لا يُمكننا معرفة التاريخ من كتب التاريخ وحدها، وتحديدًا التي تعتني بتقديم المعلومات القشرية عن تاريخ الرُسُل والملوك فتبدأ وتنتهي دون أن تمنحنا ولو لمحات بسيطة لطبيعة مجتمعات تلك الفترة، لانعرف كيف عاش أُناس هذه الفترة ولا كيف ماتوا، وهي سمة عامة مؤسفة في معظم مُجلدات التاريخ الكبرى، وهو ما يدفع الباحثين الشغوفين للمعرفة إلى التنقيب عن ملامح مجتمعات الماضي عبر الاستعانة بأغرب الوثائق الممكنة، مخطوطات الطهي واحدة منها.

لا تندهش إن علمتَ أن مخطوطة طهي قديمة يُمكن أن تمنحنا كمًّا هائلاً من المعلومات ربما يفوق حكاوي كبار المؤرخين، فعن طريق معرفة المكونات والطرق المستخدمة في تحضير الأطعمة، والسياقات الاجتماعية التي دفعت أهالي تلك الحقبة لطبخها بهذه الطريقة يُمكننا  رؤية تاريخ هذه الشعوب من زاوية لم نرها من قبل.

شهد القرن الرابع عشر الميلادي، بداية عصر النهضة في أوروبا، والذي نبغت فيه العديد من الفنون في شتّى بقاع القارة العجوز ولم يكن فن الطهي بمعزلٍ عنها، وهو ما دفع العديد من المدونين لتوثيق هذه «النهضة الطعامية» في مخطوطات الوصفات التي خلّدت لنا أدق تفاصيل مطبخ ملوك أوروبا وكأنك تجلس معهم فوق الموائد وتتناول بصحبتهم الثلاث وجبات.

صورة من المخطوطة المعروضة في المتحف البريطاني

على رأس هذه المخطوطات، من ناحية الشُهرة والعراقة، تقف ثلاث مخطوطات؛ الأولى «Le Viandier de Taillevent» من مطبخ شارل الخامس ملك فرنسا، الثانية «Liber de Coquina» من مطبخ شارل الثاني ملك نابولي، والثالثة والأخيرة «The Forme of Cury» من المطبخ الملكي الإنجليزي، وجميع هذه المخطوطات يُمكن ترجمت أسماءها إلى عنوانٍ واحد «طريقة أو منهج الطهي».

ظلت المخطوطة الإنجليزية مغمورةً لمئات السنين، ولم تخرج إلى النور إلا في القرن الثامن عشر الميلادي عندما جمعها سمويل بيج Samuel Pegge، وهو قسيس إنجليزي شغوف بالآثار، في كتابٍ واحد. النسخة الأصلية منه عبارة عن لفافة من الورق طولها ستة أمتار، محفوظة الآن في المكتبة البريطانية، وتحوي وصفات الطعام التي استعملها كبار الطهاة في مطبخ ملك إنجلترا ريتشارد الثاني (1377م-1399م).

هي إحدى أقدم المخطوطات المعروفة عن فن الطبخ باللغة الإنجليزية، تحتوي على 196 وصفة «حاصلة على موافقة أساتذة الطب والفلسفة في بلاط الملك» كما تشير المخطوطة، مكتوبة باللغة الإنجليزية الوسطى، والتي تحدّث بها الإنجليز حتى منتصف القرن الـ15 الميلادي، وتختلف كثيرًا عن الإنجليزية التي نعرفها اليوم، وهو ما يظهر حتى من العنوان الذي يحوي كلمة «cury»، والتي نستعملها اليوم للإشارة إلى مسحوق الكاري لكنها في هذه الأيام الغابرة  كانت تستخدم للدلالة على فِعل الطهي ذاته. 

جُمِّعت هذه الوصفات معًا للمرة الأولى عام 1393م احتفاءً بالملك الذي أعلَى من قدْر الطعام واستخدمه في الدبلوماسية وشؤون الحكم لأول مرة في تاريخ الإنجليز، لكن في النهاية لم تشفع «دبلوماسية الطعام» ولا كُتبها لصاحبها كثيرًا، بعدما أُطيح به عقب 10 سنوات فقط من وضْع كتاب الطهي هذا، بل ومات جوعًا داخل قلعة منعزلة، ويالها من مفارقة. 

