في عصر تتراجع فيه قيمة الإنسان الفرد أمام الربح، وتتصاعد فيه التفاوتات الاقتصادية والاجتماعية على امتداد العالم، ومعها استغلال الفئات الأفقر والأكثر تعرضًا للاضطهاد وعلى رأسها النساء، تفرض الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية للقضية النسوية نفسها مجددًا، حيث يتجدد اضطهاد النساء وفق مُركًب متعدد السلطات في المنزل والشارع ومحل العمل.

يطرح كتاب نسوية من أجل الـ99% بيانًا جذريًا لصالح الأغلبية المضطهدة، مُنطلقًا من موجة الحراك النسائي التي تصاعدت من خلال إضرابات ونضالات مُتعددة خاضتها النساء منذ 2016 وعلى مدار عامين في أرجاء مختلفة من العالم، حيث شهد ربيع 2018 إضراب خمسة ملايين امرأة في إسبانيا «ضد تحالف الأبوية والرأسمالية» ليوم كامل، كما خاضت ملايين النساء في الأرجنتين والهند وأمريكا وبولندا خلال نفس الفترة إضرابات كاملة عن العمل المأجور، وكذلك العمل المنزلي.

يسعى البيان مدفوعًا بهذه الموجة الجديدة إلى إعادة الاعتبار للأبعاد الاقتصادية والاجتماعية لاضطهاد النساء، ودمج السياسات الهوياتية المرتبطة بمناهضة العنصرية والاستعمار مع السياسات الطبقية ضمن إطار نسوي. وذلك عوضًا عن الإطار الليبرالي النخبوي الذي أثبت فشله خلال الانتخابات الأمريكية الأخيرة وخسارة هيلاري كلينتون، هذا الإطار الذي نجح خلال العقود الأخيرة في تدجين الحركة النسوية، واختزالها إلى مطامح شريحة محدودة للغاية من نساء العالم؛ أي نساء الطبقات الوسطى العليا البِيض في دول الشمال، الهادفة إلى تقلد المناصب في الشركات والمؤسسات المالية الكبرى، حيث تحولت القضية النسوية إلى مشروع «تكافؤ الفرص في الهيمنة»، أي جعل نصف المستغِلين (بكسر الغين) من الرجال والنصف الآخر من النساء، بدلًا من تجفيف منابع الاستغلال التي تُؤبِد الأوضاع البائسة لأغلبية النساء حول العالم.

تقف النسوية الليبرالية عند حدود تنصيب المرأة في مواقع النخبة المالية والسياسية المُستغِلة داخل الشركات والبنوك والأحزاب الكبرى، والتوافق مع سياساتها الساعية إلى إدامة نظام اقتصادي عالمي يعيش على استنزاف الموارد الطبيعية والعمل المنزلي المجانيين، واستغلال النسبة الأكبر من سكان العالم، وتقع أغلبية النساء على رأس قائمة ضحاياه.

ليس بالقانون وحده تنتصر المرأة

تدعم النسويات الليبراليات –على سبيل المثال– حق الإجهاض، وتسعي لتقنينه، لكنها ترفض معالجة الشروط الاقتصادية التي تحرم غالبية النساء من الاستفادة الفعلية بذلك الحق، لأنه مع تخفيض الإنفاق الحكومي على الصحة، وخصخصة القطاع الصحي، وإخضاعه لقواعد الربح والاستثمار، ليس في الغرب فقط، وإنما حول العالم بواسطة خطط الهيكلة النيوليبرالية التي يقودها صندوق النقد الدولي، لن تتمكن أغلبية النساء من دفع تكاليف الإجهاض حتى لو سمح القانون بذلك.

كذلك حين تروج النسوية الليبرالية لمَنح القروض متناهية الصغر لنساء العالم الثالث، فإنها لا تفعل أكثر من تحميلهن مزيدًا من الديون، مع الأخذ بالاعتبار هشاشة مدخراتهن في مواجهة مستويات التضخم في بلدانهن الفقيرة، والتي تحولت بدورها إلى تخفيض النفقات الاجتماعية، تحت إشراف المؤسسات المالية الكبرى (صندوق النقد والبنك الدوليين) والشركات العابرة للقارات، هذه المؤسسات والشركات التي تعتبر النسوية الليبرالية تنصيب النساء في مجالس إداراتها غاية النضال النسوي.

