لم يكن قرار تحرير سعر صرف الجنيه المصري صباح الخميس الماضي مفاجئا، ليس فقط بسبب ما سبق القرار من أخذ ورد وإشاعات وقفزات في سعر الدولار، ولا فقط بسبب موضوع الساعة، المُتمثل في قرض صندوق النقد الدولي بما هو معروف عنه من اشتراطات يمثل التحرير أحد مكوناته، بل لما هو أهم من كل ذلك وأبعد غورا وأعمق جذورا؛ وهو طبيعة النمط الاقتصادي الذي لم يكن يحتمل نهايةً أخرى، وهذا النمط هو ما تمثل مناقشته إجابة السؤال الهام: كيف وصلنا إلى هنا؟.


أزمة نمط: كيف وصلنا إلى هنا؟

تبدأ القصة بما عُرف بـ «الانفتاح الاقتصادي» الذي صدرت أول قوانينه عام 1974م، الذي لسنا بمحل مناقشة تفاصيله لكثرة ما سُكب حولها من حبر. هذا الانفتاح الذي تقررت به العودة للاقتصاد الحر ورفع يد الدولة جزئيا عن النشاط الاقتصادي، ليس فقط لاعتبارات اقتصادية كما زعمت الحكومة وقتها، بل أيضًا كجزء من أوراق اعتماد التحاقها بالمعسكر الغربي!.

المهم أن هذا الانفتاح كما يشير اسمه يعني أساسًا – ضمن سياسات عديدة – فتح الأسواق بتحرير التجارة الخارجية، وبحيث يحق للقطاع الخاص التعامل الحر مع العالم الخارجي استيرادا وتصديرا مع توجيه وإدارة حكومية محدودة تتقلّص تدريجيًا، وحرية حركة رؤوس الأموال للداخل والخارج، وهذا بالطبع في إطار من حرية نشاط القطاع الخاص عمومًا.

ولا معنى بالطبع لمناقشة الإطار النظري لهذه السياسة؛ لأن المهم دائمًا والحقيقي في أي ظاهرة هو مناقشة وتقييم تجسّدها الواقعي، وهذا هو ما نقصده بـ «النمط الانفتاحي» موضوع النقاش، وهو الذي تجلّى في عدّة سمات أساسية أهمها فيما يخص نقاشنا هنا، ما يلي:

1. على مستوى الإنتاج المادي

تراجعت القطاعات السلعية لصالح القطاعات الخدمية، وهكذا نجد أنه خلال الفترة 1975 – 2015م، انخفض نصيب الزراعة من الناتج المحلي الإجمالي، وفقًا لبيانات البنك الدولي، من 29.03% إلى 11.8% منه، وهو انخفاض كان يمكن أن يكون طبيعيا، لولا أنه ارتبط في السياق المصري بانخفاض الإنتاجية وتضخم الفجوة الغذائية.

كما انخفض نصيب الصناعة التحويلية من 17.41 % إلى 16.59% منه، على عكس الاتجاه الطبيعي لأي اقتصاد متخلف يطمح للتصنيع، بينما ارتفع نصيب الخدمات بشكل ضخم من 44.07% إلى 52.50% منه.

2. التجارة الخارجية

انعكس هذا بالسلب على حجم وأثر التجارة الخارجية لمصر، فلم يعد الاقتصاد المحلي قادرًا على إشباع احتياجاته الداخلية؛ ما زاد من اعتماده على الخارج وانكشافه عليه، فبلغ حجم التجارة الخارجية إلى الناتج المحلي الإجمالي 24.9% في العام الماضي، وهى نسبة كبيرة بالنسبة لاقتصاد ليس صغيرا وليس اقتصاد تصدير بأي حال؛ ما يعني درجة عالية من الانكشاف على الصدمات الخارجية والتأثر بتقلبات الأسواق الدولية.

كما أدى ضعفه الإنتاجي هذا لقصور عرضه المحلي عن تغطيه الطلب؛ ومن ثم لعجز مُزمن في الميزان التجاري، حيث تزيد الواردات على الصادرات دائمًا، حتى وصلت لدرجة أن لا تغطي الأخيرة سوى حوالي ثلث الأولى أواسط عام 2015م.