دبلوماسية الطعام

في السنوات الأولى لحكم الملك، خاضت إنجلترا صراعات على أكثر من جبهة؛ حرب المئة عام مع فرنسا، والحملات الصليبية على الشرق، استنزفت من خزانة الدولة الكثير من الأموال للوفاء بتكاليف الحرب الباهظة، وهو ما دفع ريتشارد الثاني إلى فرض ضريبة جديدة على الشعب، وهي ضريبة الرؤوس، والتي ضُوعفت قيمتها ثلاث مرات خلال عامين على شعب فقير أثخنته الخسائر التي أحدثته به فترة الطاعون الأسود الذي أباد ثلث سكان القارة.

اشتعل فتيل ثورة الفلاحين ضد القصر؛ تجمهروا أمام الأسوار الملكية رغم أن غضبهم بالأساس لم يكن مُنصَبًّا على الملك، ليقينهم أن تلك الضريبة هي من بنات أفكار مستشاري البلاط الجشعين الذين غرروا بالملك الشاب، ولثقتهم في أن قائدهم يجب أن يقف في صفهم وينصفهم، وهي ذات الأفكار التي تشرّبها ريتشارد طيلة فترة طفولته، بعدما غُرس في وجدانه أنه سيكون ملك إنجلترا المحبوب الذي يستطيع إنقاذها من كافة أزماتها، وهو ما جعله لا يخشى مواجهة الثورة وحده، فخرج لهم من قصره منفردًا.

الملك ريتشارد الثاني يُخاطب الفلاحين
/ the British Library

في ثقة، صرخ فيهم بأنه ملكهم وقائدهم، وأمرهم أن ينزلوا أسلحتهم، وبشكلٍ لا يُصدَّق، استجابوا لأوامره وركعوا أمامه. حينها، تأكد من أنه، بالفعل، ملك لا يُقهر، وأمرهم بالعودة لمنازلهم مع وعدٍ بأنه سيخُصِّص اجتماعًا لهم، وأن الأمور ستتغير عما هي عليه.

عندما أتى وقت الاجتماع، حدث ما لم يتوقعه الفلاحون على الإطلاق. اتّضحت الطبيعة الاستبدادية المجنونة لريتشارد الذي صرّح للفلاحين بأنهم سيظلون في عبودية دائمة طيلة عمرهم، وأن الأمور لن تعود كالسابق بل ستصبح أقسى وأسوأ بما جلبته أيديهم، وأقسم أنه سيكرّس بقية حياته لتعذيب المتمردين لدرجة أنه لن يجرؤ رجل واحد داخل إنجلترا على التفكير في الوقوف ضده مجددًا، وفي الشهور التي تلت أُعدِمَ آلاف الناقمين على سياسات الملك.

وخوفًا من ألا يؤخذ على محمل الجد من رجال السياسة الأكبر منه سنًا وخبرة في البلاط، سعى ريتشارد إلى تعزيز سطوته بأشكالٍ عِدة، بدءًا من فرض استخدام لفظ «جلالتك» بدلاً من «يا سيدي»، وتطبيقه أقسى العقوبات بحقِّ مستشاريه وحاشيته، فكان لا يتوانى عن نفي أو إعدام من يعارضه، وانتهاءً بتطوير أساليب الاحتفالات والبروتوكولات الدبلوماسية في بلاطه وأبرزها موائد الطعام الملكية الفارهة.

فبالرغم من أن موائد الطعام كانت جزءًا لا يتجزأ من ثقافة البلاط في العصور الوسطى إلا أنه ريتشارد الثاني أخذها إلى مستوى جديد تمامًا، فأصبحت موائد الطعام في عهده مثالًا في الإنفاق والبذخ والتنوع، حتى أنه أمَر بكتابة مخطوطة كاملة عنها تخليدًا لثراء مطبخه، حفظ التاريخ لنا هذه المخطوطة من عواصف القدْر حتى وصلتنا وصُنِّفت باعتبارها أول كتاب طبخ إنجليزي في التاريخ.