تضغط النسوية الليبرالية أيضًا لتغليظ العقوبات الجنائية في جرائم التحرش والعنف ضد المرأة، وتتجاهل مرة أخرى معالجة الظروف الاقتصادية التي تجعل كثيرًا من النساء في موقف ضعف لا يمكنهن من رفض تلك الممارسات ومنع حدوثها، فالمرأة التي تعمل بمصنع ملابس في العالم الثالث، ترضخ حفاظًا على وظيفتها، وكذلك تفعل المرأة المُهاجرة إلى دولة صناعية، بل قد تضطر للعمل بالدعارة، وتحمّل عنف القوادين ورجال الشرطة المحليين والزبائن كي تتجنب الترحيل.

تصب «النسوية العقابية» -كما يدعوها البيان- على المدى الطويل في صالح فئة محدودة من نساء الطبقات الوسطي البيضاء، اللاتي يمتلكن من الحصانة/المكانة الاجتماعية والضمانات الاقتصادية ما يمكنهن من مقاضاة مرتكبي العنف أو الإساءة دون الخوف من فقدان مصدر رزقهن. بذلك تقع النسوية العقابية في خطأ «افتراض أن بنية العقاب مفصولة عن سلطة رأس المال»، فلدى الأجهزة الأمنية (وهي أجهزة سلطوية بالأساس) انحيازاتها الطبقية والعنصرية. وقد أثبت الاعتماد على النظام الجنائي وحده في مقاومة العنف ضد المرأة، أنه يؤدي إلى إفلات نسبة أكبر من الرجال المذنبين، فمثلًا، تستهدف الحملات ضد الاتجار بالبشر ترحيل المهاجرات غير الشرعيات ممن أُجبرن على هذا العمل بالأساس، وإطلاق القوادين والتجار أحرارًا.

فالعنف جزء من المؤسسات السياسية والقانونية التي تخدم استمرار النظام الرأسمالي، وتساهم عوامل اللون والإثنية في مضاعفة آثاره، هكذا كانت النساء الملونات أكثر من تعرض للطرد من المنازل خلال أزمة 2008 التي ضربت قطاع العقارات الأمريكي، كما خفضت الحكومة البريطانية دعمها لملاجىء المعنفات أسريًا ضمن أولى خطوات إعادة الهيكلة النيوليبرالية.

نهب العمل المنزلي

يُناقش البيان بصورة رئيسية ما يُعرَف بـ«إعادة الإنتاج الاجتماعي» اللازم لاستمرار التنظيم الاقتصادي الرأسمالي، ودور النساء فيه. والمقصود بإعادة الإنتاج الاجتماعي ببساطة هي عملية إنتاج/تأهيل/تربية البشر، بدءًا بإنتاجهم البيولوجي (حملهم وولادتهم) وبذل الطاقة البدنية والعصبية في رعايتهم، التي تتضمن تنميتهم جسمانيًا وثقافيًا، وإكسابهم الميول والقيم المختلفة التي تؤهلهم لأن يصبحوا في المستقبل قوى عاملة قادرة على شغل المهن المختلفة داخل السوق، وتلبية حاجات الإنتاج الرأسمالي في كافة صوره.

تقوم النساء بهذه المهنة الشاقة مجانًا، وتستفيد الرأسمالية من هذا العمل المجاني بالحصول على قوى عاملة جاهزة دون دفع مقابل للمرأة، فهي تقوم بالعمل المنزلي الضروري من أجل تجديد الزوج والأبناء لطاقاتهم التي يبذلونها في الإنتاج، لكن صاحب العمل يدفع نقودًا مقابل عدد ساعات عمل الزوج فقط، وكأن الأخير يمكنه الاستمرار دون عمل المرأة المنزلي الذي يضمن له تجديد طاقاته.

نجحت الرأسمالية دومًا في تصوير العمل المنزلي وكأنه بلا قيمة اقتصادية. بالإضافة إلى ذلك فقد قلّصت نسختها النيوليبرالية مكتسبات الرعاية الصحية والنقل العام والتعليم المجاني، التي حققتها نضالات الطبقات العاملة والمتوسطة عبر عقود، والتي مثلت نوعًا من التعويض المحدود عن قيمة العمل المنزلي المنهوبة.

