كان القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي نقطة تحول في قيام مصر ذات الشخصية العربية التي سبق أن فتحها المسلمون بعهد الخليفة عمر بن الخطاب. ففي ذلك الوقت، بلغت حركة التعريب ذروتها. كُتبت العبادات في الكنيسة بالعربية. وبدأ الحديث عن مصر كمجتمع عربي وليس كمجموعة من القبائل العربية المهاجرة من الجزيرة العربية.

لكن الحدث الأهم ذلك الوقت، كان التطور السياسي في مسيرة مصر. فقد نالت استقلالاً جزئيًا. أصبحت مقرًا للخلافة الفاطمية بعد أن كانت مجرد ولاية من ولايات الخلافة الإسلامية. جدوى هذا الاستقلال تكمن فيما يعنيه وما يتبعه من تداعيات، فهو يعني أن مصر بدأت تلعب دورها التاريخي والطبيعي الذي تأهلت له منذ القدم.

وبالرغم من هذا، فإننا حين نلقي نظرة على معالم المجتمع المصري حين ذاك، نجد أنه لم يلقَ البحث أو الاهتمام الكافي، فقليلة هي الكتابات التي تناولت هذا الجانب.

يرجع هذا في جزء منه إلى الظروف والسياق آنذاك، فالكتابات ذلك الوقت ركزت بشكل أساس على التأريخ للعواصم مثل دمشق وبغداد بعهد الخلافة الأموية ومن بعدها العباسية. وإن كانت مصر عاصمة للخلافة الفاطمية، فهذه الخلافة كانت شيعية وما جاء بعدها كانت الدولة الأيوبية وغيرها من الدول ذات المذهب السني، فكان طبيعيًا أن يتم طمس ملامح المجتمع والنظام الشيعي وأن يتعرض للإهمال المُتعمد بل للنقد والتجريج من المؤرخين والمفكرين السنة.

انطلاقًا من هذا، يصحبنا الدكتور محمد عمارة في كتابه «حينما أصبحت مصر عربية إسلامية» في رحلة إلى الخلف، إلى ذلك الزمن، حيث نتعرف على ملامح المجتمع المصري وجوانب حياته بالعصر الفاطمي، حينما أصبحت مصر عربية حقًا بالمعنى الحضاري لا بالمعنى السياسي فقط.

الوجه المشرق لمصر العربية

جاءت بداية الاستقلال الجزئي عن الخلافة العباسية مع تولي أحمد بن طولون حكم مصر. صحيح أن من ولاه الحكم هي الخلافة ذاتها، لكنه بدأ في الاستقلال عنها تدريجيًا، فكانت مصر بمثابة دولة مستقلة ذات حكم ذاتي لكنها تتبع الخلافة العباسية.

 تطور الأمر مع الدولة الفاطمية عبر قيام جوهر الصقلي القائد الفاطمي بفتح مصر وإقامته القاهرة كعاصمة جديدة عام 969م. كان الفاطميون فاتحين، أرادوا جعل مصر عاصمة لإمبراطوريتهم الخاصة، وقابل ذلك رغبة مماثلة من قبل المجتمع المصري الذي كان يعاني ظروفًا اقتصادية صعبة وصلت في بعض الأحيان لمجاعات دفعت الكثير للهجرة.

استمر حكم الفاطميين ما يزيد قليلاً عن قرنين من الزمان، نصف هذه الفترة شهدت ازدهارًا بمختلف المجالات، والنصف الآخر كان على العكس الشدة المستنصرية التي أتت مجاعتها وفوضاها لتظلم كل ما كان منيرًا قبلها.

في الفترة الأولى، جاء المعز لدين الله الفاطمي لحكم مصر بعد أربع سنوات من إنشاء القاهرة كعاصمة، اتسمت مصر بالتقدم بمختلف المجالات. ففي العمارة مثلاً، ارتفعت المنازل حتى بلغ عدد طوابق بعضها نحو 14 طابقًا، اتسعت ليضم بعضها نحو 200 ساكن، انتشرت الحدائق والمنتزهات العامة. كان الأمر بمثابة صورة مُقربة لما هو عليه اليوم.

وفي الاقتصاد، بلغت الثروة التي امتلكتها مصر وفاضت عليها حدًا جعلت الرحال والمؤرخ الفارسي ناصري خسرو يقول:

إنني لم أستطع حصر ثرواتها، ولم يسبق لي رؤية تلك النعمة في بلد آخر.
ناصري خسرو

أما الصناعة، فكما هو معروف اشتهرت مصر بصناعة النسيج، لكن هذه الصناعة شهدت مزيدًا من الازدهار، وتم فتح المجالات أمام العاملين بها للإبداع، حتى أصبحت العديد من المدن تشتهر بهذه الصناعة وفي مقدمتها الإسكندرية ودمياط والفسطاط.

