في يوم الأب، لم أنتبه للمعنى الحقيقي لوجوده إلا حينما روت لي صديقتي المقربة أن زوجها سألها اليوم إلى أين هي ذاهبة، وحين أجابته أنها تتجه لمدرسة ابنهما لدفع مصروفات العام الدراسي الجديد، اندهش دون وعي منه لما يتضمنه سؤاله ورد عليها: «هل انتهت إجازته؟»

حزنت صديقتي لأن الوالد لا يعرف عن مواعيد دراسة ابنه شيئًا، وأنها من تحمل العبء كاملاً بمفردها، وتركتني بعد قصتها أتخيل كيف سيكون شكل أبناءٍ، والدهم حاضر معهم في نفس المنزل وهو غائب عنهم.

انتقلت بعدها بلحظات إلى تلك المشاهد الرائعة التي تحمل معالم الأبوة الحقيقية وتمنح العقول التي لم تجرب بعد، الأبوة في صورتها المثالية، فحين قدم الممثل الأمريكي «ويل سميث will smith» دور الأب الذي يهتم بكل تفاصيل ابنه، رغم الكثير من الظروف السيئة التي كان من الممكن أن يتخلى عنه بسببها ويتركه مع والدته لكنه حمل عبء المحبة والرعاية بجانب ما مر به في فيلم «السعي وراء السعادة – The Pursuit of Happiness».

فيما منحني إعلانٌ مؤثرٌ عنوانه: «لا شيء يضاهي قضاء وقتك مع طفلك» مفتاح القصة حين حمل رسالة إلى كل أب بتقديمه طفلاً رفض انشغال والده عنه أغلب الأوقات أمام شاشة الكمبيوتر، فذهب الطفل لطباعة صورة والده بالحجم الطبيعي وإجلاسه أمام شاشة الكمبيوتر بدلاً عنه حتى يمكنه أن يقضي بعض الوقت مع والده بعيدًا عن العمل فكان الإعلان مؤثرًا إلى حد بعيد وحقيقيًا ليعبر عن احتياج طفل وتفكيره في كيفية حل المشكلة وإيجاد ما يفتقد.

تكتمل المشاهد بحالة مررنا بها جميعًا حين رأينا ذلك المشهد للفنان عبد المنعم مدبولي في أحد أعماله الفنية، حيث يدخل غرفة بناته الثلاث ويغني لهن وسط حالة من البهجة والمحبة والفرحة بالأب العائد من عمله متعبًا يحمل المحبة خالصة، ويقضي وقته مع بناته ويرسم لهن أحلامًا في أغنيته الشهيرة قائلاً: «من بعد شقاوته وبعد همومه.. من بعد ما لف ودار طول يومه، توروماينا أهو واصل لمحطة نومه» والتي ما زالت تعد من أهم أغاني الأطفال.

الأب.. الرجل الذي كان سببًا في القدوم إلى الحياة، أول اتصال بشري مع رجل تمتعنا به في بداية حياتنا والذي يستمر في التأثير علينا طوال الحياة حتى وإن اختفى هو لوقت ما أو اختفى للأبد!


الأب

هناك أدوار هامة للأب في حياة الطفل، فنحن غريزيًا نتعلم من خلال مراقبة سلوكيات قدوتنا، فعادة ما يكون الوالدان المثال الأول الذي يحتذي به وأنماط التفاعل بين الأب والأم هي الأنماط ذاتها التي تؤثر في علاقات الأطفال من الولادة وحتى نهاية الحياة، بما في ذلك علاقاتهم بأصدقائهم ومحبيهم وأزواجهم.

فربما تبحث الفتاة حين تكبر عن رجل لديه أنماط أبيها أو العكس منها، ويقوم معظم الفتيان بنمذجة أبيهم دون وعي حيث ينسخون ويقلدون طرق آبائهم في التعامل، لأنه يراها الطريقة المثالية، فإن شب على مساعدة والده لوالدته واحترامه لها واحترامه للبيت وطقوسه سيكون مثله، وإن لا فالعكس.

أفضل زميل للعب

والد جيد يعني رفيقًا جيدًا، فالأطفال يتعلمون من اللعب وتتطور مهاراتهم العاطفية والبدنية والعقلية بأنشطة مثل الطائرات الورقية وكرة القدم والغميضة، والأب لو كان زميلاً لطفله في تلك الألعاب، فيمكنه حينها غرس الثقة وتعليمه تقبل الفشل والمحاولة مرة أخرى، ومساعدته على الإدراك السهل.. ادخل مع ابنك أو ابنتك وصادقهم في عالمهم، في حكيهم عن ألعابهم، هذه لحظات لن ينسوها أبدًا.

التفاهم والدعم الروحي

من يتصور أن الأب هو عبارة عن آلة لجلب الأموال لم يمر بالألفية الجديدة بعد، فالأم والأب على السواء يشتركان في العمل الآن، والأمر تجاوز التعريفات التقليدية للأبوة، عزيزي الأب أنت لست ماكينة أموال فأطفالك يحملون اسمك فامنحهم بعضًا من وقتك، مصاحبة الطفل في المراحل الأولى من عمره يمنحه الشعور بالأمان والحماية وهو مبدأ مهم في استقراره النفسي ليس عليك العبث فيه، فالأمان يمنح الإنسان ما لا يمنحه الكثير، ويخلق بداخله القدرة على العطاء والإنجاز والثقة في العالم.