3. النقد الأجنبي

كما انعكس بالسلب على هيكل ميزان المدفوعات عمومًا؛ بحيث اختلفت طبيعة استخدامات النقد الأجنبي عن موارده، فبينما غلب على الأولى طابع الضرورة للاستهلاك والإنتاج المحلي، ومن ثم طابع الاستقرار وصعوبة تقليصها؛ غلب على الثانية طابع الريعية، ومن ثم التقلّب والتدهور في الأجل الطويل.

4. عجز الميزان التجاري

وهكذا يتم تغطية عجز مُزمن مؤكد بفوائض متقلبة وغير مضمونة، فيتم تغطية عجز الميزان التجاري (صافي الصادرات والواردات السلعية) بفائض ميزان الخدمات والدخل (صافي الصادرات والواردات الخدمية) وفائض التحويلات الجارية (تحويلات العاملين بالخارج والمنح)، وهو ما يمكن تفصيله من تقرير البنك المركزي المصري لعام 2015/2014م كنموذج فيما يلي:

أ- بلغ عجز الميزان الجاري 12.2 مليار دولار، وهو العجز المتجدد سنويًا نتيجة للاستخدامات والموارد الطبيعية للاقتصاد المصري، حيث بلغ عجز الميزان التجاري 38.8 مليار دولار. يمثل الفارق الهائل بين واردات مصر الضرورية من جهة، وصادراتها المتواضعة غير المُستقرة التي تبلغ نسبة الصادرات البترولية منها حوالي 40% من جهة أخرى، مقابل فائض ميزان الخدمات والدخل الذي يتأتى معظمه من السياحة وقناة السويس، بقيمة 4.7 مليار دولار، وفائض التحويلات الجارية الخاصة (تحويلات العاملين بالخارج) الذي بلغ 19.2 مليار دولار والتحويلات الجارية الرسمية (المنح والهبات الحكومية) التي بلغت فقط 2.7 مليار دولار بعد أن غضبت علينا وملّت منا حكومات الخليج!.

والخلاصة أن لدينا ميزانًا تجاريًا أعباؤه مستقرة وضرورية يصعب تقليصها، بينما موارده متقلّبة وغير مضمونة ومشروطة بإرادة الخارج؛ ما يجعل الاقتصاد مهددا بالعجز المستمر عن تغطية احتياجاته من الموارد عمومًا ومن النقد الأجنبي خصوصًا، كما يعزز من تبعيته ويضعف استقلالية القرار السياسي.

ب- بإضافة فائض المعاملات الرأسمالية والمالية (الاستثمار الأجنبي المباشر وغير المباشر والقروض) المتقلّب بطبيعته – الذي رغم ضرورته إلا أنه يحمل معه هو الآخر مخاطر على استقلال الاقتصاد الوطني والقرار السياسي – بقيمة 17.6 مليار دولار إلى عجز الميزان التجاري المذكور، يصبح فائض ميزان المدفوعات 5.4 مليار دولار نظريا، يُخصم منها 1.7 مليار دولار صافي سهو وخطأ (!!)؛ ليصبح فائض ميزان المدفوعات 3.7 مليار دولار.

5. عجز الموازنة المزمن

عانت الموازنة العامة من عجز مُزمن، حيث نتج عن هذا النمط الاقتصادي بما له من طبيعة خدمية وريعية، ضعفا في الإنتاجية وسوءًا في توزيع الدخل القومي؛ بما أدى لضعف الحصيلة الضريبية، وهو الضعف الذي تعزّز بضعف كفاءة الجهاز الضريبي خصوصًا والحكومي عمومًا، وبانحياز القوانين الضريبية للأغنياء، وكثرة الثغرات والتلاعبات بها، بحيث نتج عن هذا كله ضعف وعجز في الإيرادات العامة المتوافرة عن تغطية النفقات العامة الضرورية؛ بما دفع الحكومات المتعاقبة لسياسة التمويل التضخمي لتغطية ذلك العجز المُزمن.


