إذا كان الصحابة قد حظوا بالقدر الأكبر من الاهتمام والتبجيل في الذاكرة الإسلامية، وذلك بسبب صحبتهم للنبي الكريم، والأدوار المهمة التي لعبوها في سبيل نشر الدعوة الإسلامية، فإن التابعين قد تمتعوا أيضًا بقدر كبير من الاعتبارية والتقدير، إذ نُظر إليهم على كونهم الورثة الشرعيين لعلوم الصحابة، وعلى أنهم المادة التي اعتمدت عليها الفتوحات الإسلامية، هذا فضلاً عن وقوعهم داخل دائرة القرون الخيرية الثلاث، تلك التي ورد ذكرها في الحديث النبوي «خيرُ القرونِ قرْني، ثمَّ الَّذين يلونَهم، ثمَّ الَّذين يلونَهم…».

في هذا السياق، سنجد أن كثيراً من المصادر الإسلامية المهمة، قد تحدثت عن مجموعة من كبار التابعين، الذين عُرفوا بالزهد، واشتهروا بالتقوى والورع والعبادة، وهم أولئك الذين عرفوا باسم الزّهاد الثمانية.

أويس القرني

هو أويس بن عامر بن جزء بن مالك المرادي، ترجع أصوله إلى اليمن، ومن المُرجح أنه قد أسلم في عهد الرسول، وإن لم يقدم إلى المدينة المنورة إلا زمن الخلفاء الراشدين.

تحكي المصادر الإسلامية أن أويساً كان مستجاب الدعوة، وكان به برص في صغره، فدعا الله أن يذهبه عنه فذهب إلا جزءاً صغيراً متوارياً من جسمه، وقد انتشرت تلك القصة حتى وصلت لعمر بن الخطاب، فلما قابله طلب منه أن يدعو له، وفسر ذلك بما سمعه من الرسول «يا عمر، إذا رأيت أويساً القرني، فقل له، فليستغفر لك، فإنه يشفع يوم القيامة في مثل ربيعة ومضر، بين كتفيه علامة وضح مثل الدرهم».

المؤرخون تحدثوا كثيراً عن زهد أويس، ومن ذلك أنه «كان ليتصدق بثيابه، حتى يجلس عرياناً، لا يجد ما يروح فيه إلى الجمعة»، وكذلك كان يُضرب به المثل في العبادة، حتى يقال إنه: كان يقضي بعض الليالي راكعاً، وكان يقضي بعضها ساجداً.

أيضاً، سنجد أن كثيراً من الكرامات والخوارق قد ارتبطت باسم أويس القرني، ومنها أنه لما أقبل إليه هرم بن حيان في الكوفة ليقابله، فإن أويساً قد عرفه وناداه باسمه، فلما تعجب هرم من ذلك، قال له أويس: «عرفت روحي روحك، حيث كلمت نفسي نفسك، لأن الأرواح لها أنس كأنس الأجساد»، وذلك بحسب ما يذكر شمس الدين الذهبي المتوفى 748هـ في كتابه «سيّر أعلام النبلاء». في السياق نفسه، ذكر أبو نعيم الأصبهاني المتوفى 430هـ في كتابه «حلية الأولياء وطبقات الأصفياء»، أن أويساً قد أخبر هرم في هذا اللقاء، بمقتل عمر على يد أبي لؤلؤة المجوسي، رغم أن أخبار هذه الحادثة لم تكن قد انتقلت بعد من المدينة إلى الكوفة.

أغلبية الأخبار المرتبطة بأويس، تؤكد أنه كان من ضمن المناصرين للخليفة الرابع علي بن أبي طالب، وأنه قد حارب بجواره في معركة صفين في 37هـ، وأنه قد قُتل في المعركة بعد أن تلقى ما يزيد على الأربعين طعنة.

المقام المُبجل لأويس في الذاكرة الشيعية، يظهر بوضوح إذا ما رجعنا لبعض الروايات التي تؤكد أن الخليفة الرابع قد نادى بين أصحابه قبل المعركة، وطلب أن يبايعه مائة رجل على الموت، فلما تقدم تسع وتسعون رجلاً، نادى علي قائلاً: أين التمام؟ فخرج له أويس القرني، فكان تمام المائة.

هرم بن حيان العبدي

تحدث عنه أبو نعيم الأصبهاني في كتابه، فقال: «الهائم الحيران القائم العطشان هرم بن حيان عاش في حبه ولهان حرقاً وعاد قبره حين دفن ريان غدقاً…».

