يعتبر المخرج كريستوفر نولان واحدًا من أكبرِ المُخرِجين في وقتِنا الحالي؛ قدم المخرج لنا العديد من الأفلام المهمة في تاريخ السينما، بل نجد أن جميع أفلامه إلا فيلمين فقط في قائمة IMDB لأفضل 250 فيلمًا؛ إذا عُدنا إلى الوراء قليلًا، سنجد أن له أفلامًا شهيرة بميزانية كبيرة مثل «Inception» و«The Prestige» وثلاثية باتمان الشهيرة، وغيرها؛ لكن إن تركنا هذه الأفلام كُلها ووقتنا الحالي، وذهبنا إلى تسعينيات القرن الماضي سنجد أن الأمور مُختلفة بعض الشيء تمامًا، وقتها لم يكن نولان يملك المال لصناعة فيلم في المستوى الذي نراه الآن، ولم تكن هناك شركات لمساعدته، بل إن الشركات لم تكن تعرفه من الأساس. كيف وصل من هذه النقطة إلى النقطة التي نراها الآن؟ الإجابة ببساطة أنه استغل كل الإمكانيات المُتاحة أمامه لصناعة فيلمه الأول «Following».

هذا المقال هو مُغامرة سريعة في كواليس هذا الفيلم، وفي عالم كريستوفر نولان قبل نجاحه؛ محاولة لاستخلاص بعض الدروس التي تجعل صانع الأفلام يقدم أفضل ما لديه مهما كانت الإمكانيات.

كتابة السيناريو: قيد نفسك حتى تضمن النجاح

ربما تُعد المشكلة الأساسية عند صانع الأفلام المبتدئ، هي أفكاره الحالمة التي تخلق فجوة كبيرة بينه وبين الواقع؛ فنراه يبدأ بأفكارٍ شاطحة، ويترك لخياله الحرية الكاملة في كتباتها، يفكر في أنه سيقدم الفيلم الذي ينقص هذا العالم، ويفكر في الفن وحرية الفنان، لكن المشكلة أنه عند إنهاء السيناريو سيجد أنه من المستحيل أن ينتجه وحده، أو قد ينتجه لكنه سيكون مليئًا بالعيوب والمشاكل بسبب الميزانية المنخفضة التي يملكها، وبالطبع لن تخاطر شركات إنتاج كبيرة مع صانع أفلام مبتدأ. عرف نولان هذه المشكلة من البداية وقرر أن يضعها نصب عينيه، كان يعرف أنه لا يملك إلا القليل من المال ومجموعة من أصدقائه وزوجته، لذلك كَتَبَ السيناريو وهو يضع بعض الحدود لنفسه، يُحدد الأشياء التي يمكنه تنفيذها، والأشياء التي لا يستطيع تنفيذها؛ هنا قرر نولان بنفسه أن يتنازل عن حريته، أو بصياغة أقل حدة، كان يتحايل على القصة أثناء كتابة السيناريو مُحاولًا أن يجد الطريق الأنسب لقول ما يريده من دون أن يشعر المشاهد أنه كان مُضطرًا لسلك هذا الطريق.

في أحد المشاهد في الفيلم نجد المرأة التي ذهب الكاتب مع كوب ليسرق منزلها وهي تحكي له القصة التي رأتها بعينها من الرجل الأصلع التي كانت على علاقة به، فحكت له أن هذا الرجل كان يريد المال من رجل آخر، ولما تأخر عن دفع المال له، بدأ بضربه في منزلها بمطرقةٍ حطم بها أصابعه وجمجمته.

وفي مشهدٍ آخر نرى الكاتب الشاب وهو يسرق خزانة الرجل الأصلع وفجأةً يظهر أمامه رجل يرى ما يحدث فيضربه الشاب بالمطرقة حتى يقع في بركةٍ صغيرةٍ من دمه. هذه المشاهد في الأساس لم يكن من المُفترض أن تُكتب بهذا الشكل، ففي مشهد مثل مشهد قتل الرجل بالمطرقة بعد تكسير أصابعه كان من الطبيعي أن نرى سلاحًا ناريًا، لكن نولان عرف أن أي مشهد به سلاح ناري سيكون من الصعب تنفيذه، لأن هذه الأسلحة تحتاج إلى ميزانية كبيرة حتى تخرج بالشكل المطلوب، لذلك لجأ إلى المطرقة، سلاح رخيص يمكنه الاعتماد عليه في إتمام المشهد، هذا التحايُل على القصة ربما لن يلاحظه المشاهد أثناء الفيلم، سيرى المطرقة والحدث ولن يفكر في البدائل الأخرى التي كان من الممكن أن يستعملها المخرج.