التدهور المستمر

وبالنظر لسمات هذا النمط كما كشفتها سنة 2015/2014م كنموذج – حقق فائضًا هشًا كما نرى! – يتبيّن لنا عدم استدامته، حيث عجز تجاري مزمن شبه إجباري يتم تمويله بموارد غير مستمرة غير مضمونة، وبشكل يخلق حالة احتياج مستمرة لنقد أجنبي واحتياطيات دولية عمومًا، كذا عجز مُزمن في الموازنة العامة يتم تمويله تضخميا، ليجتمع العجزان ليرتبا ضمن آثار أخرى اتجاها عامًا مُستمرا لتدهور قيمة الجنيه المصري.

هذا التدهور المستمر في قيمة العملة الناتج عن طبيعة النمط الانفتاحي، الذي رافقه منذ بدايته أواسط السبعينات، بما مثل ما يشبه معركةً سيزيفية لكثرة ما صدر ضمنها من تشريعات وأنظمة تكفي حكايتها لكتابة مجلدات في تاريخ السياسة النقدية؛ نقول: هذا التدهور المستمر الذي يعكس تضخمًا هيكليًا، له عديد من الآثار الأخرى تعمّق طبيعة النمط وأزمته، أهمها تعزيز اختلال هيكل الاستثمار لصالح القطاعات الخدمية على حساب القطاعات السلعية، ولحساب الأنشطة الريعية على حساب الأنشطة الإنتاجية، بحيث تتعمّق الميول الركودية في الاقتصاد، فلا ينتج وظائف كافية، ولا ينتج ما يكفي الطلب المحلي من السلع والخدمات؛ ليزداد اعتماده على الخارج ويتعمّق عجزه المالي محليا والتجاري خارجيًا، فتتدهور عملته أكثر، وتستمر الحلقة الخبيثة التي لسنا بمحل شرح كافة أبعادها المرعبة!.

المهم أن هذه الحلقة الخبيثة في جانبها المتعلق بتدهور العملة، ومع أثرها العرضي المُتمثل في المضاربات على تلك العملة، تخلق ثقباً أسود كبيرًا يبتلع أي احتياطيات نقد أجنبي تملكها الدولة وتحاول بها دعم سعر صرف العملة الوطنية لمنعه من المزيد من التدهور؛ ما ينتهي لاستنزاف ذلك الاحتياطي والاعتماد على القروض الأجنبية كحل مؤقت له حدوده، لنصل في النهاية للتخلّي عن دعم العملة وتركها للتعويم، أو الغرق إذا لم تكن تجيد العوم، وهذا ما ينقلنا منطقيا للسؤال التالي.


هل التعويم حل؛ أي إصلاح للنمط؟ أم فشل؛ أي تسليم بعجزه؟

وتتطلب الإجابة على هذا السؤال مناقشة التعويم من جانبي مزاياه النظرية كما يصدّرها مؤيدوه وبلاياه العملية كما يؤكدها منطق وواقع البلاد المتخلفة التي تنتمي لها مصر.

أما عن مزاياه المُدعاة نظريًا، فهي أولاً علاج العجز في ميزان المدفوعات، باعتباره سيجعل الأسعار النسبية للصادرات المصرية أرخص فتزيد كميتها وعوائدها ، فيما سيجعلها أعلى للواردات المصرية فتقل كميتها ونفقاتها، فيتقلّص العجز التجاري الذي يمثل قلب العجز الجاري، وصولاً لتصفيره وانقلابه فائضا في أحسن الأحوال. وثانيًا أنه سيصلح تشوهات الأسعار بما يحسّن تخصيص الموارد الاقتصادية على استخداماتها المختلفة، فتزداد الكفاءة الاقتصادية ويرتفع معدل النمو الاقتصادي.

وهذا ينقلناه لمناقشة مدى واقعية هذا التصوّر، كذا المضار العملية له عمومًا، كما يتضح من النقاط التالية:

1. لا تكفي تغيّرات الأسعار النسبية لصادرات وواردات الدولة لتغيّرها بالدرجة المطلوبة أو حتى بأي درجة؛ لأن هناك عوامل أخرى غير الأسعار تؤثر فيها، وأهمها قدرة الجهاز الإنتاجي على زيادة عرض الصادرات بفرض زيادة الطلب عليها، ومدى إمكانية التخلّي عن الواردات سواء لضعف ضرورتها أو بالقدرة على إحلال بديل محلي محلها.

