في سياق الحنين النوستالجي إلى فترة العهد الملكي في مصر، ينظر كثيرون إلى الوجود الأجنبي في مصر قبل ثورة يوليو 1952 نظرة رومانسية إلى حد بعيد، في إطار أن مصر كانت بلدًا متعدد الهويات، جاذبًا للهجرة، وليس طاردًا للسكان كما هو الحال في الوقت الحاضر. هل كانت هذه هي الحقيقة؟ أم أن موقع الأجانب في التركيب الاجتماعي والاقتصادي والإداري في مصر في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين يخبرنا بحقيقة أخرى عن طبيعة ذلك الوجود؟


الاحتلال غير المعلن

من أهم الكتب التي تناولت الوجود الأجنبي في مصر في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين مبكرًا، كتاب «Egypt’s Ruin» لتيودور روثستين، الذي أصدرت لجنة التأليف والترجمة والنشر طبعته المعرَّبة الأولى عام 1923 تحت عنوان «تاريخ المسألة المصرية 1875–1910»، وهو الكتاب نفسه الذي صدرت له ترجمة أخرى من المترجم علي أحمد شكري في عام 1927، تحت عنوان آخر هو «تاريخ مصر قبل الاحتلال البريطاني وبعده».

يقول روثستين إن مصر في عهد سعيد باشا سلف الخديو إسماعيل، كانت من أكثر بلاد الشرق رخاء بلا جدال؛ إذ كانت نفقات المعيشة فيها منخفضة إلى درجة لا تكاد تصدق، حيث كان قرش صاغ واحد كافيًا لسد حاجات أسرة بأكملها في اليوم على سبيل المثال، هذا في الوقت نفسه الذي ازدادت فيه العناية بالمشروعات العامة كالسكك الحديدية والقناطر الخيرية وترع الري الجديدة، فضًلا عن بدء إدخال التلغراف والطلمبات البخارية، كل ذلك في ظل ارتفاع ثمن صادرات مصر من القطن إلى ثلاثة أضعاف بسبب ظروف الحرب الأهلية الأمريكية التي أوقفت صادرات القطن من مزارع الجنوب [1].

الكاتب الروسي تيودور روثستين
الكاتب الروسي تيودور روثستين

هذا الرخاء لم يستمر طويلًا، حيث شهدت الأوضاع في البلاد تغييرًا كبيرًا منذ أن صعد إسماعيل إلى سدة الحكم؛ نتيجة لبذخه وإسرافه ولجوئه إلى الاقتراض من بيوت المال الأوروبية، ونتيجة كذلك لتدني أسعار القطن بعد نهاية الحرب الأهلية الأمريكية. وقد أدت القروض التي اقترضها إسماعيل بصفة شخصية بربا فاحش، لكونه نائبًا للسلطان العثماني، وبالتالي يتمتع بسلطة أدنى من الملوك العاديين، على نحو لا يستطيع معه رهن إيرادات البلاد كضمان عام للديون، إلى فتح أبواب الاقتصاد المصري بصورة واسعة أمام الأجانب من خلال الامتيازات والاستثناءات التي قدمت لهم [2].

كما يقول روثستين، وقعت مصر جراء تلك السياسات في قبضة حملة الأسهم الأوروبيين، وذلك بعد عجزها عن سداد الديون وإشهارها للإفلاس، وتم تشكيل وزارة أوروبية في أغسطس/آب 1872، وخضعت البلاد بعد ذلك إلى رقابة ثنائية مالية من مستشار مالي فرنسي وآخر بريطاني لضمان سداد مصر ديونها. وتمثل تلك الفترة بحسب روثستين البداية التي انتقلت معها شئون الإدارة المصرية إلى أيدي موظفين أجانب يعملون مباشرةً لصالح حملة الأسهم، رغم تبعيتهم الرسمية الشكلية للخديو [3].