لا نعرف أسماء أيٍّ من كبار الطهاة الذين ابتكروا تلك الوصفات لأنهم كانوا من العبيد في أغلب الأحوال فلم يحفل أحد بذِكرِهم، ولكننا نعلم أنهم كانوا يُديرون مطبخًا ضخمًا يُرضي ذوق الملك وتطلعاته السياسية، ولسوء حظهم في حالة ريتشارد الثاني، كانوا تحت إمرة حاكم كثير التنقل من قلعة إلى أخرى ما جعلهم لا يكادون يستقرّون في مكان.

فحيثما يستقرُّ بهم الحال في أي قلعة يختارها الملك لقضاء أوقاته، كانوا يجلسون في مطبخها الواسع يلقون الأوامر لجيش يُقدَّر حجمه بين مائتين وثلاثمائة طاهٍ يُعدِّون شتّى أصناف الطعام لمئات إن لم يكن الآلاف من الضيوف، في الوقت الذي يجلس فيه الكاتب الملكي بجوار الطاه الرئيسي، ليدون تلك الوصفات لحظة بلحظة. 

بعض المؤرخين ينسبون إلى ريتشارد الثاني الفضل في  تحويل مناسبات القرون الوسطى الصاخبة إلى صورة أكثر رقيًا، فكان أول من أمر ضيوفه بغسل أيديهم قبل الطعام، وتوزيع مناديل لمسح الفم بعد الأكل بدلًا من مسحها في الأكمام، كما حثَّ زواره على استخدام الملاعق، وأمر بتوزيع ملعقة على كل فردٍ بالعائلة الملكية، كما مُنع التجشؤ أو التحدث بفم ممتلئ في حضرة الملك.

هل تبدو هذه النصائح بديهية لك؟ في العصور الوسطى لم تكن كذلك، وكان لريتشارد سبق تعريف الإنجليز بذلك، بفضل هوسه بحُكمهم عن طريق الالتزام بالانضباط المجتمعي وبروتوكولات الإتيكيت، علاوة على إيمانه بأن المعدة أصغر طُرُق أسر القلوب فلم يتوقف عن إغراق ضيوفه وحلفائه بوصفات الطعام الشهية التي جُمعت لاحقًا في كتابٍ واحد.

على مائدة الملك

تحتوي مخطوطة «منهج الطهي» على مجموعة واسعة من الوصفات، بعضها مُكرَّرة بأسلوب كتابة مختلف مع تغيرات بسيطة في المقادير، ما يُرجِّح أنها أُلِّفت من قِبَل عدة طهاة كتبها عنهم أشخاص مختلفون. حوت المخطوطة الإنجليزية العتيقة على وصفات تقليدية لطهي لحوم الخنزير والبقر ومختلف أنواع الأسماك والطيور، وهناك أيضًا وصفات غير مألوفة كفطائر ثعبان البحر ويخنة فرس النهر.

من بين هذه الأطباق الملكية، اخترنا وصفة تكرّرت أكثر من مرة في الكتاب بتنويعات مختلفة، ويبدو أنها كانت من الوصفات المحببة آنذاك، وهي وصفة «هريس التين والزبيب» المعروف بِاسم الراب Rape، والتي تكفي قراءة مُدققة لها لتعطينا لمحات مهمة ليس فقط عن أسلوب الطبخ آنذاك بل عن تاريخ هذه الفترة بأسرها.

خذ الكشمش والتين وانقعهم في الماء والنبيذ، واغلِهم مع الفلفل الأسود والبهارات الأخرى الجيدة، ثم اهرسها وأضف مسحوق خشب الصندل لاكسابها لونًا، رشة ملح وأصبحت جاهزة للتقديم.

 كما ترى، الوصفة موجزة جدًا، لكنها لا تختلف كثيرًا عن باقي وصفات الكتاب من حيث الكتابة، فجميعها لا يزيد طولها عن ثلاث أسطر، فقط خطوط عريضة وأساسية بينما تُترك النسب والكميات وطريقة الطبخ للطاهي، وكذلك نوعية البهارات المستخدمة أيضًا. 

أول صنف نقابله في وصفة الملك هو الكشمش، وهو نوع من الزبيب، وآنذاك كان يتعيّن على الطهاة إزالة البذور من كلِّ حبة زبيب بشكل فردي قبل استخدامه، لأن إنجلترا لم تعرف العنب خالي البذور قبل القرن التاسع عشر، بعد أن استوردته من الولايات المتحدة.

