في خضم التوسعات القطرية التي قامت بها دولة الخلافة الإسلامية التي وصلت إلى ذروتها وقت نجحت الدولة الأموية في إيصال حدودها إلى الصين شرقًا حتى الأندلس غربًا، فمع توالي الانتصارات وتعاظمها تعاظمت المسئولية تجاه 70 مليون نسمة تقريبًا لم يجمعهم تاريخ مشترك واختلفت طرائق معيشتهم سابقًا، فكيف السبيل بدولة كبرى لم تسلم جيوشها من الحروب المستمرة تترامى أطرافها أن توفر لرعاياها الأمن الغذائي، كيف لك أن تضمن وصول القمح إلى المغرب أو وصول القطن إلى بغداد على الرغم استقرار الخليفة في دمشق.

اهتمت الدولة الإسلامية بشكل واضح بمصدري الغذاء الأساسيين من زراعة ورعي بواسطة تطوير نظم الزراعة وتقسيم الأراضي وفق جودتها وخواص التربة ولم تساوِ الدولة الإسلامية بين جميع الأراضي في الخراج بل كان يزيد وينقص تبعًا لاختلاف جودة الأرض، وقيمة المحصولات الزراعية، جودة كل محصول وقد ساعد على ذلك أهمية الخراج في النظام الاقتصادي للدولة ونماء الدولة في مختلف النواحي، كما برعت العلوم الهندسية في دولة الإسلام في شق القنوات وتشييد القناطر مثل قنطرة قرطبة التي ابتناها السمح بن مالك الخولاني عام 101هـ في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز على الوادي الكبير بقرطبة، بطول 800 ذراع، وعرض 20 ذراعًا، وارتفاع 60 ذراعًا، بنى الأمويون السدود على الأنهار والوديان، وشيدوا قنوات وشبكات تحويل المياه.

كما قاموا بتنظيف القنوات بشكل موسمي وبنوا ممرات مقنطرة فوق الأنهار لتسهيل حركة الركاب والبضائع، ولتعزيز تدفق المياه بنوا طواحين مائية لرفع المياه إلى أعلى قناة المياه لإمداد المياه للزراعة والأغراض المنزلية بالمياه.

توفير المياه وسيلة توفير الغذاء

لطالما كانت إمدادات المياه مشكلة للزراعة في جميع أنحاء الحجاز، لم يكن الحصول على الماء أو الوصول إليه سهلاً، فقد كانت هناك حاجة إلى آبار عميقة، لذلك أمر الخليفة معاوية بن سفيان ببناء السدود في الحجاز: أحدها يقع على بعد أكثر من 200 ميل جنوب المدينة المنورة.

الاهتمام بنظم الإرواء لم ينته بأفول الدولة الأموية لكنه استمر مع الخلافة العباسية حيث عدّ الخلفاء في العصر العباسي الأول الزراعة أولوية، لذا نشطوا في حفر وتطوير قنوات المياه والمصارف وبناء الجسور، فلا تزال شبكات المياه ومحطات المياه والشبكات التي أقيمت في عهد الخليفة العباسي تثير إعجاب مهندسي المياه المعاصرين.

مع تحول عاصمة الخلافة إلى بغداد عمل العباسيون على التوسع الزراعي لزراعة جميع المساحات المتاحة في العراق وتزويد المدن الكبرى بالمياه بالاستفادة من إنشاء السدود على نهر الفرات للتحكم في مياهه، ومن ثم توزيعها باستخدام مجاري المياه والقنوات لتحقيق أقصى فائدة وتغطية مساحة أوسع، ونتيجة لذلك، تمكنوا من زراعة وري جميع الأراضي الممتدة من شمال الصحراء الغربية إلى المنطقة الجبلية في شمال بلاد ما بين النهرين وعلى طول الطريق إلى شواطئ الخليج العربي في الجنوب.

مع توسع الخزانات المائية والسدود، أنشأ العباسيون مكتبًا لإدارة المياه، أطلقوا عليه اسم ديوان الأقرع (أي دائرة المياه)، في ظل ظروف ندرة المياه ابتكر المجتمع الإسلامي نظامًا معقدًا للتوزيع، لعبت فيه المعرفة التقنية دورًا مركزيًا لضمان تقسيم المياه بين عدة مستخدمين عن طريق مجموعة متنوعة من الأجهزة الميكانيكية أو الممرات المائية ذات المداخل بحجم ثابت، وبتخصيص فترات زمنية محددة.

فكان يتم تقسيم المياه بسد بين عدد من القرى أو المستخدمين، يختلف حجم السد وفقًا لحصة المياه المخصصة وخلال مدّة توزيع المياه يتم تحديد الحصص من حيث الأيام، والساعات، والدقائق، وخصصت لمختلف المناطق أو القرى أو الحقول أو قطع الأراضي التي يسقيها المصدر المعني، وحققت الدولة الإسلامية الكبرى استفادة من تطوير تقنيات الإرواء وإقامة السدود بخبرات ولاياتها الصغرى سواء في مصر أو الشام التي برعت في هذا المجال.