كما ترى في الفقرة السابقة، كيف يمكنك الهرب من مأزق كبير، بتغيير وتعديل بعض الأشياء في السيناريو، هذه الأشياء هي ما تضمن خروج فيلمك بشكلٍ جيدٍ في النهاية، وكما كان يُفكر نولان في هذه الأمور كان يُفكر أيضًا في عدد الشخصيات، وفي مواقع التصوير، كانت الأوراق بيضاء فارغة على مكتبه، وقرر أن يكتب فكرته بالكثير من الحدود، لكنها في النهاية خرجت بالشكل الذي نراه. بالطبع هذه النقطة ليست تشجيعًا على التنازل عن حرية الفنان، ولكنها توضح كيف يُمكنه استغلال كل ما يملك حتى يُري الشركات والصناع ما هو قادر عليه، وحينما تأتيه الفرصة المناسبة سيعرض ما لديه بحرية كاملة.

اصنع فيلمك بطريقة عملية وواقعية

بعد الانتهاء من كتابة السيناريو تبدأ رحلة صناعة الفيلم، والتي تعتبر المرحلة الأصعب على الإطلاق، وذلك لأن المُخرج يجد نفسه في حاجة لتأجير مواقع تصوير، وللتعاقد مع ممثلين، والكثير من الأمور الأخرى التي ستدُخل صانع الأفلام المبتدئ في دائرة كبيرة من التعقيدات. استطاع نولان الهروب من هذه المشاكل ببعض القرارات؛ أولها أنه لن يصور الفيلم على دفعة واحدة، فقام بتقسيم عملية التصوير حتى يعطي نفسه حرية أكبر، في البداية قرر أن يصور الفيلم في ستة أشهر، لكنه انتهى منه بعد عام.

لم يكن قادرًا على التعاقد مع ممثلين كبار، فعمل مع مجموعة من أصدقائه، كانوا في وظائفهم، وفي عطلة نهاية الأسبوع كانوا يجتمعون لتصوير دقيقتين أو ثلاثة من الفيلم، بتقسيم العمل بهذه الطريقة على مدار عام كامل، أصبح الحصول على فيلمٍ كاملٍ في النهاية أمرًا منطقيًا.

لم يكن أمام نولان وأصدقائه الكثير من الوقت عند التصوير، كانت مواقع التصوير تُحدد قبل اجتماعهم، كان نولان يجتمع مع الممثلين لمعرفة ماذا يريدون من المشهد بشكلٍ محدد مما جعل الأمر كله ينتهي بسرعة وبدقة، كان المشهد يصور مرة واحدة فقط أو مرتين، وهذا ليس لضيق الوقت فقط، بل لأن شرائط التسجيل التي تُركب في الكاميرا، والأدوات التي تيسر عملية الإنتاج كانت مُكلفة بالنسبة له.

طريقة إدارة الوقت وتصوير المشاهد سريعًا، تعلمها نولان من عمله في مجال الإعلانات، كانت الشركة تُرسله إلى شخصية مُهمة، هذه الشخصية لا تملك الكثير من الوقت لإعلان أو لتقرير صحفي، فكان يجب على نولان أن يُجهز مُعدات التصوير بسرعة، وأن يُنهي ما يريده معهم في دقائق قليلة، وبالكيفية نفسها تم العمل في «Following».

التصوير: العديد من القرارات الموفقة

اعتمد نولان في التصوير على كاميرا «Arriflex 16 BL» وكاميرا «mm 16 Bolex»، كان يستعمل الكاميرا الأخيرة في تصوير مشاهد الشوارع والمشاهد التي يريد أن يتحرك فيها بحرية. يعتمد نولان في تصوير مشاهده على كاميرا واحدة منذ فيلمه الأول حتى أفلامه الكبيرة، إلا مشاهد الأكشن التي يُضطر فيها إلى استعمال أكثر من كاميرا. كما لا يحب نولان أن يستعمل العدسة المكبرة كثيرًا، يحب أن يتحرك حول الممثل ليجعل المشهد أكثر واقعية وجمالًا، كان يحمل الكاميرا على كتفه، ويقترب إذا أراد الاقتراب ويبتعد إذا أراد ذلك، أما الإضاءة فكان يعتمد على ثلاث قطع من «Redhead kit» بقوة 800 وات، وفي أحيان أخرى كان يستعمل «2K Blonde» 2000 وات.

