مثَّلت جبال القوقاز، التي سكنتها شعوب مختلفة من ضمنها الشيشانيون، الحدودَ الجنوبية لروسيا، وهدفًا من أهداف التوسع الروسي كذلك، سواء عن طريق التدخل العسكري، أو عن طريق التوسع الاستيطاني في أرض القوقاز عبر توطين السُلاف وعشائر القوزاق الموالية للروس في الأراضي القوقازية. كانت القوقاز مسرحًا لمعارك طاحنة بين الروس والعثمانيين، ومنطقة صراع نفوذ بينهما وبين الفرس وخانات التتار.

شارك القوقازيون أنفسهم بمقاومة التوسع الروسي من خلال الغزوات التي شنّها الإمام منصور، وهو قائد صوفي حاول لأول مرة توحيد الشعوب القوقازية ودعوتها للجهاد ضد الروس؛ فيما مثَّل بداية حروب المريدية المتصوفة ضد التوسع العسكري الروسي. ويُعد الإمام شامل الداغستاني أشهر القادة القوقازيين لتلك الحروب التي اتسمت بتفاوت كبير في ميزان القوة لصالح الروس، وضعف الدعم الذي تلقاه القوقازيون من الدولة العثمانية الذي تراوح حسب موقفها من روسيا حربًا أو صلحًا.

وهكذا استولت روسيا القيصرية على القوقاز في نهاية المطاف، حتى قامت الحرب العالمية الأولى ثم الثورة البلشفية التي وعد أصحابها كافة الشعوب المحتلة بالاستقلال، ثم لم يلبث أن نكث البلاشفة وعودهم وأظهروا وجههم الحقيقي؛ فضموا الشيشان وأنجوشيا، من بلاد القوقاز، للاتحاد السوفيتي تحت مسمى جمهورية الشيشان – أنجوشيا، وشنّوا هجوما على المظاهر الإسلامية، وقمعوا كافة محاولات الاستقلال التي قام بها الشيشانيون. وفي عهد ستالين، تمت تصفية أعداد كبيرة من النخبة المثقفة بلغت حوالي 14000 في عام 1937 وحده، في عملية شنّتها السلطات بهدف اجتثاث العناصر المعادية للسوفيت. ثم اندلعت الحرب العالمية الثانية واحتل النازيون القوقاز جزئيًا في وقت كان يحارب فيه القوقازيون بالآلاف في صفوف الجيش السوفيتي.


الصدمة والتهجير

في البداية نُصبت خيام الجيش على سفوح الجبال في مناطق عديدة بالقوقاز، وكان ستالين قد قام من قبلُ بتهجير تتار القرم وسكان المستعمرات الألمانية على نهر الفولجا. تظاهر الجنود بأن انتشارهم روتيني لا خطر منه، وأن القوقازيين لن يلحقوا بمن سبقوهم.

يروي شيشاني ممن تم تهجيرهم إلى كازاخستان: «في 23 فبراير 1944، أمرت الشرطة السرية القوات المحلية بتجميع الرجال في الميدان. اعتقد الناس أن الجنود يريدون مؤنًا وإمدادات، لكن عندما رأوا تمركزات الجنود والمدافع الرشاشة منصوبة عند المباني الإدارية والأماكن الهامة ظنّوها احتفالات سوفيتية بذكرى أكتوبر.

بعد تجميع كل الرجال، صعد ضابط سكير درجات منصة في الميدان، خاطب الحشود في مكبر الصوت أن كل سكان جمهورية الشيشان -أنجوشيا سيتم نفيهم لبحر قزوين بسبب دعمهم للنازيين. كان اتهامهم إهانة وضربًا من الجنون، بعض الناس لم يدروا أصلا أية حرب كانت تدور، كانوا أمّيين بلا كهرباء ولا صحف ولم ينزلوا من الجبل في حياتهم تقريبًا.

خرج ضابط شيشاني مزيّن بالنياشين وانفجر غاضبًا منكرًا تهمة الخيانة: «تتهمني أنا بالخيانة؟ لقد حاربت من أجل الوطن وستالين، أنا خائن؟!» هكذا قال. تم اقتياد هذا الضابط من قبل بعض الجنود وسُمع دوي الرصاص، لقد قاموا بإعدامه. اقتحموا البيوت، جروا النساء من شعورهن، مزقوا الأمتعة بحثا عن الذهب والجواهر. أقاموا مذابح جماعية لسكان المحلات الصغيرة في الطريق كي لا يتحملوا عناء نقلهم، منها ما فعلوه في منطقة حايْبَخْ الجبلية، حين جمعوا ستمائة رجل وامرأة وطفل في مكان وأشعلوا فيه النيران، كان أكبر الضحايا عجوزًا تجاوز المائة وأصغرهم رضيعًا.