رغم أننا لا نعرف كثيراً عن هرم، فإن بعض المصادر قد ذكرت بعض المعلومات الشحيحة عن سيرته، ومن ذلك ما قيل، إنه قد سمي هرم، لأن أمه قد حملت به لمدة سنتين، حتى «طلعت أسنانه»، وأنه قد تولى قيادة بعض الجيوش الإسلامية المقاتلة على الجبهة الفارسية في زمن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، وعُين والياً لبعض المدن بعد فتحها.

في المقابل، تحكي الروايات كثيراً عن زهد هرم وتعففه عن الأموال، حتى إنه توفي مديوناً، واضطر أهله لبيع مولاه وفرسه ودرعه لسداد دينه. في السياق نفسه، تحدثت المصادر التاريخية عن تقواه وعدله، إذ ذكرت أنه لما تولى حكم إحدى المدن، أمر بإشعال النيران، فلما قدم عليه قومه وأهله لتهنئته، كلمهم من خلفها، وأخبرهم أنه لن يجيبهم في أي أمر من الأمور التي قد تغضب الله، عز وجل، لأنه يخاف من تلك النيران، ويشفق على نفسه مما هو أعظم وأشد بعد الموت.

من جهة أخرى، نُسبت له كثير من قصص الكرامات والخوارق، ومن ذلك أنه مات في يوم شديد الحرارة، فلما حُمل إلى القبر للدفن، جاءت سحابة فظللته ولم تبرح مكانها حتى انتهى الناس من مراسم الدفن.

كما ذكرت بعض الروايات، أن السماء قد أمطرت على قبر هرم في اليوم الذي دفن فيه، وما لبث أن نبت العشب على قبره في اليوم نفسه، وذلك بحسب ما يذكر ابن سعد، المتوفى 230ه،ـ في كتابه «الطبقات الكبرى».

الربيع بن خثيم

على العكس من أغلبية الزّهاد المذكورين، لا نكاد نعرف شيئاً عن حياة الربيع بن خثيم، وربما كان ذلك بسبب بُعده عن العامة، وتفضيله لحياة العزلة والوحدة. وصفه أبو نعيم الأصبهاني في كتابه، بأنه «المخبت الورع المتثبت القنع الحافظ لسره، والضابط لجهره المعترف بذنبه المفتقر إلى ربه».

بحسب ما هو معروف، فقد روى الربيع الحديث عن ابن مسعود وأبي أيوب الأنصاري، في حين روى عنه عدد كبير من التابعين، ومنهم كل من الشعبي، وإبراهيم النخعي، وغيرهم.

تتحدث المصادر عن أنه كان وثيق الصلة بعبد الله بن مسعود، وأنه كان يصنع الطعام الفاخر، ويتصدق به على المساكين والمجانين، ويطعمهم بنفسه، رغم إنكار البعض عليه. أيضاً، ذكرت المصادر كثيراً عن زهده وتقواه، ومن ذلك أنه كان يتصدق بالجزء الأكبر من عطائه، ولا يبقي عنده إلا القليل الذي يكفي حوائجه، وأنه «كان إذا سجد كأنه ثوب مطروح فتجيء العصافير فتقع عليه»، كما كان حريصاً على أداء الصلاة في المسجد في الفترة الأخيرة من حياته، وذلك رغم إصابته بالشلل، وقد ظل على تلك الحال من العبادة والورع حتى مات في الكوفة في 65هـ.

 مسروق بن الأجدع

اسمه عبد الرحمن بن مالك بن أمية الهمداني، ترجع أصوله إلى اليمن، وهو ابن أخت الفارس العربي الشهير عمرو بن معد يكرب.

من المُرجح أنه أسلم في حياة النبي، وإن قدم المدينة المنورة للمرة الأولى بعد وفاته، وقد قيل إن عمر بن الخطاب لما عرف اسمه، غيّر اسم أبيه من الأجدع إلى عبد الرحمن، لأن الأجدع من أسماء الشيطان.

كان مسروق من المقربين من السيدة عائشة، وروى عنها كثيراً من الأحاديث النبوية، كما أنه قد اشترك مع إخوته الثلاث في معركة القادسية، فأصيب يومها وشلت يده، بينما استشهد إخوته في المعركة.

بحسب ما تذكره المصادر التاريخية، فإن مسروق كان حاضراً في معركة صفين، وقد استنفد وسعه في محاولة الإصلاح بين الفريقين المتحاربين، ولم يشترك في القتال قط، وبحسب أرجح الأقوال، فإنه توفى في سنة 63هـ.