لم يقتصر الوجود الأجنبي في تلك الأثناء على الموظفين الأجانب داخل الحكومة المصرية، ولكن تحولت البلاد أيضًا إلى سوق مفتوحة لرءوس الأموال الأوروبية وللتجار الأجانب الذين هاجروا إلى مصر للإقامة فيها بشكل دائم أو شبه دائم.


موقع الأجانب في التركيب الاجتماعي والاقتصادي المصري

ساعد استكمال خط السكة الحديد بين القاهرة والإسكندرية في عام 1858 على فتح مصر أمام الاختراق الأوروبي على نحو درامتيكي، حيث اختصرت القطارات مسافة الرحلة من ميناء مدينة الإسكندرية الكوزموبوليتانية إلى القاهرة من أربعة أيام إلى ثماني ساعات فقط، وقد ساعدت الأموال التي تلقتها الإدارة المصرية من ارتفاع الضرائب على القطن في استخدام عمال ميكانيكيين ومهندسين ومدرسين أوروبيين، كما أدى افتتاح قناة السويس في 1869 إلى خلق مجتمعات كبيرة للمغتربين في السويس وبورسعيد [4].

نما عدد الأوروبيين في مصر من قرابة 10 آلاف نسمة في 1848، إلى نحو 100 ألف في ثمانينيات القرن التاسع عشر. ورغم أن أغلبية هؤلاء الأجانب كانوا يقيمون في الإسكندرية، إلا أن أعدادًا كبيرة منهم تحركت نحو القاهرة والأقاليم ككبار ملاك ومقرضي نقود [5]، وتوزعت جنسيات أولئك الأجانب بين العديد من القوميات الأوروبية، فكان منهم الفرنسيون والإنجليز والإيطاليون واليونانيون والأرمن.

بلغ تعداد الأجانب بالقاهرة طبقًا للإحصاء الذى تم في 3 مايو/آيار 1882، 22422 نسمة من إجمالي سكان القاهرة الذين كان يبلغ عددهم 374838 نسمة. أكبر هؤلاء الأجانب عددًا هم اليونانيون الذين وصل تعدادهم إلى 7000 نسمة، يليهم الفرنسيون بتعداد 5000 نسمة، ثم الإيطاليون 3367 نسمة، ثم النمساويون 1800 نسمة، وأخيرًا الإنجليز 1000 نسمة.

محلات هانو و شيكوريل و عمر افندي و صيدناوي في مصر خلال أربعينيات القرن الماضي

أدت الأعداد الكبيرة للأوروبيين التجار أصحاب الحوانيت والعمال إلى خلق منافسة مع المصريين أفضت إلى نتائج بالغة التأثير، حيث سعى هؤلاء لنيل الحصانة في مواجهة القانون المصري والضرائب، والتمتع باستثنائية في الرواتب مقارنة بالمستخدمين المصريين المهرة لمزاولة العمل نفسه. لكل تلك العوامل، نظر كثير من عامة المصريين إلى الوجود الأجنبي ليس كعامل للتقدم، ولكن كعامل أساسي في بناء نظام اجتماعي غير عادل؛ نظام اشتمل على مزايا واستثناءات مقتصرة عليهم، وعلى ضرائب باهظة بسبب الحاجة إلى خدمة الديون الأوروبية وإرضاء رجال مال الأوروبيين الجشعين [6].

على أثر تلك الضغوط المتتابعة من بعثات مالية ولجان تحقيق أجنبية، وتغلغل أجنبي واسع في شئون الدولة المصرية، صدر قانون التصفية في 19 يوليو/تموز 1880، وخصص 57% من دخل البلاد لسداد تكلفة خدمة الديون بجانب دفع الخراج إلى الدولة العثمانية [7].

نتيجة للوضع الاستثنائي والمميز للأجانب، أنشأ الخديو إسماعيل المحاكم المختلطة في يونيو/حزيران عام 1875، وهي محاكم أسست خصيصًا لرعايا الدول الأوروبية، وكانت البداية لتحولات جذرية في النظام القضائي لمصر، تحولات جرت في سياق تحولات أكبر ثقافية واجتماعية، أفرزت جدلًا حول هوية البلاد من الأساس، ويمكن أن نلمس هذا بوضوح في كتاب «مستقبل الثقافة في مصر» لطه حسين الذي قال فيه الأخير إن مصر أقرب حضاريًّا لبلدان حوض البحر المتوسط منها لبلدان الشرق.