شغف الإنجليز باستعمال التين في أطباقهم لم يكن فقط لأنه يُوفِّر نكهة حلوة للأطباق، بل أيضًا لأنه كان معروفًا بخصائصه المليّنة، ومن المحتمل أن التين كان يعتبر ضرورة علاجية أكثر من كونه «رفاهية طعامية» عند نبلاء العصور الوسطى. 

حينها، لم يكن التين الطازج متوفرًا بكثرة في بلاد الإنجليز، بل كان يسلك طريقًا طويلة من آسيا الصغرى حتى يصل إلى أسواق إنجلترا مجففًا، وخلال هذه الحقبة المقفرة كان التين المستورد يكلف بنسًا ونصف للرطل، وهو ما يعادل يومية عامل. لذلك اعتُبر التين باهظ الثمن في عيون الشعب الإنجليزي ذي الأغلبية الفقيرة، فاقتصر استخدامه على الطبقات العُليا أو المناسبات الاجتماعية الاحتفالية. 

كما تفنن الطهاة الإنجليز في إعداد خلطات التوابل الخاصة، اللافت للنظر أن  العديد منها يتكون من خليط سكر وبهارات أخرى، السكر هنا هو المكون الذي يُميِّز مخطوطة «منهج الطهي» حال مقارنتها بباقي مخطوطات الطهي في القرن الرابع عشر، فمخطوطة فياندير الفرنسية ذكرت السكر ثماني أو تسع مرات فقط، ولكن أكثر من ثلث الوصفات «منهج الطهي» تحوي على سكر، ليس فقط في «الأطباق الحلوة» بمفهوم اليوم، ولكن في كل شيء تقريبًا، فلقد كانوا يعاملون السكر مثل أي توابل أخرى.

حينها كانت التوابل من بين أغلى المنتجات وأكثرها طلبًا، يستخدمها النبلاء في المطبخ والعامة في الطب، وكان أثرياء الإنجليز يستعملون البهارات في طعامهم ببذخٍ وفير بطريقة أقرب إلى المطبخ الهندي، أكثر بكثير مما نراه اليوم في المطبخ الغربي، لهذا تكاد تقرأ وصفة في هذا الكتاب إلا تجدها تنصح بضرورة استخدام أنواع شتّى من البهارات: قرفة، قرنفل، فلفل أسود، زنجبيل، كراوية، والقائمة تطول. بعض هذه التوابل لم يكن يُستخدم فقط لإضفاء نكهة على الطعام، وإنما لإكساب اللون مثل خشب الصندل أو الزعفران الثمين.

كانت التوابل تأتي من آسيا وأفريقيا، إما عبر التجّار، أو كهدايا للملك مع المحاربين الصليبيين العائدين من معاركهم، أحد أولئك الجنود العائدين كان هنري بولينجبروك ابن عم الملك. 

قضَى هنري عامين في محاولات فاشلة لاحتلال فيلنيوس عاصمة ليتوانيا، فحجّ إلى القدس ليسرِّي عن نفسه فشله العسكري، وقدّم القرابين طالبًا من الله أن يمدّه بالقوة ليصبح مُمكَّنًا ويحرر القدس من الكفار (القدس حينها كانت خاضعة لدولة المماليك، وتحديدًا في عهد الملك الأشرف ناصر الدين شعبان)، وفي الأراضي المُقدَّسة تلقّى هنري إلهامًا أن معركته الحقيقية ليست في بلاد المشرق وإنما في وطنه، فعاد هنري إلى إنجلترا دون أن يحمل للملك قِدْرًا من التوابل أو هدية شرقية فاخرة، وإنما حمل سيفًا ورغبة حارقة في الثورة.  

لا طعام، مُت جوعًا

تراجعت شعبية الملك بشكل متزايد في سنوات حُكمه الأخيرة، بسبب إسرافه من جهة، وبسبب الخسائر المتلاحقة للحرب الجارية في فرنسا من جهة أخرى. عاش الجميع حالة خوف وترقب بعدما تكاثفت الشائعات عن التفوق العسكري الفرنسي الساحق على الجيش الإنجليزي، حتى أن شارل السادس ملك فرنسا بدأ يستعد لغزو إنجلترا نفسها، وهو ما أثار الذعر في نفوس العامة والخاصة. 