مع خروج المرأة للعمل، فإن أعباءها لم تخف بل تضاعفت، حيث صارت منشغلة بالعمل والمنزل معًا، فتتلقى أجرًا عن الأول دون الثاني، وربما استعانت بامرأة أخرى لتقوم بأعباء المنزل، لتتحمل الأخيرة أيضًا أعباء منزلها بجانب المنزل الذي يمثل محل عملها، هكذا في متتالية تتداخل فيها معايير اللون والقومية والعرق مع الطبقة، فنجد النساء المهاجرات على سبيل المثال يتعرضن لأشد أشكال الاستغلال، سواء كخادمات في منازل الطبقات الوسطى العليا، أو كعاملات في المصانع وورش التجميع والمتاجر الكبرى والفنادق، حيث يتعرضن للتحرش أو الاغتصاب مقابل الاحتفاظ بوظائفهن أو تجنب الترحيل، ويتعرضن لانتهاكات مشابهة كعاملات جنس من قبل القُوُاد وعصابات الاتجار بالبشر.

مناهضة العنف والاستعمار قضايا نسوية

يستمر النهب الاستعماري لدول الجنوب، وذلك عبر نظام الإقراض، وعقب تحصيل عمولاتها تُعيد الحكومات الفاسدة لتلك الدول (المدعومة بالأسلحة والتقنيات الغربية لقمع شعوبها) هيكلة الديون القومية برفع الفائدة المُقررة عليها، فتُخفض النفقات الاجتماعية مُوجِهة أموال الضرائب لسداد تلك الديون، وتاركة البنية التحتية تتعفن، والأسر تعاني من رداءة السكن والتعليم والقطاع الصحي، وتُضغَط المرأة في رعاية المنزل والأبناء بأقل الموارد، بل تخرج للعمل بجانب ذلك، مخاطرة بالتعرض لكافة أنواع المضايقات الذكورية التي تُسببها في أحيان كثيرة مشاعر العجز المالي، واعتبار المرأة دخيلًا على المجال العام ومُنافسًا على فرص العمل المحدودة.

ولا يعني ذلك كون العنف نتاجًا اقتصاديًا حصرًا، فهو حصيلة تضافر مجموعة من العوامل المرتبطة بالعرق واللون والثقافة بجانب الاقتصاد، فالعنف كما يُقسمه البيان مؤسسة سلطوية تقع النساء في أسفل هرمها، حيث يتم تبرير العنف تجاههن وفق معايير ثقافية تجعلهن الطرف الأضعف ضمن مجمل العلاقات الاجتماعية، بينما يتضخم وتتسع ممارسته في أوقات الأزمات الاقتصادية.

تحرير الجنسانية

قد يبدو للوهلة الأولى أن الرأسمالية أنجزت تحررًا جنسيًا هامًا شمل المثليين/ات والعابرين/ات وذوي الميول الجنسية المُختلفة، لكن بوضع الأمور في سياقها التاريخي، يتضح أن تنازلات الرأسمالية الاجتماعية والتشريعية لصالح هذه الفئات، لم تتم بغير ضغط الحركات الاجتماعية المطالبة بحقوقهم منذ ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، والتي سارت مع التحول نحو العولمة الاقتصادية والاجتماعية، والتي لم تعد تعتمد كما في السابق على الأسرة التقليدية (الغيرية)، بالإضافة لذلك، فإن ضغط تلك الحركات الهائل واكتسابها مزيدًا من المتعاطفين، أظهرا للرأسمالية وجود قطاع مهم من المجتمع يقع خارج دائرة استهلاك السلع وأنماط الحياة الجنسية التي ترّوجها الدعاية لخلق أسواق لمنتجاتها، وبالتالي فضّلت استيعاب تلك الحركات التي لم تكن لتهدأ حتى تنال حقوقها، في أطرها القانونية، ومن ثم الاستهلاكية، ورغم ذلك فإن الإطار الأساسي للملكية والحقوق الاجتماعية لم يزل مرتبطًا بالأسرة التقليدية في البلدان التي اعترفت بالزواج المثلي أو العبور الجنسي.