في قرية أخرى احتجز الطقس السيء شاحنات تحمل 500 شخص، بنفاد صبر أعدم الجنود الأصحاءَ رميًا بالرصاص وأغرقوا الأطفال والعاجزين في مياه بحيرة جلانشوذ. حتى قرى الوادي لم تسلم من ذلك، اقتحم الجنود مستشفى أوروس مارتان وقتلوا مئات المصابين بما فيهم الأطفال الصغار. قاموا بتجميع الجثث ودفنها في فناء المستشفى. تم اكتشاف هذه المقبرة الجماعية لاحقًا بعد جواب أرسلته ممرضة روسية عملت بالمستتشفى إلى جريدة جروزني عام 1990 فأخرجت الرفات ودفنت حسب تقاليد المسلمين.

تم رمي العجائز والمعاقين من فوق المرتفعات ليتخلص الروس من عبئهم، وأُجبر الأصحاء على المسير نحو عشرين ميلا إلى فيدينو في طريق سمي طريق الموت. هناك تم تكديسهم في شاحنات ثم توصيلهم لأقرب محطة قطار. تم شحنهم في عربات الماشية كالحيوانات، بل تم حشرهم كأنهم في علبة سجائر. ووقف الرجال والنساء أمام بعضهم على القش حاملين الأطفال والرضع كي لا يتم سحقهم من الزحام.

كانت النساء يخجلن من أن يقضين حاجتهن أمام الرجال فاحتفظن بمثاناتهن مليئة حتى ماتوا بها. أصابتهم رائحة الفضلات والغثيان بصعوبة في التنفس وبدأوا يموتون واحدًا تلو الآخر، كانوا يكدّسون الجثث في أحد أركان العربة وعند أول نقطة توقف يتم إلقاء الجثث من العربات لتفترسها الكلاب والضباع. عند الوصول كان نصف القطار خاليًا، لقد مات نصف الشيشان. في الطريق كان الناس يَلقونهم بالصراخ والاتهام بالخيانة والرغبة في القتل».


واقعات سيبير.. الكاتب والكتاب

يُعد كتاب واقعات سيبير وثيقة هامة نستطيع من خلالها تبيّن لمحات من الحياة الاجتماعية ووجهة نظر العلماء الشيشانيين ورؤيتهم للواقع ومستجداته من حولهم، خاصة في ظل السياق التاريخي الذي تقدّم.

مؤلف الكتاب هو «أبو محمد إزنور بن ناصر خو الشيشاني»، وُلد في عام 1312 هجرية/ حوالي 1894 ميلادية، في قرية الورند، أعلى إقليم شاتوي الجنوبية بالشيشان. بدأ دراسة العلوم الدينية في الصغر، وتلقاها من علماء عصره كالأستاذ الخشكلدي وآخرين.

شهد الثورة البلشفية وقيام الاتحاد السوفيتي. تم نفيه مع من نُفي من شعب الشيشان إلى سيبيريا في شتاء 1944. عاد إلى الوطن مع من عادوا أواخر الخمسينات. ألف هذا الكتاب وقت إقامته في سيبيريا (تمّت إضافة فتاوى أخرى إلى الكتاب أفتى بها الشيخ بعد عودته إلى سيبيريا).

يبدو الشيخ من خلال الكتاب متمكنًا من اللغة العربية، سلس الأسلوب، ويمكن تلمس سعة علمه واستحضاره للجزئيات حين نعلم أنه كتب هذه الفتاوى في وقت لم يكن معه من كتبه في سيبيريا إلا القليل. وهي إجابات على مسائل يرسلها له مستفتون، أو علماء من بلدات أخرى ناقلين أسئلة مستفتيهم.


المذهب والمصادر

يعالج الشيخ في كتابه مجموعة من المسائل العلمية المتعلقة ببيان الشريعة وحكمها، وبيان الطريقة والتصوف الحقيقي، كما يتحدث عن البدع وأقسامها ويحذر من اتّباع المتصوفة المبتدعين. ثم عالج الشيخ مسألة المذاهب الفقهية والتقليد المذهبي، حيث يقول عن نفسه إنه لم يبلغ رتبة المرجّحين بين الأقوال الفقهية، وهي الصفة التي سيطبقها الشيخ عمليًا بكثرة استشهاداته وإيراده لأقوال السابقين في جوابه على المسائل، فهو يتدخّل في الغالب في شرح واقع المسألة أو تفصيل حالات متعلقة بالمسألة لم يوردها السائل.