اشتهر مسروق بعمله في القضاء، وبرفضه هدايا الأمراء وأعطياتهم، ومن أشهر ما روي عنه، قوله: «لأن أقضي بقضية فأوافق الحق أو أصيب الحق أحب إليَّ من رباط سنة في سبيل الله».

نُقل عن مسروق كثير من القصص التي تشهد على عبادته وزهده، ومن ذلك أنه كان يصلي حتى تتورم قدماه، وأنه لما ذهب للحج «لم ينم إلا ساجداً على وجهه حتى رجع».

في سياق آخر، حيكت حول شخصيته الكثير من قصص الكرامات، ومنها أن الناس كانوا يستسقون بقبره إذا تأخر عليهم المطر، وكان المطر ينزل عليهم حينها.

الأسود بن يزيد النخعي

وصفه أبو نعيم الأصبهاني في كتابه بقوله: «القارئ القوام الساري الصوام الفقيه الأثير، الفقير الأسير»، وقد روى الحديث عن كبار الصحابة، ومنهم كل من أبي بكر، وعمر، وعلي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، وسلمان الفارسي، وعائشة، وقد توفي– بحسب أرجح الأقوال- في 75هـ.

تواترت أخبار زهده وعبادته في المصادر التاريخية، ومن ذلك أنه قد أدَّى الحج والعمرة ثمانين مرة، كما كان يجهد نفسه في الصوم والعبادة، حتى ذهبت إحدى عينيه من المرض، وقد لامه بعض الصالحين في ذلك ونصحوه بالاعتدال. في السياق نفسه، تحدثت بعض الروايات عن أنه كان يختم القرآن في رمضان كل ليلتين، وفي غير رمضان، كان يختمه في ست ليال.

أبو مسلم الخولاني

وصفه يحيى بن شرف النووي المتوفى 676هـ في كتابه المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج، بقوله: «مشهور بالزهد، والكرامات الظاهرة، والمحاسن الباهرة…».

روى أبو مسلم الحديث عن كبار الصحابة من أمثال كل من عمر بن الخطاب، ومعاذ بن جبل، وأبي عبيدة بن الجراح، وأبي ذر الغفاري، كما روي عنه العديد من التابعين، من أمثال كل من أبي إدريس الخولاني، وعطاء بن أبي رباح، وعمير بن هانئ.

بحسب ما ورد في العديد من المصادر، فإنه كان يداوم على صلاة التطوع، حتى قيل إن بعض الناس قد أحصى عدد ركعات صلاته ذات يوم، فوجده وقد صلى ثلاثمائة ركعة، كما أنه قد قضى الشطر الأكبر من عمره في الجهاد ضد الروم في بلاد الشام.

على الجهة الأخرى، عُرف أبو مسلم بعدد كبير من الكرامات، ومنها ما ذكره ابن عساكر المتوفى 571هـ في كتابه تاريخ دمشق، عندما تحدث عن الأسود العنسي الذي ادّعى النبوة في اليمن، وكيف أنه قد سأل أبا مسلم الخولاني إذا كان يصدق دعوته أم لا، فلما سكت أبو مسلم ورفض الإقرار له بالنبوة، أمر العنسي بإشعال نار عظيمة، ثم ألقى بالخولاني فيها، وتؤكد القصة أن أبا مسلم قد مكث في النار وهو يصلي ويدعو لله، عز وجل، فلم يصبه أي أذى، فلما شاهد العنسي وأتباعه هذه المعجزة، أخرجوا أبا مسلم من اليمن حتى لا يفسد عليهم أمرهم.

ابن كثير الدمشقي المتوفى 774هـ تحدث أيضاً في كتابه البداية والنهاية، عن واحدة من أشهر الكرامات التي اتفق وقوعها للخولاني، عندما ذكر أن أبا مسلم كان يشارك في بعض المعارك ضد الروم البيزنطيين في ناحية من نواحي بلاد الشام، ولما وجد المسلمون أنفسهم مضطرين لعبور أحد الأنهار لملاحقة جيش العدو، ولم يكن معهم السفن، فإن أبا مسلم قد دعا الله، قائلاً: «اللهم أجزت بني إسرائيل البحر، وإنا عبادك في سبيلك فأجزنا هذا النهر، ثم قال: اعبروا بسم الله»، وتُستكمل الرواية بأن الجيش كله قد اجتاز النهر من دون أن يفقد أحدًا من جنوده.