لم يختلف هذا الوضع في المحاصيل الزراعية التي استفادت الدولة من توسع أركانها حتى ساد مبدأ «عولمة المحاصيل» عندما لاحظوا انتشار محاصيل عن أخرى في أماكن معينة، فعُرفت الصين بزراعة الحمضيات وكانت لأفريقيا زراعة الذرة وفي الهند انتشر القطن والأرز والمانجو، التي عُدت من الزراعات المميزة حتى سُن تشريع يعفي أراضي الزراعات المميزة من الضرائب لمدة ثلاث سنوات ثم تدفع نصف الضريبة في السنوات الخمس التالية.

«التشريعات الزراعية» استهدفت أيضًا التشجيع على زراعة الأراضي البور من خلال إعفاء أصحابها من دخل الضريبة لمدة 10 سنوات مقابل استصلاحها، ثم امتلاك تلك القطعة إذا نجح في ذلك إلا إذا أهمل زراعتها وقتها تعود الأرض للدولة.

التشجيع على الزراعة في عهد الأمويين بان أثره حين أنشأ الخليفة عمر بن عبد العزيز «بنكًا» يسلف الفلاحين القروض الحسنة، كما ذكر ياقوت الحموي في كتابه «معجم البلدان» أن كثيرًا من الأمراء كانوا يسلفون الفلاحين دون مقابل، فكان مشهورًا قول «أحسنوا إلى المزارعين بأنكم لم تزالوا سمانًا ما سمنوا»، تلك السياسات أوصلت الخلافة العباسية في عهد الخليفة المأمون في جمع 390 مليون دينار ذهبي من خراج الزراعة.

تطوير الرقعة الزراعية والثروة الحيوانية

موضوع تطوير الزراعة تم بشكل علمي بالمنهج المتبع اليوم، حين درس علماء المسلمين واستفادوا من كتابات من سبقهم في الحضارات اليونانية والرومانية، مع الاستفادة من الخبرات المكتسبة من ربط المحاصيل الزراعية بالطب والصيدلة فكانت وسيلة للغذاء والعلاج.

علم النبات لم يكن قبل ذلك قائمًا بذاته لكنه بدأ في كتب المعاجم دون وصف المحاصيل قبل أن يُحدث النضر بن شميل ثورة حين أفرد جزءًا من كتابه «الصفات في اللغة» واضعاً به خبرات 40 عامًا قضاها في البادية يراقب النبات ليضبط صفاته، إلا أن التغيير الجذري وقَع حين تُرجم كتاب «المادة الطبية» في العصر العباسي على مرتين حين ساعد إمبراطور الروم قسطنطين السابع وأهدى حاكم الأندلس الكتاب مزين بالصور بعدما صعب في البداية الوصول إلى ترجمة صحيحة لكل المصطلحات.

تدوين الكتب في مجال النبات لم يصبح رفاهية أو للتثقيف فقط لكنه أصبح ضرورة من خلال تقديم كتب ودلائل إرشادية للمزارعين باتساع الدولة منها كتاب «الإشبيلي» الذي يتطرق إلى التفاصيل الدقيقة حول كيفية زراعة أشجار الزيتون، وعلاج أمراض الأشجار، والتطعيم، وحصاد الزيتون، وتكرير زيت الزيتون، وخصائص التربة المطلوبة، وإعداد التربة، واستخدام السماد الطبيعي، وتقنيات الحرث، ووقت السنة للزراعة، والري، والعناية بالنبات، والحصاد، وما شابه ذلك، إضافة لكتب ابن بصال صاحب كتاب «الفلاحة».

صارت الزراعة الإسلامية في العصور الوسطى، في سماتها وأساليبها وتقنياتها المهيمنة، أكثر تقدمًا بكثير مما كان عليه الغرب، تشير السجلات إلى أن محاصيل الحبوب في مصر كانت حوالي 10 مقابل واحد مما كان من الممكن الحصول عليه في أوروبا فقط في نهاية القرن الـ17.

وفي الوقت الذي كانت فيه المحاصيل تفشل زراعتها بانتظام في أوروبا وتسببت في مجاعات رهيبة، كان انتشار محاصيل جديدة وتحسين الزراعة في العالم الإسلامي يعني أن الحقول التي كانت تنتج محصولًا واحدًا سنويًا من قبل، أنتجت الآن ثلاثة أو أكثر من المحاصيل بالتناوب.

الوضع كان أقل صعوبة في ما يتعلق بالرعي فقد كان فطريًا عند العرب الاهتمام بتربية الماشية بسبب الحاجة إلى لحومها ودخولها ضمن أساسيات الاقتصاد للعرب، إذ إن العادات للحضارات الصحراوية وضع اللحوم في رأس السلع الغذائية لصعوبة الزراعة وقلة المحاصيل، لذا كانت اللحوم رخيصة في أول عهد الدولة العباسية، وكان الإقبال عليها يزداد في الأعياد الإسلامية، حيث لم يكن ليخلو أي بيت من بيوت الأغنياء من جدي واحد على أقل تقدير.

