفسك طوال هذا العمر؟ أتذكر المرات التي طلب منك فيها المكوث بجانبه فأخبرته أنك مشغول وأنك دائما ما تعمل من أجله وتفعل كل ذلك لتشتري له كل ما يريد؟

إذن اشترِ له ما يريد! لماذا تشتكي؟ من وضع أسس هذه العلاقة هو أنت.


آباء مع إيقاف التنفيذ

«روح قول لماما».. هكذا أجاب الرجل ذلك الطفل عندما جاءه قائلا: «بابا عايز اكل»، حسنًا يبدو أنه أبوه، أو يفترض أن يكون! لم يرفع عينه عن هاتفه الجوال بينما يحرك أصبعه متصفحا ما يبدو أنه منشورات على موقع التواصل الاجتماعي، لحظة! لقد توقف أصبعه.. إنه يقرأ ذلك المنشور.. قام بمشاركته الآن.. إنها قصة عن شاب وضع أباه في دار مسنين ولم يسأل عنه لسنواتٍ حتى مات، يالقسوة ذلك الابن ويالجفاءه.. «لكل فعلٍ ردُّ فعلٍ مساوٍ له في المقدار ومضاد له في الاتجاه».. ربما تكون تلك هي المرة الألف التي تسمع فيها هذه الجملة أو تقرؤها، فكر فيها هذه المرة.

كثيرا ما أسمع الآباء يروون بأسى كيف هم بعيدون عن أبنائهم، لا يشركونهم في حياتهم ولا يعطونهم أي دور، ويرجعون ذلك إلى طيش الشباب ومراهقتهم وأي سببٍ آخر لا يتضمن وجودهم في تلك المعادلة، ثم إذا سألتهم عن دورهم في طفولة أبنائهم يخبرونك كم تعبوا لأجلهم، ولا ينكر تعبهم إلا جاهل، أو عاقل.. يعرف أن التعب وحده ليس ضمانا لأي نتيجةٍ مرجوة، لا تستطيع الفوز بسباق فقط لأنك ركضت أسرع من الجميع، بغض النظر عن الاتجاه الذي ركضت فيه!


أين المشكلة؟

يتحدث الكثيرون عن الفجوة بين الأجيال، بين الآباء والأبناء، يقولون إنها فجوة ثقافية وتكنولوجية، يدعي آخرون أنها فجوة حضارية مجتمعية، تغير المجتمع وتغيرت عناصره وأدواته، الفن والقدوة والأيديولوجيات، والحقيقة أن هذا الطرح غير مفهوم بالنسبة لي، قد يبدو مقبولا إن كنا قد جمعنا الآباء بغرفة وأخرجناهم بعد 10 سنين فانصدموا بالواقع وكل المتغيرات، لكن الحقيقة أنهم يعيشون نفس الواقع مع أبنائهم، نفس الحياة ونفس الأحداث والتطورات، ربما لا يجارونها بنفس السرعة، لكن ليس الأمر بذاك الانعزال الذي يصوره البعض.. فأين الفجوة إذن؟

إنها فجوة عاطفية وتربوية.. ولا أدري أأُرجع ذلك إلى الرأسمالية المهيمنة أم الأمية التربوية أم.. أم..! ربما يشتركون جميعا في تلك الجريمة، لكنهم بمثابة المحرض هنا.. أما الفاعل الرئيسي فهو نحن الآباء، وهذا جمع لا يشمل الأمهات ولا يعنيهم، أتحدث هنا عن ذلك الأب الذي يفني عمره في العمل لتوفير ما يظن أنه ضرورة لأطفاله، وللأسف غالبا ما تكون تلك الضرورات ليست فقط رفاهيات، بل مضرات وجنايات على الأبناء، يسافر مغتربا يعمل في الخارج ليوفر مصاريف تلك المدرسة الدولية التي أصابت أبناءه باضطراب هوية بإهمالهم للغتهم الأم وعدم تعليمهم اللغة الأجنبية حتى بشكل كامل وصحيح، يعمل أيضا ليوفر لهم الآيباد والآيفون والإكس بوكس وقائمة تطول من أدوات عزل الإنسانية، لينشأ الطفل ماديا اعتماديا كجهاز من تلك الأجهزة، لا يعرف شيئا عن مهارات البقاء ولا الحِرف ولا الطبيعة ولا حتى المهارات الاجتماعية الإنسانية، ذلك لأن الأجهزة تتكفل بكل ذلك!

