عاشت مدينة الموصل، ثاني أكبر المدن العراقية، وعاصمة محافظة نينوى شمال غربي العراق، ثلاثة أعوام تحت سيطرة مقاتلي الدولة الإسلامية، حوّلتها المعارك إلى مسرح للأحداث المتسارعة، جذبت الصحفيين من مختلف بلدان العالم، لتلتقط كاميراتهم صور الواقع القاسي المتجسد بخراب المدينة بين الأعوام 2014 – 2017م.

السفر إلى العراق

وفي النصف الآخر من الكرة الأرضية، تحديدًا في مدينة ساو باولو البرازيلية، كان الصحفي البرازيلي غابريل شيم يحتسي شراب جوز الهند في مكتبه في التلفزيون الرسمي البرازيلي، ويقلّب فكرةً في رأسه، ألا وهي السفر إلى العراق.

كان ذلك في عام 2016، الذي شهد تطورات تنحية مجلس الشيوخ لرئيسة البرازيل ديلما روسيف، بعد موجة اتهامات بارتكابها مخالفات مالية، وتسليم ميشيل تامر السلطة، لكن غابريل كان يتابع أيضًا ما يجري في الشرق الأوسط، تحديدًا في مدينة الموصل العراقية.

يقول غابريل لـ«إضاءات»: فكرت مليًّا في السفر إلى العراق، لم أتخذ القرار حتى قرأت عن معركة تحرير الموصل نهاية عام 2016، كانت مشاعري مختلطة، حزني على ما يجري، وشغفي بالوجود في أرض المعركة.

رفضت إدارة التلفزيون الرسمي البرازيلي إعطاء غابريل تصريحًا للذهاب، أكدت له أن حياته أهم من أي سبق صحفي، يقول: قررتُ السفر والعمل كصحفي حر، رغم هول المخاطرة، لكنها أجمل أيام عملي، بعد أعوام من متابعة أخبار الطقس، وكرة القدم، والمناوشات السياسية المتشابهة، أصبحتُ قادرًا على خوض تجربة صحفية حقيقية.

جنود في العراق وقت شروق الشمس
بعدسة المصورة لـينا عيس

الوصول إلى الصحراء

أنتج غابريل فيلمًا وثائقيًا مدته 52 دقيقة حمل اسم (الوصول إلى الصحراء)، نقل من خلاله شجاعة المقاتلين الأكراد وهم يواجهون الموت لتحرير قرى وبلدات الموصل من قبضة تنظيم داعش، يقول: كنت حريصًا دائمًا على الوجود في المقدمة.

يحكي قصة من أرض المعركة: تعرضت القوات أثناء دخولها إحدى حارات بعشيقة، (ناحية تابعة لقضاء الموصل شمال العراق)، لهجوم مضاد، عندما بدأ إطلاق الرصاص، انبطحت على الأرض وفتحت الكاميرا، أحد الجنود كاد يُقتل، فسحبته من قدمه من الخلف، قلت له: «انتبه»، ما زلت إلى الآن أذكر نظرة الامتنان في عينيه، قال باللغة الكردية: «سباس»، منذ ذلك الوقت حفظت معنى هذه الكلمة: غراسيل أو شكرًا أو ثانيكو.

سارت عدسة غابريل تسعة أشهر جنبًا إلى جنب مع قوات البيشمركة (مصطلح يشير الى القوات الكردية ويعني الذين يواجهون الموت)، صوّرت معارك تحرير خمس قرى تتبع لقضاء مخمور جنوبي الموصل، وهي تل الشعير، دويزات تحتاني، دويزات فوقاني، السلطان عبد الله، العوسجة، انتهت بإنتاج فيلمه الوثائقي، وعرضه على التلفزيون الرسمي البرازيلي، وعدد من وسائل الإعلام البرازيلية.

يرى غابريل أن وجود الصحفي على خط النار ليس أمرًا غريبًا، يقول: كنت أعلم حجم الخطورة، ربما يكون الموت قريبًا، لكنه عملي الحر، سألت نفسي مرارًا: ما معنى الحياة إن لم تفعل ما تحب؟ رغبتي آنذاك كانت الوجود في الميدان، رؤية الحقيقة بالصوت والصورة.

