محتوى مترجم
المصدر
Jacobin
التاريخ
2019/04/20
الكاتب
Sam Miller & Harrison Fluss

في الليلة الماضية، تناظر جوردان بيترسون مع سلافوي جيجك في «مركز سوني» بمدينة «تورونتو». حملت المناظرة عنوان «السعادة: الرأسمالية مقابل الماركسية». منح كل طرف، وفق هيكل المناظرة، ثلاثين دقيقة تقديمية، تبادلا بعدها ردودًا موجزة مدة كل منها عشر دقائق. واختتمت المحاضرة بقليل من أسئلة الجمهور العامة.

نفدت جميع التذاكر المطروحة، واستمرت المناظرة ثلاث ساعات. لكن الحدث الذي كان يقدر له أن يكون مناظرة قرن حامية، جاء جلسة ودودة لتبادل الآراء. على مدار الأمسية، عبر كل من الطرفين في مناسبات عدة عن مدى موافقته وتقديره للآخر. بدا بيترسون على وجه الخصوص مأخوذًا بأداء جيجك الكاريزماتي و«حججه المركبة»، في حين شدد جيجك على موافقته انتقادات بيترسون للصوابية السياسية وطريقته الهجومية في النقاش.

لا يعد جيجك شخصًا مبغوضًا مقارنة ببيترسون، هذا أكيد. لكن المناظرة كشفت عن مدى تهاوي المثقف اليساري، وعن دواعي حاجتنا إلى سياسات ماركسية حقيقية للدفاع صراحة عن الحرية والعدالة.


بيترسون معلقًا على ماركس

ركز بيترسون جميع دقائقه الثلاثين تقريبًا في هجوم مَنْقُوط على بيان الحزب الشيوعي. حضر بيترسون مجهزًا بعشرة انتقادات للمانيفستو والأيديولوجيا الماركسية. بدأ بادعاء خطأ ماركس وإنجلز في اختزال مشاكل الوجود الأولية في الصراع الطبقي. زعم بيترسون فشل ماركس وإنجلز في إدراك أن الهرمية حقيقة بيولوجية أصيلة. كذلك تساءل عما سيجعل ديكتاتورية البروليتاريا أفضل من ديكتاتورية البرجوازية.

علاوة على ذلك، عرض بيترسون ماركس في صورة مفكر هوياتي، يؤلب طبقة عاملة يفترض أنها خيرة مقموعة، على طبقة رأسمالية شريرة. ثم انتقل بيترسون إلى التساؤل عن كيفية تنظيم المجتمع في ظل الشيوعية، محتجًا بأن القوة ستظل دومًا مركزة في أيدي قلة بغض النظر عن النظام الاجتماعي المطبق.

كذلك حاول بيترسون انتقاد ماركس على أسس اقتصادية. بدأ مستشهدًا بإقرار ماركس بالوفرة المادية التي انتجتها الرأسمالية ذاتها. زعم بيترسون أن الرأسماليين قد أضافوا إلى المجتمع قيمة اقتصادية بفضل قيادتهم وفطنتهم التجارية، وأن النظام قد فعل الكثير للقضاء على الفقر ومساعدة الفقراء. أقر بيترسون بأن الرأسمالية تزيد الأغنياء غنى حقًا، لكنه شدد على أنها تزيد الفقراء غنى أيضًا. ختم بيترسون مقدمته بزعمه أن السعي وراء الربح يضبط الرأسماليين أخلاقيًا بحيث لا يسيئون معاملة عامليهم، وأن أي مدير يسعى وراء الربح لن يستغل عماله أبدًا خوفًا من فقد تجارته. «فأنت لا تتبوأ موقع سلطة يعول عليه في مجتمع إنساني عبر استغلال الآخرين بالأساس»، حسب قول بيترسون.

باستخدام أكثر العبارات لطفًا، لا يرقى عرض بيترسون للمبادئ الماركسية الأساسية عن كونه ابتذالًا سخيفًا. لقد بدا شخصًا تصفح بالكاد نصوصها الرئيسية في عجالة.

لنتأمل تعليقاته حول الطبيعة الهرمية والاستغلالية المتأصلة في البشر: حين قال ماركس وإنجلز، إن كل التاريخ تاريخ صراع طبقي، كانا يتحدثان عن كل التاريخ المدون. عاش البشر ملايين السنين دون طبقات. والمجتمع الطبقي، الذي تستولي فيه أقلية على فائض عمل الأغلبية، ظاهرة حديثة نسبيًا، بينما مركز تفاعل البشر مع الطبيعة عند ماركس وإنجلز هو إنتاج وإعادة إنتاج الحياة الفعلية.

