محتوى مترجم
المصدر
فورين بوليسي
التاريخ
2016/03/04
الكاتب
عزيز أحمد
لمدة طويلة للغاية، تعرض شعبي للاعتداء، القتل، والخيانة. لم يعد في إمكاننا تصديق وعود واشنطن أو التطلع إلى مساعدة بغداد لنا.

كان يومًا قارس البرد تلبدت سماؤه بالغيوم، خلال شتاء عام 1991. كان عمري حينها 4 أعوام، لكنني لا زلت أتذكر كيف عانينا أثناء صعود جبال بطول 6000 قدم قرب الحدود العراقية التركية. كانت أمي تحمل على ظهرها أخي الذي يبلغ من العمر عامين، أمامي على بعد 20 قدمًا، بينما تقدمت عبر الثلوج. لقد أدى المشي ليومين إلى إرهاقها وإصابتها بالضعف.

بينما تأخرت خلفهم، ظل والدي يشجعني بقوله: هيّا إلى فوق التل يا بني.

كان والدي يكذب. لقد تتبعت خطى أمي المتعثرة بينما هوت على الأرض مجددًا، فنظرت إليها وبكيت.

كنا ضمن آلاف العائلات الكردية الهاربة من جيش صدام حسين، الذي كان عازمًا على إبادة الأكراد.

استغرق الأمر خمسة أيام مرهقة للوصول إلى المخيم المؤقت الذي أقيم فوق الحدود العراقية التركية. حيث كان الطقس قاسيًا، ولم يكن هناك أي نظام صحي، وتوافر القليل من الطعام أو الماء. كان كل يوم يحمل طقوسًا من أجل البقاء؛ رشفة ماء واحدة لكل شخص من غطاء زجاجة، قطعة من الخبز المجفف، والقليل من التمر المجمد.

حمل الرجال أكياسًا بها ما تبقى من ممتلكات عائلاتهم، وحملت النساء الأطفال المنتحبين. سجل ذلك الخروج الجماعي، أي هروب حوالي مليوني شخص، فصلًا ضمن الصراع الطويل للشعب الكردي مع الحكومات العراقية المتعاقبة.

كان لكل شخص قصة، وأروي فيما يلي قصتي.

كان والدي مقاتلًا متمردًا، ضمن هؤلاء المعروفين بالبشمركة – ويعني اسمهم «الذين يواجهون الموت». كان يقاتل من أجل الحكم الذاتي منذ الستينيات وكان جزءًا من انتفاضة لطرد الجيش العراقي من المحافظات الكردية بعد انتهاء حرب الخليج عام 1991، عندما أُضعفت قوات صدام حسين. كما عززت الانتفاضة الشيعية في الجنوب جرأة الأكراد، ولكن دون الدعم الأمريكي. بدأ جيش صدام في استعادة السيطرة على الأراضي والانتقام، كما أجبر الاستخدام الحاسم للمروحيات العراقية – المقبول من قبل الجيش الأمريكي – لهدم معاقل المتمردين، الأكراد على الهروب.

وصلنا أخيرًا إلى المخيم، الذي حمل اسم «بليهي»، ولكنه لم يمثل طوق النجاة، بل كان مقبرة مفتوحة. بقيت عائلتنا المكونة من تسعة أشخاص داخل خيمة مصممة لثلاثة أشخاص. أتذكر رج الرياح للخيام المهلهلة ليلًا، بينما بكت امرأة عجوز تخلت عنها عائلتها طلبًا للمساعدة. فأعطتني والدتي قطعة خبز صغيرة لأعطيها للمرأة. وبحلول الصباح التالي، كان البرد قد قتل مئات الأطفال النائمين والعديد من أقاربي. كما تجمدت السيدة العجوز قرب خيمتنا حتى الموت، كذلك لم تظهر عائلتها أبدًا.

إنها أولى ذكريات طفولتي عن العراق، أجبرت على الهروب من منزلي إلى الجبال للاحتماء من الحكومة العراقية. وخلال السنوات التالية، شهدت قتل النظام العراقي لستة من أقاربي، واختطافه لآخرين، جميعهم بسبب جريمة مناصرة الحقوق الكردية.

قاتل الأكراد من أجل الحكم الذاتي منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى. وبلغ الصراع ذروته بعد عام 1979، عندما وصل صدام حسين للحكم. خلال السنوات التالية،قتل جيشه ما يصل إلى 182,000 شخص من الأكراد، وسمم الآلاف بالأسحلة الكيميائية، وهدم ما يزيد عن 4,500 من قرانا.