كم تمنيت لو يعلم ذلك الأب أن ساعة يقضيها يوميا مع أبنائه أعظم نتيجة من ألف مدرسة دولية وألف جهاز إلكتروني، لو يعلم أن الحرف الذي سيعلمهم إياه هو أثبت من كل ما قد يتعلمونه من ذلك المعلم السخيف الذي يبتزهم بالـ GPA ويفتقر لأدنى معلومة عن أساليب التعليم الصحيحة، لو يعلم أن ساعة من وقته يوميا قد تنقذ حياة أبنائه حرفيا.

تلك الأرقام ليست مصادفة.. فهل نضعها في عين الاعتبار؟


كيف تستعيد دورك؟

في إحصائية لوزارة الصحة الأمريكية 63% من حالات انتحار المراهقين يكون ضحيتها أبناء لآباء غير موجودين في حياتهم، وفي إحصائية أخرى لمركز السيطرة على الأوبئة والأمراض يتضح أن 85% من الأطفال الذي أظهروا إصابات باضطرابات سلوكية جاؤوا من بيوتٍ لا وجود حقيقيا للأب فيها، 80% من المغتصبين أثبتوا نفس الأمر حسب إحصائية نشرتها مجلة Criminal justice & behavior في ديسمبر سنة 1987.

كما يقول الجميع: «أول خطوة لحل المشكلة، هي إدراك وجودها والاعتراف بذلك»، وبوصولك لهذه النقطة أفترض أنك قد أتممت هذه الخطوة بنجاح.

ثانيا، هناك مقوم أساسي للنجاح كأب والخبر السعيد هو أنك تمتلكه وبجدارة، فحقيقة أنك أمضيت تلك الدقائق قارئا هذا المقال تعني أنك تمتلك «الاهتمام»، أنت لست أبا فاشلا ولست غير مبالٍ، أنت تجتهد وتبحث.. بينما غيرك ليس مستعدا لمناقشة الأمر حتى، فهذا دور «أم العيال» في رأيه.

ثالثا، اتخذ بعض القرارات، أولها خصص لأبنائك وقتا يوميا وعاملهم معاملة اجتماعك اليومي مع رئيس مجلس إدارة الشركة، صدقني هم أهم من ذلك، ثم اختر يوما من يومي عطلتك الأسبوعية (أو إذا كنت تحصل على واحدٍ فاختر نصفه)، هذا يومٌ لهم بأكمله في الهواء الطلق.

رابعا، تعلَّم.. لا أحد منا يعرف بالفطرة كيف يغير حفاظة أو يجهز قنينة من الحليب أو يُغَسِّل طفلا، ولا الأمهات حتى كن يعرفن ذلك بالمناسبة، لكنهن تعلمن، وصدقني حين أخبرك أنك تستطيع إتقان ذلك في دقائق، فقط شاهده مرتين أو ثلاثا، جرب فعله ثلاثا أخرى، هاأنت تقوم بها على أكمل وجه!

خامسا، اصنع قائمة بالأشياء التي تود فعلها معهم أو تعليمهم إياها، شخصيا وضعت على قائمتي رحلة إلى ورشة نجارة نتعلم فيها الأساسيات، وأخرى إلى الصحراء، أو مزرعة بها حيوانات مثلا.. وأشياء أخرى، أتدرك حجم الفارق الذي يمكنك أن تصنعه بحياة أبنائك؟ أتظن أنه يمكن لأحد غيرك أن يقوم بتلك الأشياء؟ خذ زمام المبادرة.. وكن بطل قصة حياتهم.