عرف نولان من البداية التحديات التي تواجهه إذا أراد أن يجعل فيلمه مُلونًا، كان يعرف أن الألوان بها الكثير من التفاصيل التي يجب عليه الاهتمام بها، ولم يكن قادرًا على ذلك، وحتى تُحل هذه المُشكلة قرر التخلي عن الفيلم الملون، وبدأ بتصوير الفيلم بالأبيض والأسود بكاميرا 16mm. كان من الصعب أن يضبط الإضاءة بشكل احترافي لموقع التصوير بأكمله، لذلك قرر أن يستعمل أسلوب تصوير الأفلام الوثائقية، وهو الاعتماد على الضوء الطبيعي، كان يرى أين الضوء ويحاول استغلاله، كان يضبط المشهد عليه حتى يظهر المشهد بصورةٍ جميلة، لذلك سنجد أن معظم المشاهد يتحدث فيها الأبطال بجوار النافذة، وفي المطاعم يكونون بالقرب من الباب، أو يكونون في ضوء الشارع، وهكذا في لقطات كثيرة ستلاحظ أن الضوء الطبيعي يلعب فيها دورًا كبيرًا، وهذه الخدعة التي حاول نولان استغلالها لجعل فيلمه منخفض الميزانية فضل استعمالها أيضًا في العديد من أفلامه الكبيرة التي صورها مع والي فيستر؛ هذا إضافة إلى الكاميرا التي استعملها والتي أظهرت تباين الضوء وحرارته بشكل جيد.

تسجيل الصوت: كيف خدع نولان الناقد والمشاهد ومع ذلك صفقا له؟

كان الصوت بالنسبة لنولان هو العنصر الأهم في الفيلم وذلك لأنه كان يعلم أن المشاهد قد اعتاد على جودة معينة من الصوت، صوت معتمد على ميكروفونات غالية الثمن، وعلى أدوات لعزل الضوضاء، وأماكن تصوير مُغلقة ومنعزلة عن العالم الخارجي. حتى الضوضاء في الأفلام ذات الميزانية العالية يُتحكم بها، كان من المستحيل على نولان أن يسجل الصوت بالجودة التي يريدها، لذلك قرر أن يحل هذه المشكلة بمخاطرة جديدة من نوعها، قام نولان بتسجيل الصوت في المشهد الافتتاحي للفيلم بأفضل جودة مُمكنة، وذلك من خلال بدئه بشخصين يتحدثان في بيئةٍ منعزلةٍ، ومتحكم بها وهذا المشهد الذي حدث في هدوء تام خرج بجودة جيدة، لكن كان من الصعب أن يستمر الفيلم بهذا الشكل، فأكمل التصوير بالميكروفون الرخيص الذي أظهر الضوضاء بشكلٍ واضح، لكن نولان اعتمد على الجودة العالية في المشهد الافتتاحي لحل هذه المشكلة، كيف؟ الفكرة هنا أنه كان يريد أن يبدأ مع المشاهد بصوت جيد ومشاهد بلا مشاكل، وحينما يصبح الصوت رديئًا سيكون المشاهد قد انخرط في القصة وتفاصيلها فلن يلاحظ أن الصوت تغير، أو قد يلاحظ ولكنه الآن مندمج مع القصة. وبالفعل أحب النقاد والمشاهدون الفيلم بصورته النهائية وصفقوا لنولان.