كحال العديدين من الأكراد، حاولت عبثًا أن أكبح آثار ذلك الماضي المرير بعد الإطاحة بصدام عام 2003. حيث مهّد فرض منطقة حظر جوي بدعم أمريكي، والدعم الإنساني، الطريق لعودتنا من الجبال إلى المدن عند سفحها، وأعطتنا المساحة التي احتجنا لها لبناء دولة في شمال العراق.

بعد إطاحة الولايات المتحدة بصدام، دعانا مسئولون أمريكيون للعودة إلى بغداد لإعطاء العراق الاتحادي الجديد فرصة. كنت رافضًا أن أكون جزءًا من ذلك العراق الجديد، كحال العديد من الأكراد، ولكنني شعرت بأنه لا خيار آخر أمامنا سوى محاولة إنقاذ حقوقنا عبر عملية ديمقراطية في بغداد.

كان الغرب مقتنعًا بأن الإطاحة بصدام – والنفوذ السياسي الكردي حديث التأسيس في بغداد – سيبشر بمرحلة جديدة من التصالح بين الأكراد والعرب، وأقنعنا بالبقاء إلى جانب العراق، بدلًا من الضغط من أجل تأسيس كردستان مستقلة. لا أنكر أيضًا أنه في بعض اللحظات شعرت بأن الأمر ربما سينجح.

ولكنهم كانوا مخطئين، في كلتا الحالتين، كذلك كنت أنا مخطئًا.

وعد الرئيس الحالي لكردستان العراق، مسعود برزاني، بعد نفاد صبره تجاه بغداد، بإجراء استفتاء على الاستقلال في أحد الجيوب الليبرالية الديمقراطية القليلة المتبقية في الشرق الأوسط. فالأكراد في كردستان العراق علمانيون وداعمون لأمريكا، وسيكون الاستقلال خطوة أولى نحو معالجة المظالم التاريخية. في ضوء التاريخ الدموي للعراق، من السذاجة الاعتقاد بأن هذه الأرض لايزال ممكنًا أن تمثل وطنًا مستقرًا للأكراد والعرب، الشيعة والسنة.

دعوني أوضح لكم لماذا سأصوت بـ«نعم» لصالح استقلال كردستان.

بالنسبة لي، انتهت التجربة الكردية في العراق في أغسطس 2014، عندما دشن تنظيم الدولة الإسلامية داعش حملة دموية ضد اليزيديين في سنجار، التي قتل فيها حوالي 5000 يزيدي وتعرضت آلاف النساء للاختطاف لتستخدمن كرقيق للجنس. وبعد موت واستعباد الكثير من اليزيديين، وهم أقلية دينية كردية، توصلت إلى استنتاج وحيد، وهو أن الأكراد قد اختبروا جميع أنظمة الحكم التي قد تبقي على وحدة العراق؛ الملكية، الجمهورية، الاستبداد، الحكم الذاتي، والحكم الاتحادي.

هاجمت الأنظمة العراقية على نحو ممنهج الأكراد خلال جميع عقود القرن الماضي. وفي ضوء تلك التجارب، لا يجب أن يبدو مفاجئًا أن الأكراد نادرًا ما اعتنقوا الهوية العراقية.

حتى فيما يتجاوز اضطهاد الأكراد، يعد العراق اليوم دولة فاشلة وممزقة. وقد نتج عن التوترات الطائفية بين الشيعة والسنة، التي تفاقمت بسبب السياسات الاستبدادية لرئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي والرضوخ السني لغزو داعش في مطلع 2014، إلى تكون مجتمعات منعزلة في أنحاء البلاد. وبالكاد تمتد سيطرة الدولة العراقية إلى حدود ضواحي بغداد، بسبب صعود الميليشيات الشيعية في الجنوب، واحتلال داعش للأراضي السنية، والتقدم الكردي في الشمال، بينما نسعى لتحقيق التطلعات لإقامة دولة مستقلة.

لا يجب لوم الأكراد لانهيار العراق. فقد فشل مشروع العراق لما بعد العام 2003 بسبب الكراهية التاريخية والطائفية بين المسلمين العرب. وتعد تلك العداوات أكثر كارثية من الخلافات السياسية الكردية العربية في العراق بشأن النفط، الأرض، أو الإيرادات الحكومية.

بالنسبة للأكراد، تمثل الهجمات الأخيرة من جانب داعش حلقة جديدة يمكن إضافتها إلى سلسلة من المجازر المتعمدة في العراق العربي. فلا يجب أن يمثل مفاجأة أن إعلان قيام ما يسمى بـ”الخلافة” كان القشة الأخيرة بالنسبة للكثير من الأكراد في علاقتهم مع العراق؛ تمارس الحكومة العراقية في بغداد والحكومة الكردستانية في إربيل الآن سياسات خارجية مستقلة، بما في ذلك السياسات تجاه سوريا، وتتحكمان في جيشين منفصلين. ويظل مقاتلو البشمركة الكردية، بدعم من الطائرات الحربية للتحالف الدولي والمساعدات المحدودة من بغداد، القوة البرية الأكثر فاعلية في قتال داعش،واستعادت بالفعل السيطرة على أكثر من 7700 ميل مربع كان مسلحو داعش قد سيطروا عليهم.