2. سيؤدي التعويم، خصوصاً في ظل استمرار العجز التجاري والتمويل التضخمي ، إلى مزيد من التضخم، بما له من آثار سلبية على عجز الموازنة العامة والدين العام ومعدل التبادل الدولي وسوء توزيع الدخل القومي، كذا أسعار السلع الاستهلاكية ومستلزمات الإنتاج المُستوردة وكلفة الواردات الاستثمارية، فضلاً عن تزايد المضاربات على هبوط العملة وتسهيل هيمنة رأس المال الأجنبي على الأصول المحلية التي تغدو أرخص بالنسبة له.

3. سيؤدي التعويم لعدم استقرار سعر صرف العملة؛ بما يشوّه كافة الأسعار خلافا لتوقعات مؤيديه، كما سيضعف حوافز الادخار والاستثمار عمومًا، والاستثمار الأجنبي خصوصًا، وسيدفعه نحو القطاعات الريعية المضمونة والخدمية سريعة العائد والخارجية التي تتعامل بالنقد الأجنبي من بنوك وسياحة ومناطق حرة،… إلخ؛ ما يعمّق طابع النمط الريعي غير الإنتاجي مصدر الأزمة أساسًا!.

4. سيدفع عدم استقرار العملة لمزيد من ضعف الثقة بها، وتعاظم ظاهرة الدولرة، فتفقد الدولة المزيد من سيادتها النقدية وفقدانها لفاعلية أي سياسة نقدية محلية، حيث تفقد العملة وظائفها بالتدريج، بدءًا من فقدان وظيفة مخزن القيمة، ثم وظيفة وحدة الحساب والتبادل الآجل ، وصولاً لانتهائها تقريبا بفقدانها وظيفة وسيط التبادل.

5. يؤدي فقدان السيادة النقدية لاكتمال حلقات التبعية، فتفقد الدولة الوطنية قدرتها على استخدام السياسة النقدية بفاعلية؛ ما يسهم في تعميق عجزها عن إعادة تجديد الإنتاج الاجتماعي بشكل مستقل، فيرتهن استمراره ويستمد بقاؤه واتجاهات تطوره من المركز الرأسمالي المتبوع، وليس من احتياجات تطوره الخاصة، وهذا هو جوهر التبعية ولب التخلّف.

6. لن ينجح التعويم إلا بكبح الاستهلاك الخاص، وبالتحديد للطبقات الوسطى والفقيرة الأكثر تأثرا بالتضخم، علما بأن ذلك الاستهلاك الخاص هو المحرّك الأساسي لنمو الاقتصاد المصري في ظل ذلك النمط؛ ما يضيّق السوق المحلي ويدخل الاقتصاد في حالة ركود تعزز أزمته بدلاً من حلها.


خاتمة

وبجمع ما سبق من آثار لم نفصّل كثيرًا منها، يتضح أن سياسة التعويم ليست حلاً لأزمة النمط بقدر ما هي امتداد وتعميق لأزمته، فأزمة العملة ليست سوى عرض لأزمة النمط الانفتاحي نفسه، وما تعويمها اليوم سوى نوع من استكمال حلقات التخلّي عن أي برنامج للتنمية المُستقلة، وبيع للاستقلال الاقتصادي والسيادة الوطنية في سوق النخاسة الرأسمالية!.

ولا يُحتج هنا بالدول الرأسمالية المتقدمة التي تختلف ظروفها جذريا عن ظروف اقتصاد متخلف كالاقتصاد المصري، بل إنها هي نفسها، وعلى عكس كافة ما تصدّره لنا هي وأذنابها من دعاوى تحرير وانفتاح ندفع ثمنه غاليا منذ أربعين عامًا، تمسّكت لفترات تاريخية طويلة – وجزئيا حتى الآن بحسب الضرورة – بحماية عملاتها وأسواقها حتى استكملت تطوير قدراتها الإنتاجية وبناء اقتصاداتها المستقلة. وما آخر التجارب التنموية، مُتمثلةً في الصين، عنا ببعيد!.