خلاصة تجربتي: مشاهد مؤلمة ومفرحة، دموع وابتسامات، موت وحياة، وأيادٍ ترفع إلى الأعلى فرحًا بالنصر، وجوه سمراء لفحتها الشمس لكنها لم تنل من إصرارها على البقاء، أصدقاء كثر، ثقافة ولغة جديدة، وعدسة لم تنم على مدار ما يقارب العام، وعشق لأرض العراق التي رفضت الاستسلام، صورت فيها معظم لقطاتي، في النهاية فيلم يوثق ما جرى بكل أمانة وموضوعية.

من إيران إلى سنجار

كان أوميد يعيش حياة رتيبة؛ يصحو عند الخامسة صباحًا، يخرج للحقل مع والده، يتأكد من حال البقرات، الجميع ينتظر الحليب في القرية، إلى أن جاء عام 2014، غيّر حياته جذريًا، نقله من قريته في منطقة كرمانشاه في إيران، إلى جبل سنجار شمال العراق.

أحب أوميد سحر الطبيعة في قريته، وهناء العيش في منطقة يسكنها الصمت إلا من صوت حفيف الأشجار، أو بعض القنافذ السوداء، لكن حبه الأكبر كرسه لتعلم اللغات، تحدث لغته الأم الفارسية، والكردية باللهجتين السورانية (لهجة أكراد العراق وإيران) والكرمانجية (لهجة أكراد تركيا وسوريا)، تعلّم العربية أيضًا، درس اللغة الإنجليزية في جامعة طهران، وأضحى أفضل أستاذ في القرية.

أصاب أوميد قلقًا، تزايد يومًا بعد يوم، خصوصًا عندما تحوّلت عادة مشاهدة مقاطع الفيديو، التي ينشرها تنظيم داعش على يوتيوب، إلى ما يشبه الإدمان، رأى مشاهد حية مباشرة لقتل واغتصاب واختطاف وشراء وبيع النساء الإيزيديات في سنجار (مدينة عراقية تقع غرب محافظة نينوى قرب الحدود السورية) فقرر السفر إلى العراق.

نساء سنجار

يقول أوميد لـ«إضاءات»: شهدت بلدة سنجار قصصًا بائسةً يصعب على الإنسان الوصول إلى الحد الفاصل بين الخيال والواقع، عندما يقرأ أو يسمع أو يشاهد ما جرى للنساء الإيزيديات، دفعتني إنسانيتي للسفر، لم أحمل السلاح يومًا، لكنني عملت في مجال الترجمة، وكتابة المقالات الصحفية، مع المنظمات الدولية المنتشرة في محافظة نينوى.

وصل أوميد إلى أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق في عام 2014، كان الوضع بائسًا، حتى أن مقاتلي التنظيم كادوا يخترقون المدينة، تطوّع مباشرة مع منظمة يازدا، وهي منظمة يزيدية تساهم فيها كثير من الجنسيات وتعمل على دعم الناجين من الإبادة الداعشية، انتقل بعدها للعمل مع حزب الأزادي أو حزب الحرية الكردستاني (حزب يضم عددًا من المقاتلات والمقاتلين الإيرانيين من أصول كردية، المعارضين للخميني)، يوجد على أرض كردستان، كان له دور بارز في مساعدة قوات البيشمركة في عملية تحرير الموصل.

جنود يجولون شوارع العراق المخربة
بعدسة المصورة لينا عيس

في أرض المعركة

يقول أوميد: عندما التقيت المقاتلات الكرديات، زالت عني كل مشاعر الخوف والندم، وجوههن السمراء عكست جمال أعينهن الخضراء الساحرة، جدائلهن الذهبية الطويلة التي تتكئ عليها بنادقهن، أخبرتني أن النصر مقبل، عندما كنت في إيران ظننت أن هؤلاء النساء اللاتي يستبيح مقاتلو الدولة الإسلامية أجسادهن، يغتصبونهن ويبعدونهن عن أزواجهن وأطفالهن، أكبر عار على تاريخ البشرية، لكن هؤلاء المقاتلات أعدنَ الأمل إلى الحياة.

سار أوميد جنبًا إلى جنب مع المقاتلين والمقاتلات في حزب الأزادي، لكنه حمل قلمه بدلاً عن السلاح، ترجم كل ما جرى إلى العربية والكردية والإنجليزية والفارسية، وأرسلها إلى عدد من المواقع العالمية، يقول: لم أكن أعلم الكثير عن عمليات التحرير الإخباري والصياغة، فقط أكتب وأترجم ما يحدث، في غرف الأخبار أعادوا صياغتها.