ذهب بيترسون إلى حد القول بانتفاء الطبيعة بوصفها مقولة في كتابات ماركس، وهذا خطأ جلي. في أول فصول رأس المال، ينص ماركس على أن العمل هو العلاقة الجوهرية بين البشر والطبيعة ذاتها، وأن العمل بأحد أشكاله «ضرورة طبيعية سرمدية، دونه يستحيل التفاعل بين الإنسان والطبيعة، وبالتالي تستحيل الحياة». ولم تكن معرفة ذلك لتكلف بيترسون عناء إنهاء الجزء الأول.

أما عن الدعاوى الخاصة بالهرمية، فقد خلط بيترسون باستمرار بين الهرمية والمجتمع الطبقي. كما لم يقدم أي دليل على كون امتلاك طبقة ما امتياز استغلال طبقة أخرى أمرًا ضروريًا للوجود البشري. إضافة إلى ذلك، لم يدع ماركس إلى التغلب على المجتمع الطبقي وهو معتقد بأن البشر سيعدمون الحاجة إلى تنظيم سياسي. إن للدولة السياسية عند ماركس معنى شديد التحديد بوصفها جهازًا في المجتمع الطبقي. فسيظل بالناس حاجة في سعيهم هذا إلى هيكل وتنظيم؛ سيظلون بحاجة إلى التدارس والتحاور والتفتيش عن الأمور المشتركة عبر الصراع والمناظرة. ففي ظل الشيوعية، ستعتمد أشكال السلطة الشعبية على أسس ديمقراطية وانتخابية، وفق قول نورمان جيراس في دفاعه عن ماركس أمام «سبعة أنواع من الطعون».

لما كانت الطبيعة البشرية في نظر بيترسون ساقطة في جوهرها، ومرادفة للخطيئة الأصلية، غدت جهود الجماعات المضطهدة للتغلب على أوضاعهم بشكل جماعي محفوفة بمزيد عنف ومعاناة لا محالة. لكن تلك ميتافيزيقيا تحول بين أي مجموعة والسعي إلى تحقيق العدالة أو تحسين وضعهم خشية توليد مزيد من العنف.

إضافة إلى ذلك، وخلافًا لزعم بيترسون، لم ينظر ماركس إلى صراع الطبقة العاملة من ناحية هوياتية: إن العمال حريصون على إلغاء هويتهم كبروليتاريا مستغلة. بالنسبة إلى ماركس، رغم مقومات الكفاح الاشتراكي من المثالية والتضامن والتضحية، ليس البروليتاريا بملائكة؛ فثمة مئات من سنوات الاضطهاد الطبقي التي تمنع البشرية من التصرف خيريَّة(بمفهوم بيترسون). ولا يمكن النظر إلى قضايا العداوة الطبقية هذه عبر منظور بيترسون الوعظي السطحي، بل من خلال المصطلحات البنيوية التي أشار إليها ماركس.

فيما يتعلق بالقيمة المضافة بفضل الرأسماليين، لا يعي بيترسون رؤية ماركس للقمية باعتبارها وقت العمل الضروري. لا يمكن للبرجوازيين إضافة قيمة دون استغلال العمال، أي دون الاستفادة من عملهم غير المدفوع. هكذا لا يكون الاستغلال سقطة أخلاقية للرأسمالي، بل مدمج في العلاقة البنيوية بين الرأسمالي والعامل. وليست محاولة بيترسون جعل الرأسماليين إحدى الركائز الأساسية للحضارة بأفضل حالًا من قصة مينينيوس أغريبا الخرافية حول المعدة وأعضائها.

يمكننا الاستمرار، لكن الجهل الوقح لبيترسون بحقيقة دعوة ماركس صار جليًا كفاية. ليس الأمر اختلافاً في الرأي (كثير من اليمينيين الأذكياء هم كذلك)، ولا محاولة تبسيط للجمهور العامي، لكنه ضعيف الاطلاع بما لا يؤهله لخوض المناظرة.