يبدو من كلام الشيخ منهجه في التصوف واستكثاره من النقل عن أئمة المذهب الحنفي والشافعي، وهو في تقريره لهذه المسائل العلمية يستشهد بالإمام الشعراني وابن حجر الهيتمي والشافعي والغزالي، كما تتضح إحاطته بمؤلفات المذهب الشافعي وحواشيه.

كما أنه يكثر من الاستشهاد بحاشية الشرواني مما يجعلنا نرجح أنها كانت ضمن كتبه التي اصطحبها معه. وحاشية الشرواني مؤلَّف في الفقه الشافعي وضعه الفقيه «عبد الحميد بن الحسين الداغستانى الشروانى» وهو من علماء الشافعية في داغستان، في القرن التاسع، حصّل العلوم فى بلاده ثم رحل الى البلاد الاسلامية وقدم استانبول ومصر وأخذ فيهما عن العلماء الأجلاء مثل الشيخ مصطفى الودينى والشيخ إبراهيم الباجورى، ثم قدم مكة المكرمة واستوطن بها واشتغل بالتدريس والافادة والتأليف حتّى ألّف هنالك حواشيه على التحفة شرح المنهاج لابن حجر في مجلدات ضخمة طُبعت في مصر، وكان عالما بالألسن الثـلاثة؛ العربية والفارسية والتركية، وأخذ الطريقة النقـشبندية عن الشيخ «محمّد مظهـر».

هل تسقط صلاة الجمعة عن المنفيين؟

اشتملت الفتاوى على الإجابة عن مسائل خاصة بالصلاة في القطار، من حيث شروط صحتها، وعذر المكلف ومتى تكون المشقة أو الخشية على المتاع أو غيرها. في هذه الفتوى يحيل الشيخ إزنور على حواشي الفقه القديمة ويقيس صلاة القطار على صلاة السفينة مع فوارق وتفريعات عليها.

وتعد من الأسئلة الهامة المتعلقة بسياق النفي والتهجير، سؤال ورد عن حكم صلاة الجمعة، حيث يورد السائل للشيخ إزنور رأي بعض القائلين من عدم وجوب الجمعة عليهم، وذلك احتجاجا بقول الفقهاء أنه إذا «أكره السلطان أهل قرية أن ينتقلوا منها ويبنوا في موضع آخر ويسكنوا فيه، وقصدهم عود إلى البلد الأول إذا فرج الله عنهم، لا تلزمهم الجمعة بل لا تصح منهم لعدم الاستيطان.. إلخ».

أجاب الشيخ بوجوب الجمعة وبيّن أدلته بتفصيل كعادته معتمدًا على أقوال السابقين بأن الجمعة واجبة في بلد تقام فيه الجمعة أو في مسمع ندائه. وفي هذه الفتوى ملمح عن شيء مما دار في ذهن جماعة العلماء في القوقاز كمسائل فقهية تترتب على وضعهم. كما لم تخل الأسئلة عن الصلاة بالطبع من حكم صلاة المسجون وما يتعلق بها من تفاصيل.

إجازة الإفطار في رمضان

أجاز الشيخ الفطر في رمضان عند وجود المشقة، وفي ذلك يروي تجربته الشخصية: «فبعد ما ذقت مشقة البركادات (جمع بركاد وهو مجموع من الناس يعملون في المزارع ومجالات أخرى) وتفكرت في كوننا مسلوبي الاختيار فيها وكون الطعام فيها إنما يكون في النهار كما يقتضيه أوضاع رسوم الحكومة. وإن أمثالنا من العوام لا يتيسر له حفظ حصتهم من الطعام المقطوع لهم إلى الليل بخلاف الخواص الذين بيدهم تدبير أمر البركاد، وكون الصيام لا يطاق إلا باستيفاء النفس حظها من الأكل المعتاد، وخاصة مع تتابع المكاسب والأعمال الشاقة في طوال الأيام الصيفية… فبناء على ذلك جريت عملا وإفتاء على جواز الفطر لمن حمله الصيام على تلك المحظورات من أهل نحو البركادات… وذلك مع القضاء عند الإمكان».

الموقف من السوفيت

ومن ضمن المسائل التي تلقاها الشيح مسألة عن الجهاد والحرب ضد الروس، وفيها دعوى أن كل ما يقدر الشيشانيون على أخذه من أموال الروس غنيمة لأنه ليس بين الشيشان والروس أمان شرعي، وفي ذلك يجيب الشيخ بأن ذلك جائز لو كانت بينهم وبين الروس حرب شرعية، وهناك توفّر للعدد والعدة، لكنه لا يجيز ذلك ويعده من فعل السفهاء لتحريك دواعي الحرب على كافة المسلمين الشيشانيين ويجب ردع كل هؤلاء وردعهم واجب شرعي مؤكد، لأنه إذا كان خروج الإمام شامل على ما توفر له من مقومات عارضه فيه علماء أفاضل؛ فماذا يكون الحال اليوم؟