المحاكم المختلطة

محلات هانو و شيكوريل و عمر افندي و صيدناوي في مصر خلال أربعينيات القرن الماضي
محلات هانو و شيكوريل و عمر افندي و صيدناوي في مصر خلال أربعينيات القرن الماضي

يقول المؤرخ المصري عبد الرحمن الرافعي في كتابه «عصر إسماعيل» إن إنشاء المحاكم المختلطة ساعد على تغلغل رءوس الأموال الأجنبية وسيطرتها على مرافق البلاد، على نحو وقعت معه الثروة العقارية والمالية المصرية في قبضة الأجانب، بعيدًا عن الامتيازات الأخرى التي منحت إياهم وجعلت أموالهم العقارية والتجارية والصناعية محصنة من الضرائب التي أثقلت كاهل المصريين.

حيث أتاح نظام المحاكم المختلطة الذي يتعامل أساسًا بالقانون الأوروبي للدائنين الأجانب حق احتباس الرهونات على المديونيات حتى لو كانت ضئيلة، وذلك في حال تأخر موعد استحقاقها، وكان هذا على خلاف المعمول به في السابق في المحاكم الشرعية المصرية، وهو ما مكَّن الدائنين الأوروبيين من ضم أرض الفلاحين مقابل الديون المعدومة، وقد نقلت المحاكم المختلطة في هذا الإطار نحو 500 ألف فدان إلى أيدي مقرضي النقود في محافظة المنوفية وحدها، وهي المعروفة بخصوبة أراضيها [8].

أدى النظام القضائي المختلط الجديد إلى تحولات أوسع أيضًا في النظام القانوني والتشريعي والإداري، فعلى مستوى التشريع الإداري فقد المصريون إرثًا اجتماعيًّا ثمينًا، ألا وهو تكتلهم في طوائف وهيئات لها قدر من الحرية والحوكمة الذاتية والقدرة على الصمود أمام الضغوط والعسف، وهو ما لم تسمح به النظم القانونية والحكومية التي آثرت أن تتعامل مع المجتمع كأفراد متذمرين [9].

كان لكل من هذه الجماعات الوسيطة المتدرجة بين العموم والخصوص، والمصنفة تبعًا للوحدات القرابية والجغرافية والمهنية، انعكاسات وترابطات مع العلاقات والمراكز القانونية، تترتب عليها حقوق مثل حق الشفعة والارتفاقات ونفقة الأقارب في الأسر والعائلات الممتدة [10].

ساهمت النظم الوافدة القانونية والحقوقية، والبنى التنظيمية الجديدة التي قامت عليها، في تفكيك تلك الأواصر، وعملت على إذابة شعور كل من تلك الجماعات بذاتها، وشعور الفرد بارتباطه بها، وكسرت الجسم الاجتماعي المصري بما فيه مؤسسات وهيئات وعلاقات تاريخية مستقرة، وأنشأت عوضًا عن ذلك هياكل وبنى مبتورة من بيئة أجنبية ومن سياق مختلف على أنساق غير متآلفة معها [11].

على هذا النحو أصبح لا يوجد اليوم رابط ينظم العلاقات على نحو سلس بين سكان عمارة واحدة في حي من أحياء القاهرة، بمثل ما كان الرابط الجامع ينظم سكان الحارات القديمة رغم انفصال المساكن، واستحال الوضع بنهاية المطاف في مصر إلى سلطة مركزية متغولة وأفراد متناثرين، وأقليات أجنبية تتمتع بالكثير من الحصانة والامتيازات.