الحسن البصري

هو الحسن بن يسار، ولد في المدينة المنورة، وكانت أمه تخدم في منزل السيدة أم سلمة زوج النبي، ولما شبَّ الحسن، انتقل للبصرة وأقام فيها، وعُرف بكونه أحد أشهر العلماء المسلمين في زمانه.

باختصار، يذكر الدكتور حسين عطوان في كتابه الفقهاء والخلفاء في العصر الأموي، الملامح الأساسية لمدرسة الحسن البصري وكيفية تفاعلها مع السياسية في القرن الأول الهجري، فقال: «أقر الحسن البصري بخلافة بني أمية، وأدرك أكثر خلفائهم… وبايع لهم، ونفّر الناس عن الالتحاق بالثائرين عليهم، وحذّرهم من المشاركة في الفتنة، وأمرهم بِاتباع الجماعة، وكان أقوى فقهاء العراق في الدعوة إلى ذلك».

ابن منظور المتوفى 711هـ نقل في كتابه مختصر تاريخ دمشق، أحد أهم البراهين على طريقة الحسن البصري الداعمة للسلطة، عندما ذكر أن الناس لما أرادوا الثورة على الأمويين، فإن الحسن البصري قد هدّأهم، وقال لهم: «أيها الناس، إنّه والله ما سلط الله الحجاج عليكم إلا عقوبة، فلا تعارضوا عقوبة الله بالسيف، ولكن عليكم بالسكينة والتضرع».

مكانة الحسن البصري تظهر في العقل السني بشكل واضح، من خلال كثير من الروايات التي أشادت بعلمه من جهة، والتي زجت بِاسمه في بعض قصص الكرامات والخوارق من جهة أخرى. على سبيل المثال، تحدثت بعض المصادر أن عمر بن الخطاب قد دعا الله له ذات مرة، فقال: «اللهم فقهه في الدين وحببه إلى الناس»، أيضاً ذكرت بعض الروايات أن أم المؤمنين، أم سلمة، كانت تحمله أحياناً أثناء انشغال أمه في أعمال المنزل، فكان إذا جاع، در ثديها اللبن، وأرضعته. الأمر الذي جرى تفسيره على كونه إشارة للعلم النبوي الذي سينهل منه البصري فيما بعد.

عامر بن عبد القيس

وصفه أبو نعيم الأصبهاني في كتابه، بأنه «المراقب المستحي السالم المستضيء»، وقد روى الحديث النبوي عن مجموعة من كبار الصحابة من أمثال كل من عمر بن الخطاب، وسلمان الفارسي، ونال حظوة كبيرة في أوساط التابعين، حتى لقبه كعب الأحبار بـ«راهب الأمة».

تواترت أخبار عبادته وزهده في الأغلبية الغالبة من كتب التراجم والطبقات، فقيل إنه: كان يصلي كل يوم ألف ركعة، وأنه قد امتنع عن الزواج، ورفض شراء الجواري، كما أشارت بعض المصادر لجرأته في الحق، فذكرت أنه قد مر يوماً على حاكم البصرة وهو يظلم أحد الذميين، فنصر الذمي وعاتب الحاكم، فأُخرج عامر منفياً إلى بلاد الشام، وظل فيها حتى توفي.

من جهة أخرى، قيل إن عامراً كان من ضمن الوفد الذي انتدبه أهل العراق للسفر إلى المدينة المنورة، للقاء الخليفة الثالث عثمان بن عفان، لإبلاغه بما يغضبهم من الولاة القريشيين الذين يديرون شؤون الكوفة والبصرة، ويورد مسكويه في كتابه تجارب الأمم وتعاقب الهمم، تفاصيل النقاش الحاد الذي دار بين عامر وعثمان في هذا اللقاء.

أيضاً، تحدثت المصادر عن مجموعة من الكرامات التي رويت في حقه، ومنها أنه قد مر يوماً على قافلة قد وقفت ولم تكمل طريقها، فلما سأل أصحابها عن سبب وقوفهم، قالوا له: إن هناك أسداً على الطريق، وأنهم يخافون منه، فهون عليهم الأمر، وقال لهم: «هذا كلب من الكلاب فمر به حتى أصاب ثوبه فم الأسد».

من تلك الكرامات أيضاً، أن النار قد اشتعلت في أحد المنازل القريبة منه، فلما قيل له أن يخرج من منزله خوفاً من أن تصل النار إليه، رفض وقال: «دعوها فإنها مأمورة» وأقبل على صلاته، وانتشرت النار في كل مكان، حتى إذا ما بلغت داره عدلت عنها.