على الجانب الأمني، بلغ الأمن حدًا جعل الصيارفة والتجار بما فيهم تجار المجوهرات، يتركون أبواب متاجرهم مفتوحة بعد إسدال الستائر عليها حينما يذهبون للصلاة أو قضاء ما يحتاجون إليه.

واجتماعيًا، كانت هناك العديد من ممارسات وعادات الفاطميين التي أثرت في حياة المصريين وما زالت موجودة حتى اليوم. أبرز هذه العادات إقامة الموالد والاهتمام الزائد بالمقابر، فعادة بناء المنازل حول المقابر وتنظيم الزيارات لها في المناسبات إنما تعود إلى الميراث الذي تركه الفاطميون، أما الموالد فما زالت موجودة ولها محبوها حتى اليوم.

للفكر نصيب

مثلما كان التقدم واضحًا في مختلف جوانب حياة المجتمع المصري بعد الفاطميين، كان واضحًا أيضًا في الجانب الفكري والعلمي رغم ما يتم الترويج له بأن عهد الفاطميين خلا من أي إنجازات أو مساهمات فكرية كانت أم علمية. وللرد على زيف هذه الادعاءات، يمكننا التطرق لعدد من إسهامات هذا العهد في نقاط سريعة وفي مقدمتها:

1. تعدد العلماء والأدباء بمختلف اهتماماتهم: شهد ذلك العصر كوكبة من العلماء والمفكرين والشعراء منهم الحسن بن الهيثم رائد علم البصريات، وأبو الحسن علي بن يونس الفلكي والأديب صاحب كتاب «الزيح الكبير»، الحسن بن زولاق الذي كتب سيرة المعز ونقل عنه الكثير، وأبو عبد الله القضاعى الذي اشتهر بكتاباته عن مصر وآثارها وغيرهم الكثير مما نحتاج إلى كتب عدة لتوضيح إسهاماتهم.

2. إنشاء الأزهر ودار الحكمة: شهد ذلك العصر قيام مؤسسات علمية عملاقة ما زالت موجودة حتى يومنها هذا، وعلى رأسها بالطبع الأزهر الذي بدأ كجامع أسسه جوهر الصقلي وبدأ تطويره حتى أصبح جامعة فكرية وثقافية.

كذلك تم إنشاء دار الحكمة كأكاديمية علمية وفكرية اهتمت بالعلوم الدينية وعلم الفلك والطب. تجمعت بهذه الأكاديمية مختلف الكتب وتم إتاحتها لسائر أفراد المجتمع باختلاف طبقاتهم. وقد لعبت دورًا في ازدهار الحياة العلمية والثقافية وكرست الدولة جهدها الفكري في تطويرها حتى ذبل دور الأزهر مقارنة بها.

3. الاهتمام بالمكتبات: كانت أبرز الأدلة على الحركة الفكرية وأصالتها ذلك العهد، حتى أن العديد من المفكرين الأيوبيين المعادين للفاطمية أقروا بأنه «لم يكن بجميع بلاد الإسلام دار كتب أكبر من التي وجدت بالقاهرة». وقيل أيضًا أن مكتبة القصر الفاطمي بعد تسلم صلاح الدين الأيوبي له وبعد أن نُهب الكثير منها أيام الشدة المستنصرية، كانت تحوي أكثر من 2.6 مليون كتاب.

تطور الحركة الفكرية والعلمية بفضل هذه الجهود لم يكن مقتصرًا على المسلمين فقط، بل شمل المجتمع المصري كافة مسلمين وأقباطًا. كانت الحركة بمثابة إطار قومي ساهم بقوة في بلورة الشخصية المصرية العربية، حتى أننا يمكننا القول إنها كانت إيذانًا بنضج الشخصية العربية لمصر التي فتحها العرب المسلمون قبل ذلك بعدة قرون.

بين ميت ومن يشتهي الموت

الترف والأموال التي عمت مصر التي تحدثنا عنها وعجز المؤرخين عن إحصائها، لم تكن من نصيب الجميع. فكما هو الحال اليوم تجدها من نصيب القلة الغنية بالمجتمع، بينما الفقر والبؤس من نصيب الاغلبية الساحقة من المواطنين. ووفقًا لهذا الوضع، انقسم المجتمع إلى فئات وطبقات وهي:

1. أهل الدولة، وهم من تولوا السلطة وبيدهم مقاليد الأمور، مدنيين كانوا أم عسكريين.

2. أهل اليسار من التجار والملاك، وقد تركزت بيدهم الثروة.

3. أصحاب الأعمال التجارية المتوسطة من الباعة ومتوسطي الحال من التجار، والذين يلحق بهم الحرفيون الذين يمتلكون أدوات إنتاجهم.