ولا يستغرب ذلك على شيخ مسن شهد كافة مراحل ثورات الشيشان وتهجيرهم لسيبيريا، وفي ذلك يقول: «فانظر لحالنا اليوم بالنسبة لهؤلاء الكفار المستولين علينا، ونحن في قبضتهم كنقطة بيضاء على ثوب أسود، قلة وذلة … وذقنا مرارتها في بقاع سيبير، نرى جيف أمواتنا جوعا وشدة، ترعى عليها الكلاب والخنازير. إنا لله وإنا إليه راجعون». وخلص إلى أن ما بينهم وبين الكفار المستولين عليهم أمان كحال النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يؤمر بالجهاد وفصل في ذلك من أقوال العلماء.

كما نصح الشيخ أي فرقة تقع تحت طاعة أجنبية أن تعرف لسانها وخطها وقوانينها ليأمن مكر القوم، كما وردت مسائل عن حكم قبض الأموال التي تدفعها الحكومة لمن يقومون بالأعمال الخطيرة أو حكم دفع رشوة لفكاك شيشاني مظلوم من السلطة والتوسط له وهذه الأسئلة تبين جانبا من علاقة القوقازيين بالسلطة والأفكار التي راودتهم عن وضعهم تحت الحكم السوفيتي.

حكم سماع القرآن من الراديو

ضم واقعات سيبير مسائل أخرى وردت إلى الشيخ بعد العودة من التهجير، وهي مسائل يبدو منها وجود انفراجة نسبية من ممارسة الشعائر الدينية كمسائل عن المساجد وإقامتها أو عن حكم الاستماع للقرآن من الراديو، وهو الأمر الموصوف في السؤال أنه ذاع بين علماء الشيشان وطلبة العلم في داغستان. مثَّلت مسائل المنازعات نسبة لا بأس بها من تلك المسائل، وهي مسائل تبين بعض ملامح الحياة الريفية لكثير من السائلين.

من هذه المسائل استعارة رجل لدراجة بخارية ثم أتلفها فعلى من يكون الضمان، وإجهاض امرأة صدمها فرس فما يكون على السائق، وغيرها من المسائل ذات العلاقة بالديون والبيع والشراء، واللافت للنظر أن بعض هذه المسائل توجه بعد وقوع المشكلة، لا قبل الدخول في المعاملة من استعارة واستدانة وبيع، فيمكن النظر لهذا النوع من المسائل أنه ليس استفهاما عن الحكم الشرعي والاكتفاء بمجرد الإجابة، بل قد يتعدي لكونه حكما يبت في تلك المنازعة. كما حوى الكتاب مجموعة من المسائل التي اختلف حولها علماء داغستان وأرسولها لبعض علماء الشافعية في مكة المكرمة لسؤالهم حولها.


خاتمة

اشتمل الكتاب على مسائل متعددة لها علاقة بالزواج ومدى اعتبار الألفاظ الشيشانية في الطلاق أو الصيغ اللفظية الأخرى، كما عالج مسائل المواريث والمنازعات ومسائل محدثة كالصلاة في القطار واستخدام العطر الكحولي وغيره، ومسائل الدفن والعزاء والزواج وهي تبين مدى حرص المسلمين رغم أي تضييق على هذه الطقوس تحديدا أكثر من سواها.

هذه المسائل تبين الواقع الاجتماعي الذي عاشه أبناء الشيشان خاصة المجتمع العلمي الذي حاول الحفاظ على ترابطه رغم البعد بسبب النفي والتضييق على ممارسة الشعائر الإسلامية.

ويبدو كذلك حرص العلماء على التقليد المذهبي والعناية بالعربية وكتب العلوم الإسلامية، كما يوضح حرص السائلين على معرفة حكم الشرع في المستجدات، وإن كنا لا نستطيع الجزم بأن السائل قد طبق هذه الإجابات بحذافيرها أو إذا كان صاحب السؤال ممثل لشريحة أوسع مهتمة بتحري الأمور الشرعية أحيانا بسبب ضغط الواقع والتضييق السوفيتي على المسلمين أو حتى بسبب الجهل العام بالشريعة في إطار هذا التضييق.

المراجع
  1. Amjad Jaimoukha, The Chcens: A handbook
  2. Khassan Baiev & Ruth Daniloff: The Oath: A Surgeon under Fire
  3. إزنور بن ناصر خو الشيشاني: واقعات سيبير، تحقيق: حسن بن عثمان الشيشاني إزنور بن ناصر خو الشيشان
  4. النذير دركلي: نزهة الأذهان في تراجم علماء داغستان