أدى الخلاف الأخير بين الحكومة الإقليمية الكردية وبغداد حول توزيع أرباح النفط إلى توسيع الفجوة بين الجانبين فقط. وقد ترك تعليق ميزانية كردستان من جانب بغداد طوال العامين الماضيين الحكومة الكردستانية غير قادرة على سداد أجور موظفيها المدنيين، تمويل الحرب ضد داعش، وتقديم الملاذ الآمن لحوالي 2 مليون لاجئ عراقي وسوري. كما أثر ذلك على الأسر الكردية العادية، حيث تسبب في استياء عميق. ويهدد الهبوط العالمي في أسعار النفط كلا الاقتصادين، ويجعل الاتفاق المحتمل بشأن تشارك أرباح النفط غير مقبول شعبيًا على نطاق واسع.

يتحمل الغرب قدرًا كبيرًا من المسئولية بالنسبة للفشل المستمر في العراق، وقد يبدأ ذلك منذ رسمه لحدود الشرق الأوسط في الأساس. وقد نتج عن الإطاحة بالنظام السابق المستبد في العراق إلى عدم استقرار الحدود الوهمية للبلاد في الأساس. وتستمر الولايات المتحدة وأوروبا في الاصرار على الإبقاء على الوضع الراهن، حيث تحملان المسئولين الأكراد على العودة إلى بغداد بدلًا من السعي وراء الاستقلال.

«تلك هي الفرصة الأخيرة للعراق»، حسبما يقول الدبلوماسيون الغربيون بشكل متكرر في الاجتماعات. حيث يتمثل كابوسهم في الاعتراف بفشل العراق «المتحد»، الذي تكلف مئات آلاف الأرواح – من الأكراد، العرب، المسيحيين، اليزيديين، اليهود، وآخرين – وأثار حروبًا وهجر الملايين. إنهم يركزون جهودهم على نحو ضالّ على رؤية التطلعات الكردية عبر نافذة العراق ما بعد 2003.

ولكن التقارب بين إربيل وبغداد لن يؤجل الإعلان الحتمي لدولة كردستان المستقلة. والصراع من أجل بناء وطن كردي يستند على رسم مسار أفضل قدمًا للأكراد، بعد المظالم التي واجهوها في العراق، تركيا، إيران، وسوريا. وبالنسبة للأكراد، لا يمثل ذلك مجرد قتال ضد داعش، بل حربًا من أجل الاستقرار. وعلى بغداد ألا تتوقع منهم ببساطة أن يعودوا إلى العراق المتحد بعد التضحيات التي بذلتها قوات البشمركة – حيث قضى منهم حوالي 1400 شخص وأصيب 7000 شخص – من أجل رسم حدود كردستان المستقلة عن بقية العراق.

وراء نضال برزاني تكمن قرون من الثورات الكردية ضد العثمانيين، البريطانيين، والعراقيين. والأمر أيضًا شخصي جدًا بالنسبة له؛ فقد قاد والده، مصطفى برزاني، حركة التحرير الكردية في العراق. والآن، يحمل رئيس منطقة كردستان راية الأمة الأكبر في المنطقة دون دولة.

يدرك برزاني أيضًا أن هزيمة الدولة الإسلامية من المرجح أن تعزز قوة بغداد السياسية والعسكرية، وأن تقلص الدعم العالمي للأكراد. علاوة على ذلك، من غير المرجح أن تدعم الإدارة الأمريكية التالية تقسيم العراق، بما أن ذلك قد يؤدي إلى بروز دعوات مشابهة في تركيا، إيران، وسوريا. لذلك تظل نافذة الفرص بالنسبة لاستفتاء برزاني متاحة خلال العام الحالي، قبل بدء الهجوم على معاقل الدولة الإسلامية بالموصل والرقة، وقبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة.

في شهر مايو، ستتم معاهدة سايكس بيكو، التي رسم الغرب من خلالها المنطقة، عامها المئوي. وفي تلك الفترة، سنتفكر في القرن من الفشل في العراق الذي نتج عن هذه المعاهدة. يجب أن يكون ذلك كافيًا بالنسبة للغرب – والعراق – لإدراك أنه هناك سبب لرسم الخريطة بالقلم الرصاص.

سيؤدي رسم كردستان مستقلة فوق أنقاض العراق إلى إنقاذ الجيل الجديد من الأكراد الهاربين من العراق العربي.