4. الفلاحون، ومن بعدهم الفقراء الذين كان من بينهم طلاب العلم وكثير من الجنود، وأخيرا ذوي الحاجة ممن يعيشون على سؤال الناس.

وفي ظل الأزمات الاقتصادية التي مر بها المجتمع، والتي كانت السمة المميزة لـلقرن الثان من حكم الفاطميين، كان أهل الدولة وأهل اليسار فقط هم من يستفيدون، أما أصحاب الأعمال المتوسطة يحققون الاكتفاء الذاتي فقط، أما الباقون فهم أشبه بالميت أو من يشتهي الموت هربًا من تلك المأساة.

وما ساعد على هذا التفاوت الاجتماعي النظام الإقطاعي وكثرة الضرائب. ففي ظل النظام الإقطاعي، لم يحصل الفلاحون إلا على القوت الضروري لهم، أما أي فائض في العائد فيرجع إلى خزانة الدولة. وبالنسبة إلى الضرائب الكثيرة والباهظة فكانت سمة رئيسية من سمات هذا العصر، رغم ما امتلكه الفاطميون وما جاءوا به إلى مصر من ثروات هائلة.

فقد وصلت المغالاة في فرض الضرائب إلى تحصيل أكثر من 50 ألف دينار في يوم واحد، وفي يوم ثان ارتفعت إلى 120 ألف دينار، فيما بلغت نحو 220 ألف دينار من ثلاث مدن فقط من مدن مصر، دون أي رأفة بأحوال دافعيها.

وإذا أضفنا لهذا ثمن المحال التي تؤجرها الدولة للتجار والتي بلغت نحو 20 ألف دينار والمنازل بالعاصمة التي بلغ إيجارها ـ8 آلاف دينار، إلى جانب المداخل من التجارة الخارجية في ظل أن مصر كانت آنذاك أشبه بالطريق الوحيد للتجارة العالمية، أدركنا الحجم الكبير لروافد الدولة المالية.

مع ذلك فهذه الروافد كانت مركزة في يد أهل الدولة وأهل اليسار، كما تم استنزافها في حروب الفاطميين التي وصلت إلى الشام والموصل واليمن وغيرها من الدول رغبة في توسع خلافتهم.

غروب شمس الفاطميين

في ظل هذه المظالم الاجتماعية التي تعرض لها المصريون، والخلل في النظام الاقتصادي الإقطاعي حتى قبل وصول الفاطميين، وما كان يعانيه من أزمة اقتصادية استمرت 9 سنوات ووصلت إلى حد المجاعة، كان طبيعيًا أن يفضي الأمر إلى مجاعة ثانية بل سلسلة من المجاعات بعهد الفاطميين أنفسهم.

برزت هذه السلسلة بعد الخليفة المستنصر وكان بدايتها عام 1052م، نتيجة ارتفاع الأسعار ونقص مياه النيل، لكن السياسة الاقتصادية الفاشلة التي اتبعتها الدولة في مواجهتها أدت إلى استفحالها على مدار سنوات حتى حدثت المجاعة الكبرى التي عرفت بالشدة المستنصرية عام 1064م وهي التي قصمت ظهر العصر الفاطمي.

ففي ذلك الوقت نقصت مياه النيل مرة أخرى، صاحب هذا انتشار وباء شديد الفتك بالناس، كما عانت الدولة ذاتها من ضعف السلطة واستيلاء الأمراء عليها.

وفي هذه الشدة التي استمرت 7 سنوات، بيع رغيف الخبز كما تباع التحف النادرة. بدأ الناس في ذبح الماشية التي نجت من الوباء فأكلوها، أكلوا من بعدها الحمير والبغال والقطط والكلاب ومختلف الحيوانات. ووصل الأمر لأن يأكل الناس بعضهم البعض، حيث تتربص العصابات فوق المنازل لاصطياد المارة وأكلهم.

رغم هذه الأوضاع، فلم تكن الدولة خالية من الغلال، فهذه الغلال كانت مكدسة لدى التجار وأهل اليسار الذين استفادوا من الشدائد طيلة عهد الفاطميين بل عملوا على تعظيمها كما سبق الإشارة. وبالفعل انتهت هذه المجاعة بجمع الدولة لهم وتهديدهم بقتلهم إن لم يخرجوا ما لديهم من غلال، وهو ما استجابوا له عنوة.

لكن هذا لم يحم الدولة من خطر المجاعات وباتت مهددة بها بين الحين والآخر، وتفاقمت الاضطرابات الأمنية والصراعات السياسية على الحكم، حتى أصبح الخلفاء أسرى لجبروت الأمراء وقواتهم المسلحة، فسقطت الدولة الفاطمية وجاءت من بعدها الأيوبية التي انتصرت أيضًا على الصليبيين.