فيما يتعلق بالرأسمالية العالمية اليوم، فليس تحسن الاستهلاك ومعدلات الوفيات وأفضلية وضعناها مقارنة بالأسلاف بمبرر للحكم على عموم البشرية بالاستغلال والاغتراب الأبدي. يؤكد بيترسون بدوجماتية أن تلك التحسينات النسبية هي ببساطة نتاج للسوق الحر، لا شيء آخر، مثل تدخلات الصحة العامة، أو التعليم، أو كفاح الطبقة العاملة ضد الاستغلال. ناهيك عن أن السعي إلى الربح أحد العوامل الرئيسية الكامنة وراء جميع المشكلات الاجتماعية تقريبًا، بما فيها تسارع التغير المناخي.


متحدون ضد السعادة

في حين افترض بيترسون أنه بصدد مناظرة مع ماركسي كلاسيكي، تتمحور بالأساس حول الماركسية، أتى جيجك بأجندة مختلفة. لم يركز جيجك على ماركس خلال الثلاثين دقيقة التقديمية مطلقًا، بل بدأ حديثه بالتباكي على التهميش الذي يلاقيه هو وبيترسون من قبل أكاديميا «صائبةسياسيًا»:

يواجه جيجك وبيترسون عدوًا مشتركًا، أكد جيجك ذلك قبل مناقشة مواضيع متنوعة.شملت المواضيع عدم قيام المعجزة الاقتصادية الصينية على ديمقراطية السوق الحر، بل على الرأسمالية السلطوية؛ وعملية شيطنة بيرني ساندرز باعتباره راديكاليًا، بينما هو في الواقع «فيلسوف أخلاقي من الطراز القديم»؛ ومسؤولية «التعددية الثقافية الليبرالية البيضاء»عن إخفاق اليسار.

كذلك زعم جيجك مسؤولية «التناقضات المتأصلة» في الرأسمالية عن أزمة المهاجرين، لكنه انتقد الحدود المفتوحة في وقت لاحق من الأمسية. أصاب جيجك في حديثه عن لا عقلانية الكراهية الشعبوية للاجئين. غير أنه أكد «صحة تقارير [تخص لاجئين]». ويسعنا التخمين أن في عبارة جيجك المبهمة إشارة إلى تعليقات سابقة أبداها حول لاجئين عنيفين، وهي التعليقات التي انتقدت باعتبارها نوعًا من كراهية الأجانب.

لكن على مدار المناظرة، نص جيجك على تشاؤمه مرات عديدة. يرى جيجك اليسار المعاصر مستنقعًا للضغائن والمظلومية، وهي الرؤية التي يشاركه فيها بيترسون إلى درجة كبيرة. لا يشارك جيجك ماركس نظرته المتفائلة، المنادية بعلاقات اجتماعية حرة وشفافة. على العكس، ينكر جيجك وبيترسون عقلانية البشر، ويرونهم كائناتتميل بطبيعتها إلى التخريب الذاتي.

ليس الطموح الماركسي لتحرير قوى الإنتاج من الرأسمالية بقضية لدى جيجك. إنه يستخدم مصطلحات وجودية للتعبير عن الحداثة باعتبارها «حملالعبء الأكبر، وهو الحرية ذاتها». دون السلطة التقليدية نغدو مسؤولين عن أعبائنا، محكوم علينًا بالنضال من أجل المعنى ضد عالم مسلع محكوم بمذهب المتعة. «نحتاج إلى العثور على هدف ذي مغزى بما يتجاوز مجرد النضال من أجل بقاء ممتع». لكن هذا النوع من الزهد الوجودي في المتعة واللذة غريب على مشروع ماركس لإشباع الحاجات البشرية على نطاق عالمي. لم يكن ماركس، حسبما أشار إشاي لاندا، معارضًا للاستهلاكية في حد ذاتها، بل للأوضاع التقشفية التي تفرضها الرأسمالية على الغالبية العظمى.

أشار جيجك وبيترسون مرارًا وتكرارًا إلى التقليد اليهودي – المسيحي (أو التقليد «الغربي») باعتباره منطلقهما، لكن ذلك تقليد وجودي على الطراز الكيركجاردي أو النيتشوي أو الهيدجري، وليس بالتقليد العقلاني الخاص بهيجل وماركس. استدعى جيجك هيجل ليضعه في مقابل ماركس باعتباره بطله الفلسلفي، لكن تلك الهيجلية الخالية من الحل الديالكتيكي تحول تناقضات هيجل إلى نقائض لا حل لها.