بلغ السخط من ريتشارد الثاني ذروته عندما طلب من البرلمان مبلغًا غير مسبوق في ذلك الوقت بسبب رغبته في غزو فرنسا بنفسه، لكن بدلاً من الموافقة على طلب الملك، اتحد البرلمان ضده وضد مستشاره مايكل دي لا بول Michael de la Pole، بعدما اعتبروا أن الأخير هو المسؤول الأول عن كافة إخفاقات الملك، لذا أخبروا ريتشارد أنهم لن ينظروا في أي طلب يقدمه قبل أن يقيل ذاك المستشار، وهو الطلب الذي تحدّى الملك البرلمان كيلا يُنفذه، بل وأعلن أنهم لو طلبوا منه طرد خادمة من مطبخه، فلن يفعل.

وفي هذا الزمن كان الملوك الإنجليز يعتمدون بشكلٍ رئيسي على أعضاء البرلمان في تسيير أمور الدولة، وعادة ما يكون هؤلاء البرلمانيون من ذوي النفوذ والأموال، ما فرضهم لاعبًا أساسيًّا على الساحة السياسية الإنجليزية، وكان الدخول في عداء معهم يعني كارثة على الملك وعُزلة مؤكدة عن سُلطاته. 

لهذا لا نستغرب إن علمنا أن ريتشارد انصاع إلى البرلمان في النهاية بعدما هدّدوه بالعزل من منصبه، فرضخ لمطالبهم وأقال دي لا بول، لكنه اعتبرها إهانة لا تُغتفر بحقِّه، وقضى العام التالي لهذه الواقعة يجوب أنحاء البلاد يُنصِّب أصدقاءه الثقات في المناصب الرئيسية، كي يُدعّم حُكمه بأكبر ما يُمكن في ربوع المملكة الإنجليزية، كما حصل على حكم قانوني من رئيس المحكمة العليا بأن سلوك البرلمان كان غير قانوني ويعتبر خيانة للملك. 

وبرغم كافة هذه الجهود، فوجئ الملك ريتشارد، عند عودته إلى لندن من هذه الجولات المكوكية، بِابن عمه هنري بولينجبروك يتزّعم تكتلاً عُرف تاريخيًّا بلقب «لوردات الاستئناف Lords Appellant»، وهم مجموعة كبيرة من اللوردات والنبلاء ذوي السلطة القوية، الذين وجهوا تهمًا عديدة لمستشاري الملك المقربين جميعهم، وطالبوا بإدانتهم والحكم عليهم بالإعدام، وهي المطالب التي لم يستطع ريتشارد رفضها، فنجح حفنة اللوردات بذلك في تفكيك دائرة المخلصين حول الملك وإبقائه وحيدًا بلا أتباع مخلصين.

وبعدها، ردَّ ريتشارد الصاع لأعدائه من اللوردات فتخلّص منهم واحدًا تلو الآخر بالإعدام أو النفي المؤبد خارج إنجلترا ومصادرة أراضيهم ومطاردة أتباعهم، بما فيهم ابن عمّه هنري الذي نُفي خارج إنجلترا لمدة 10 سنوات. وهنا أحسَّ ريتشارد بالأمان فغادر إلى البلاد في رحلة استكشافية إلى  أيرلندا.

استغلَّ هنري هذا الغياب فعاد إلى لندن وتمكّن من تأليب نبلائها ضدّ ابن عمّه، واستغل فرصة خلو العاصمة من الملك ليستولي عليها. وعندما عاد ريتشارد وجد أن الجميع يقف ضده، فأدرك أنه لا طائل من المواجهة، استسلم وتنازل عن العرش لابن عمه الذي نُصِّب ملكًا وعُرف بـ«هنري الخامس». 

لوحة رسمها الفنان ألكسندر كيرينكس لقلعة بونتفراكت في أوائل القرن السابع عشر

‏بعد اعتلائه العرش، وافق هنري على السماح لريتشارد بالعيش أسيرًا في قلعة بونتفراكت حتى آخر عمره، حيث سيُحرم من متعته الأزلية وهي تناول الأكل؛ لا طبّاخين، لا موائد فارهة.. بل ولا طعام بالأساس.

لم يطل حصار الجوع على «ملك الطعام» كثيرًا، فبعد 5 أشهر فقط من احتجازه عُثر عليه ميتًا من فرط الجوع والهزال.