احترام قدراته وتقبله

الطفل يبحث عن عيون أبيه بشكل دائم لتمنحه التقييم اللازم فلا تحرمه من ذلك، تقبل ابنك الذي يحمل ملامح جيل مختلف، وذوق مختلف، وتفضيلات اجتماعية مختلفة، وكل ذلك التقبل سيؤدي إلى تطوره واكتسابه للخبرة وتهيئته عقليته الخاصة وامتنانه لك في النهاية لمساعدته على ذلك فأنت لم تكن عقبة في طريقه تريد تشكيله كيفما تريد لا كيفما يريد هو، امنحهم فقط المبادئ التوجيهية لرحلتهم في الحياة والعون حين يحتاجونه.

ما الذي تعرفه حقًا عن الأبوة؟

فى مقال «اليانور باركرن – Eleanor Bark horn» قدم تجربة استطلاع تحولت إلى كتاب بعنوان «هل للآباء تأثير فارق في حياة أبنائهم – ?do father matter» بقلم «بول ريبورن – Paul Raeburn»، وكان الاستطلاع عن مفهوم الأبوة لدى الناس وقد وجد أن الآباء يلعبون دورًا بالغ الأهمية «أكثر مما نظن» وفقًا لتعبيره.

الكتاب الرائع يحمل الكثير من النقاط المفترضة في العلاقة بين الأب وأطفاله، بل أنه وفقًا لمقال اليانور يعد جدولاً زمنيًا لحياة الطفل، فكل مراحل وجود الطفل بداية من الحمل ومراحله والولادة والفطام والطفولة المبكرة والمراهقة تحدد دور الأب في كل منها، بدءًا من الجينات التي يحملها الطفل منه وهو جنين، والحصيلة اللغوية بعد الميلاد التي يمنحها الأب للطفل، والمفردات، وقال إن الأم قد تقضي بالفعل الكثير من الوقت مع الأبناء وتصبح لغتها قريبة من الطفل ولغة الطفل قريبة من الأم وتفهمها جيدًا، ولكن الأب برغم الوقت الأقل الذي يقضيه مع الأبناء إلا أنه يستخدم مفردات جديدة على الطفل مما يجذب انتباهه ويجعله يحتفظ بها بشكل قوي.

هل تعلم أنك تساعد ابنتك على النضج؟

ناقش «ريبرن» في كتابه بحث: «بروس ج ألسن – bros g. also» من جامعة أريزونا، والذي قال إن الفتيات اللاتي يغيب آباؤهن ولا يكونون حاضرين في حياتهن يصلن إلى مرحلة البلوغ أسرع من الفتيات اللاتي يتمتعن بتواجد آبائهن بجانبهن في حياتهن، حيث درس عائلات انفصل الأب والأم فيها ووجد أن الفتيات الأصغر سنًا اللاتي قضين وقتًا أقل مع الأب في الأسر المفككة قد وصلن لمرحلة البلوغ في عمر أصغر بعام كامل عن الأخت الكبرى، كما تضمن الانعكاسات التي يخلفها غياب الأب عن أسرته ومنها الانحراف الأخلاقي، وقلة التحصيل الدراسي، والاكتئاب، وتعاطي المخدرات.

تتفق «ديتا .م. وليكر – ditta m. olikar» في مقال لها حيث كتبت: «إن الأطفال الذين لديهم أب، آمنون عاطفيًا وتتكون لديهم القدرة على اكتشاف محيطهم ومع تقدم عمرهم تتكون لديهم صلات اجتماعية أفضل». في حين تشير إلى اكتشاف جديد أن «الطريقة التي يلعب بها الآباء مع أطفالهم لها تأثير مهم على تطور الطفل العاطفي والاجتماعي، والأبناء تكون لديهم نتائج تعليمية أفضل»، فيما تجد بعض الدراسات أن نمط الأبوة النشط المتفاعل مع طفله المُغذي له، يرتبط بتطور مهارات الطفل اللفظية وأدائه الفكري، فيما تعد مبادرة «سوبر دادز – super dads» التي أطلقتها منظمة اليونيسيف العام الماضي هي الأقوى حتى الآن في الإشارة إلى أهمية وجود الأب في حياة الأبناء.

تقول «بيا بريتو bia breto» رئيسة منظمة اليونيسيف لتنمية الطفولة المبكرة:

إن تربية الآباء الجيدة للأطفال الصغار الذين يعيشون في ظروف شديدة التوتر مثل الصراع أو الفقر المدقع يمكن أن توفر حاجز حماية ولو مؤقت، مما يساعد الأبناء على التطور بشكل جيد، حتى ولو كانوا يمرون بظروف صعبة.

هذا وأظهرت الأبحاث أن التفاعلات الإيجابية مع الآباء تسمح للأطفال بأن يتمتعوا بصحة نفسية أفضل ورضى عن الحياة في المستقبل، فالأب له دور مؤسس لا يستطيع أحد إغفاله، وعلى الآباء أنفسهم استثماره.