الاغتراب في نظر جيجك وبيترسون جزء من طبيعة الوجود ذاتها. يرى كلاهما الحالة الإنسانية تراجيدية بطبيعتها، سواء عبر عدسات الأحياء، والتحليل النفسي، والميتافيزيقا. فالفشل والإحباط مآلنا المحتوم، بغض النظر عن النظام الاقتصادي والسياسي.

مع استمرار المناظرة، واصل بيترسون أسئلته حول الماركسية، مناشدًا جيجك توضيح موقفه من ماركس. ردًا على ذلك، أوضح جيجك أنه يستخدم مصطلح «الشيوعية»بدافع استفزازي، وأنه لا يعتبر شيوعيًا. بدلًا من ذلك، أكد جيجك الحاجة إلى رأسماليةمنظمة ومحدودة ذاتيًا. لم يؤيد جيجك التحرر الذاتي للطبقة العاملة، بل دافع عن الحاجة إلى سيد «يجبر الناس على التحرر». هنا يظهر جيجك ليبراليًا تكنوقراطيًا، فالجماهير عنده عاجزة عن تحقيق الحرية لنفسها، إذ هي في حاجة إلى «سيد»يرشدها. لم يعارض بيترسون أيًا من هذه الآراء؛ أقر عوضًا عن ذلك بأن للرأسمالية مشاكلها، وأنه لا يؤيد الأسواق مطلقة العنان. كما قال، إن الرأسمالية أسوأ الأنظمة الممكنة.. لكنها ما تزال أفضل الجميع، في معارضة لمقولة ونستون تشرشل.

قبيل نهاية الأمسية، سأل بيترسون جيجك مرة أخرىعما يدفعه إلى ربط نفسه بالماركسية. قدم جيجك إجابة مبهمة، إذ اكتفى بالإشارة إلى التحليل السياسي المتقن والمعقد في كتاب «الثامن عشر من برومير»، ونظيره الاقتصادي في كتاب «رأس المال».


الصديقان اللدودان

أنا وبيترسون.. كلانا مهمشان من قبل المجتمع الأكاديمي الرسمي ويفترض بنا الدفاع عن الخط السياسي لليسار الليبرالي ضد المحافظين الجدد. حقًا؟ إن أغلب الهجوم الذي أتلقاه يأتيني من يساريين ليبراليين مباشرة. فقط تذكروا الاستنكار الذي أثاره نقدي لأيديولوجية مجتمع الميم.

رغم افتتان بيترسون بكاريزما جيجك، فإنه كان أشد انبهارًا برفض الأخير الاصطفاف مع المقولات الجوهرية لماركس وإنجلز. رغم التزامات جيجك اليسارية، فقد أقر مع بيترسون بوجود المجتمع الطبقي، والهرمية الاجتماعية، وحتمية المعاناة. لا يسعنا إلا التطلع إلى مجاراة المعاناة الناتجة عن الرأسمالية (سواء فرادى أو عبر التنظيمات الفاترة)، لكن لا يمكننا التطلع إلى التغلب على هذا النظام أبدًا.

قال بيترسون إن دعاوى جيجك لا تمت للماركسية بصلة، بل هي دعوات «جيجيكية». ليس في ذلك شيء جديد: ليست تلك بجيجيكية أو بيترسونية، بل هي ميتافيزيقا التشاؤم البرجوازي القديمة. لم يقدم أي من المتناظرين بديلًا محددًا للرأسمالية، ولا هما يعتقدان بأن إيجاد بديل منهجي حقيقي هو أمر مرغوب.

ومن ثم، فإن الاختلاف بين جيجك وبيترسون هو كالاختلاف بين الأحمق والمجنون عند جون لوك: لا يستطيع الأحمق استخلاص نتائج من مقدماته، بينما يستخلص المجنون نتائجه من مقدمات فاسدة. جيجك هو الأحمق هنا، لأن التزامات الجناح اليساري تتعارض مع المقدمات الفلسفية التي يتشاركها مع رؤية بيترسون التراجيدية للوجود الإنساني. أما بيترسون، المجنون، فيتبع هذه المقدمات التراجيدية إلى نتيجتها المنطقية المعادية للاشتراكية.

لكن المرء لا يملك في مواجهة جميع تلك الأشياء المشتركة بين الطرفين إلا التساؤل: أهي بداية صداقة جميلة؟