الخطر الذي يسكننا

«لماذا عرضت حياتك للخطر؟» حينما وجّهت له هذا السؤال فأجاب:

كان الخطر يسكن فراشي في إيران، وحقل أبي في كرمانشاه، التطرف الذي انتهك أجساد النساء، سينتهك أجساد الرجال أيضًا، هذه قناعتي، عندما أصبحت في أرض المعركة تأكدت أنني على صواب».

ويضيف: بعد مرور أربع سنوات على تحرير الموصل، ما زالت سنجار تنادي ساكنيها، إلى الآن مصير الكثير من النساء الإيزيديات مجهول، أما من نجت من الموت، فهي قطعًا لم تنجُ من الألم والانكسار والضياع، لذلك ما زلت في العراق، مهمتي لم تنتهِ بعد.

«إذن أنت صحفي الآن؟»، هكذا سألتُه، فضحك مجيبًا: هذه المهنة تولد مع ولادة الإنسان، تجري في عروقه رغم كل مخاطرها، ربما يملك الصحفي قصاصة ورقة صغيرة، ويعلم أن نشرها سيكلفه حياته، لكنني أجزم أنه سينشرها، عندها سيكمل عمله.

وكان تنظيم داعش اجتاح منطقة سنجار الإيزيدية شمال العراق، في شهر أغسطس 2014، وارتكب مقاتلوه على مدار ثلاث سنوات، مُمارسات وصفت بالإبادة الجماعية لهذه الأقلية الدينية، أو حملة تغيير ديموغرافي للمنطقة، تسببت في مقتل ثلاثة آلاف إيزيدي، واختطاف 5 آلاف آخرين، وتشريد 400 ألف في دهوك وأربيل، فضلاً عن تعرض 1500 امرأة للاغتصاب الجماعي، وبيع 1000 منهن في السوق كسبايا.

جنود ينقلون زميلهم المصاب في العراق
بعدسة المصورة لينا عيـس

الصحفي المرشد

تحكي الصحفية لينا عيسى لموقع «إضاءات»: عملتُ على مدار أربع سنوات دليلًا، باللغة الإنجليزية (فيكسر) للصحفيين الأجانب، الذين زاروا أرض العراق، بين الأعوام 2014 -2017، حيث دفعت الحرب ضد تنظيم داعش، الصحفيين من مختلف بقاع الأرض إلى الوجود في العراق، جميعهم يحتاج إلى صحفي محلي يرافقه أثناء تنفيذ مهمته.

يأتي الصحفي إلى أرض المعركة، لا يعرف لغة السكان، ولا عاداتهم، تقول لينا: يكون جاهلاً تمامًا بالطرقات والشوارع، يحتاج إلى تصريحات رسمية للتحرك والتنقل والتجوال، بكل تأكيد يريد أيضًا مترجمًا، كل هذه الإجراءات يقوم بها الصحفي المرشد أو (الفيكسر)، هذا ما فعلته مع كثير من الصحفيين الأوروبيين والآسيويين والأمريكيين، خلال معركة تحرير الموصل.

حب المهنة يقود الصحفيين إلى الخطر

ترى لينا أن ما يدفع الصحفيين للقدوم والمخاطرة بحياتهم، هو عشقهم للمهنة بالدرجة الأولى، ورغبتهم في تغطية الأخبار التي تركز عليها وسائل الإعلام العالمية، لكن أغلبهم يأتي بلا أي تصريح من المحطة التي يعمل لديها، لأن معظم وسائل الإعلام العالمية ترفض وضع الصحفيين تحت الخطر، أو رميهم في قلب المعركة، ما يعزز رأيي أن حب المهنة الدافع الأساسي وليس المردود المادي.

يشعر الصحفيون الأجانب أن منطقة الشرق الأوسط تلبي رغبتهم الصحفية، وتحقق طموحهم بتحقق ذواتهم، لأنها منطقة مليئة بالحروب والنزاعات، خلاف المدن الغربية الهادئة، تقول لينا: أخبرني بعضهم عن نوعية الأخبار التي أنتجها، كان معظمها عن الفيضانات والإعصارات وكرة القدم والسينما وبعض قضايا التحرش، بحسب رؤيتي رغم أهمية الأخبار التي أنتجوها في بلادهم، فإن جميعهم خرج بتجربة صحفية ثرية من تغطية حرب الموصل، حتى إن أحدهم قال: حرب الموصل ذكرتني بأنني صحفي.