أدى أيضًا تفتت نظام الطوائف قيام السلطة المركزية كتنظيم شبه وحيد في المجتمع إلى تسهيل سيطرة الحكم الأجنبي على البلاد، وأضعف ما تواجهه سياساته من مقاومة، وأدى إلى جنوح دولة الاستقلال الوطني التي قامت لاحقًا بعد جلاء المحتل إلى الاستبداد والفشل الإداري والتضخم البيروقراطي [12]. في هذا السياق يقول المؤرخ المصري طارق البشري:

إن نظرة لقوانين الضرائب والتأمينات الاجتماعية تكشف إلى أي حد جرت تلك القوانين في التعقيد والتشعب والإمعان في تفصيل التفصيلات، لأن القانون صار موجهًا إلى جهاز واحد ينفذه، وعليه أن يضبط أحكامه من حيث الإمكانية المالية المقبوضة أو المصروفة، مع ملاحظة اعتبارات العدالة في التوزيع بين أفراد تختلف أوضاعهم وظروفهم، ومع ملاحقة الوجوه المتنوعة للتهرب والتحايل على الجهاز الوحيد، فتزداد الأوضاع تعقيدًا، وتوضع القواعد، ثم توضع الاستثناءات عليها، ثم ترد الإجراءات البالغة التعقيد، وكل ذلك تزيد به المنازعات، فتنشأ أجهزة للتظلم من الإجراءات، وتتعدد درجاتها، ثم تزداد المنازعات أمام المحاكم بدرجاتها المختلفة. ثم تتداعى التعديلات القانونية لسد فجوة ووقف تحايل أو تدارك خلل أو ظلم وقع بفئة شعبية، فتزداد النصوص تعقيدًا وتشعبًا وهكذا، ويزداد العب على المحاكم فيضعف نصيب كل حالة من الدراسة المتأنية، فيتعدل نظام المحاكم، وتتعدل القوانين.[13]

وأخيرًا، أدى احتكام الجاليات الأوروبية لقوانينها الخاصة التي تسربت إلى بنية النظام القانوني والتشريعي المصري في نهاية المطاف، إلى اغتراب السلطة عن الجمهور، فلم يعد القانون نظامًا وأحكامًا يتحاكم الناس بها بين بعضهم البعض من خلال علاقاتهم المباشرة وروابطهم الحية، وبواسطة الكيانات الجامعة المبنية على الروابط التي يشعرون بالانتماء إليها حقًا، بل صارت علاقة الفرد بالآخر في المجتمع تتشكل من خلال أحكام مفروضة من أعلى [14]، عبر السلطة المركزية التي كانت تحمي مصالح الأجانب بالدرجة الأولى عبر الاستثناءات التي قدمت لهم كرعايا دول أوروبية وكجاليات وكتل اجتماعية لها وزن وصوت مسموع، في مقابل الشرذمة التي عانى منها عموم المصريين من «معذبي الأرض».

المراجع
  1. ثيودور روثستاين، تاريخ مصر قبل الاحتلال البريطاني وبعده، ترجمة علي أحمد شكري، طبعة من إصدار المترجم، القاهرة، 1927، ص44
  2. لمرجع نفسه ص 47
  3. لمرجع نفسه ص 102
  4. جوان كول، الكولنيالية والثورة: الأصول الاجتماعية والثقافية لثورة عرابي، ترجمة عنان الشهاوي، مدارات للأبحاث والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى ، يناير 2016، ص 464
  5. المرجع نفسه ص 466
  6. المرجع نفسه ص 467 – 469
  7. أحمد عبد الرحيم، مصر والمسالة المصرية من 1876 – 1882: التدخل الأجنبي، الحركة الوطنية، الثورة العرابية، المجلة التاريخية المصرية، العدد 15، 1969، ص 287
  8. جوان كول، الأصول الاجتماعية والثقافية لثورة عرابي، مصدر سابق.
  9. طارق البشري، الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى، 1996، ص 26
  10. لمرجع نفسه، نفس الصفحة
  11. المرجع نفسه ص 27
  12. المرجع نفسه ص 28
  13. المرجع نفسه
  14. المرجع نفسه