أدوات بسيطة لفيلم غير بسيط

كما أشرنا في البداية أن نولان كان يعرف إمكانياته أثناء كتابة الفيلم، وضع لنفسه بعض الحدود، وحاول أن يجعل الفيلم قصيرًا قدر الإمكان، فجاء الفيلم بأكمله في 69 دقيقة فقط، كما حاول أن يقلل الأموال التي ستدفع في الكثير من الأشياء المهمة في صناعة الفيلم، ووصلت ميزانية الفيلم بأكمله إلى 6000 دولار صُرِفَت على عمليات إنتاج الفيلم نفسها، مثل شرائط التصوير، والأدوات التي يستعملها أثناء عمل مونتاج للفيلم وما إلى ذلك، ومع هذا كان نولان يحاول أن يجعل فيلمه فنيًا حتى في أدق التفاصيل، وكان يصنع العديد من المشاهد من خلال التركيز على أشياء بسيطة ستجعل شكل الفيلم أجمل حتى ولو لم تضف كثيرًا إلى القصة، ففعل ذلك مع الكُتب المرصوصة فوق بعضها، ومع حصان البحر في الصندوق، وصور الأشخاص، وبعض العناصر التي وجدها الأبطال في المنازل التي كانوا يسرقونها، ومثلما كان يعتمد على أدوات بسيطة لتعزيز جمال المَشَاهد، وإثراء تجربة المُشَاهد، كان يعتمد أيضًا على أشياء بسيطة ولكن من أجل أغراض أكثر عُمقًا وتعقيدًا، فمثلًا أعتمد على قصة شعر أبطاله وشكلهم لتوضيح التنقلات الزمنية والسردية.

خططك التالية.. ماذا بعد؟

صنع نولان هذا الفيلم في لندن عام 1999 ولم تكن فكرة صناعة أفلام بلا ميزانية رائجة هناك وقتها، أنهى فيلمه ودخل به أحد المهرجانات، لكنه عرف أن ليس أمامه الكثير من الفرص في لندن، لذلك قرر أن يأخذ الفيلم إلى أمريكا، وهناك نجح الفيلم بشكلٍ كبير، وبدأ اسم كريستوفر نولان في الظهور، وهنا يتحدث نولان عن نقطة مهمة، وهي أنه عند الوقت الذي يبدأ فيه فيلمك بالانتشار والنجاح يجب أن تكون قد وضعت خططًا لمشاريعك وأفلامك المقبلة، فبدلًا من إنهاء الفيلم، وأخذ فترة للراحة والاحتفال، ينصح نولان أن نعرف ما هي الخطوة التالية، وهذا ما فعله هو مع فيلمه «Following»، فمع نجاح الفيلم كان يتعرف على صناع أفلام وشركات إنتاج، وكان حينها يخطط لصناعة فيلمه الثاني «Memento»، وهذا ما جعل لديه إجابةً حينما كان يسأله أحد «ما هو مشروعك التالي؟».

وإذا لم يكن لديك هذه الإجابة فقد تمر مرحلة نجاح فيلمك وتتنطفئ دون أن تستفيد منها خصوصًا إذا كان الفيلم الذي ينجح هو فيلمك الأول.

وهكذا نكون قد انتهينا من شرح مراحل صناعة الفيلم التي مر بها كريستوفر نولان أثناء صناعة فيلمه «Following»، واستخلصنا بعض النصائح منها، المهم في هذه النصائح هو معرفة الطريقة التي كان يحاول حل المشاكل التي تعترض طريقه بها، لا يمكن أن نجد هذه المشاكل بحذافيرها في وقتنا الحالي، فيمكن أن نجد هاتفًا ذكيًا يمكننا استعماله بدلًا من الكاميرا، ويمكن اللجوء إلى برامج الكمبيوتر لتلوين الفيلم بسهولة بدلًا من إنتاجه بالأبيض والأسود، كما يمكن أن نسجل الصوت ونجعل جودته أفضل من خلال برامج الكمبيوتر وميكروفونات أصبحت متوفرة بأسعار معقولة.

لكن ليست هذه الفكرة الجوهرية من المقال، ففكرته الجوهرية هي كيف يمكنك أن تتغلب على مشاكلك مهما كانت كبيرة، وكيف يمكنك أن تجد طريقك الخاص حتى وإن كان الجميع يختارون طريقًا آخر غيره. في وقتنا الحالي أصبح الكثير من الأمور أسهل بكثير من نهاية التسعينيات، لكن هذا لا يمنع أن هناك تحديات جديدة، وبحلولٍ ذكية، ومحاولات جريئة، ستتمكن من إنتاج فيلمك الأول، وأفلامك التالية، وستصل أفلامك إلى العالم بأكمله.