لم يكن استخدام الدجاج والفراخ أقل رواجًا، فإن مثل هذه المناسبات كانت تستوجب وجود اللحوم بجميع أشكالها، وقد قدر ابن الفقيه استخدام لحوم الدواجن بمعدل 4 دجاجات و4 فراخ لكل 100 جدي، وكان متوسط ثمن كل دجاجة درهمًا واحدًا.

نمو تربية الدواجن تلاقى مع رغبة دولة المماليك في القاهرة في بناء فرد قوي، لذا توسعوا في زراعة الأعلاف وتحسينها، وفي عهد الدولة العثمانية كانت الثروة الحيوانية لا تقل أهمية، فقد كانت قطعان الأغنام، الماعز، الأبقار، الجمال وجاموس الماء وفيرة في مرتفعات البلقان وآسيا الصغرى والشام ووادي النيل.

التكافل والنقل بين الولايات

الخطوة الأكثر أهمية في خطة الأمن الغذائي داخل الدولة الإسلامية تمثلت في عملية التوزيع وإرسال الدعم اللوجيستي للولايات التي تديرها، الحل كان في نظام النقاط المضيئة ما يقتضي تقسيم الدولة الكبرى إلى 10 نقاط رئيسية تمثل المركز الموزع إلى الولايات الأخرى.

اعتمدت تلك الخطة على تقسيم تلك النقاط وفق سجلات تدرس حالة الأرض وقدرتها وجودة المحصول ما يؤهل كل نقطة على زراعة ما يناسب تربتها، وتصدر ما تزرعه لنقطة أخرى مقابل محصول مختلف فكان للعراق زراعة الشعير والبقوليات، الشام لها العنب والتفاح ومصر في زراعة القمح وقصب السكر الذي انتشر في إثيوبيا وجعل جزيرة زنجبار الواقعة في شرق إفريقيا مشهورة بالسكر عالي الجودة.

أيضًا، طرق التخزين كانت مهمة في ذلك الوضع حتى إن الأندلس عُرفت بقدرتها على تخزين القمح لسنوات دون أن يفسد، هذا التقدم التكنولوجي كان سلاحًا معاونًا في تلك المعركة انطلاقًا من تطوير نظام إدارة الطواحين خلال الهواء في الأندلس، كذلك الأمر في استحداث طرق تناوب التربة على زراعة المحاصيل أكثر من مرة لدرجة تصل من محاصيل قصيرة الموسم مثل السبانخ والباذنجان إلى ثلاث مرات سنويًا.

ولقد بنى العثمانيون شبكة سكك حديدية كبيرة لتزيد من الإنتاج الزراعي والتوزيع والتوافر في جميع أرجاء الدولة حتى إنهم سيطروا على أراضٍ زراعية خصبة شاسعة، بما في ذلك السهول في بلاد الشام، وحوض نهر الدانوب، وحوض دجلة والفرات ووادي النيل. اشتهرت كل هذه المناطق بتربتها الخصبة ووفرة المياه وإنتاجها الغذائي الغني. ما جعل الإنتاج الزراعي متنوعًا، فالقمح والحبوب الأخرى تعتمد على سهول بلاد الشام ومصر والأناضول. تم إنتاج زيت الزيتون في بلاد الشام والبلقان. اليونان، واشتهرت بعض أجزاء شمال إفريقيا بالعنب والتين.

لم تقل الجهود الفردية في تسهيل نقل المحاصيل فقد كان عبد الرحمن الأول، بدافع الحنين إلى المشهد السوري، مسؤولًا شخصيًا عن إدخال عدة أنواع، بما في ذلك نخيل التمر، وتم تقديم مجموعة متنوعة من الرمان من دمشق من قبل رئيس قضاة قرطبة معاوية بن صالح، وقام جندي أردني يدعى سفر بتقطيع تين وزرعه في أرضه بمنطقة ملقة ليشتهر هذا النوع بالسفري على اسم الجندي.

تلك الجهود من الدولة أو الأفراد والتكامل الزراعي والغذائي اختصرها أحد المؤرخين بقول«لم أسمع أن المسلمين، أينما استقروا، كانوا يستوردون الطعام من خارج دول العالم الإسلامي».

المراجع
  1. أ. واتسون: ثورة خضراء في العصور الوسطى: تقنيات المحاصيل والزراعة الجديدة في العالم الإسلامي المبكر، في الشرق الأوسط الإسلامي 700-1900
  2. فحدين إنجين ، أحمد أوكار، عثمان دوجان (2011). النقل في الإمبراطورية العثمانية، السكك الحديدية البرية والبحرية
  3. لو سترينج: فلسطين تحت حكم المسلمين