كذلك يتسبب تجريف الشروط الاقتصادية الملازم للرأسمالية في حرمان قطاعات مهمة من تلك الفئات من ممارسة حقوقها القانونية المكتسبة، على سبيل المثال لا توفر حكومات تلك الدول دعمًا ماليًا لعمليات العبور الجنسي، حتى إذا رغب أحد ما في إجراء العملية على نفقته الخاصة، فإن تكاليفها الخاضعة لربحية القطاع الخاص ستمنعه من ذلك. هذا إلى جانب الصعوبات التي قد يجدها الشركاء المثليين/ات في إيجاد سكن مُلائم بسعر مُناسب دون أن يتعرضوا للاستغلال أو المغالاة في الأسعار مقابل تجنب المُضايقات.

تناضل نسوية الـ99% ضد كل من الرجعية الأبوية التي تحكم على الجنسانية وفق معايير بائدة، أو وفق معايير دينية تنتهك حرية الضمير والسلوك التي تتضمن حرية ميوله الجنسية، والتي تصم ممارسات مُعينة بأنها «زنا» أو «فجور»..إلخ، وكذلك ضد التقدمية الليبرالية الزائفة التي تستغل قضايا مجتمع الميم في تجميل مشاريع استعمارية مثلما تفعل إسرائيل حين تصف نفسها بصداقة المثلية، أو كما يُبرر الليبراليون المعادون للمسلمين عداءهم ذاك بـ«رجعية» المسلمين، رغم أنهم –أي هؤلاء الليبراليون– قد يتسامحون مع المُغتصبين والمُتحرشين والرجعيين عمومًا من غير المُسلمين.

لأجل الورود والهواء النظيف

تنظر الرأسمالية للطبيعة تمامًا كما تنظر لعمل النساء المنزلي، أي بصفتها موارد مجانية لن تدفع مقابل تجديدها، فالعقيدة الربحية/الأداتية للرأسمالية تنظر إلى الطبيعة بصفتها «صنبور» طاقة لا ينضب ومكب نفايات في الوقت ذاته. لذا فقد استنزفت الوقود الأحفوري وفق أنماط الإنتاج والاستهلاك (الذي روّجته أنماط الدعاية الرأسمالية)، واضعة البشرية أمام تهديد وجودي مُحدق يتمثل في الاحتباس الحراري. وفي حين تتظاهر الشركات الغربية بالاستثمار في الطاقة البديلة والمُستدامة، فإنها تمد خطوط النفط مُهددة المياه بالتلوث، كما حدث بولاية داكوتا الأمريكية، وفي بيرو كما يذكر البيان، حيث خاضت النساء رفقة المواطنة البيروفية ماكسيما أكونا معركة ضد عملاق التنقيب الأمريكي نيومونت، واستعادت أرضها من الشركة بحكم القضاء.

تُصدر الشركات الصناعات القذرة إلى دول الجنوب، بجانب استمرار إنهاك تربتها الزراعية لغايات التصدير لدول الشمال، وتقع آثار التدمير المختلفة من جفاف التربة إلى تلوث المياه على عاتق النساء الريفيات اللائي يبذلن مجهودًا أكبر في تأهيل التربة، أو تتأثر جودة محاصيلهن بالجفاف أو بنقص الأسمدة والمبيدات التي يحتكرها وكلاء الشركات الكبرى في تلك البلدان، أو يعانين في جلب المياه النظيفة من أماكن بعيدة، أو في تنقية المياه المُتاحة(عبر غليها وتخزينها) لديهن (في ظل فقر البنية التحتية المذكور أعلاه) لذا يعتبر البيان قضية البيئة قضية نسوية جوهرية، فلا معنى لحراك اجتماعي لا يضع في اعتباره مسألة الحفاظ على الكوكب، خاصة أن استمرار الرأسمالية والنهب الطبقي والاستعماري ومعه اضطهاد النساء مشروط باستمرار الاستغلال الهمجي للبيئة. أو على حد تعبير البيان «إن تحرر النساء والحفاظ على الكوكب من الكارثة البيئية يسيران معًا ومع تجاوز الرأسمالية نفسها».