كم نتمنى لو أن للنسيان زرًا، نضغط عليه في أي وقت فيُلقي بذكرياتنا السلبية إلى ثقب أسود، فلا نتذكرها للأبد.

فكرة شغلت بال الكثيريين من المفكرين والفلاسفة والكُتاب، لِعظم تأثير الذكريات المؤلمة على حياة الإنسان، والتي بإمكانها أن تحول حياة المرء منّا إلى جحيم إذا ما ترك لعقله العيان للاسترسال في تذكر تفاصيلها المؤلمة.

فقد اعتبرت الفلسفة المعاصرة النسيان بمثابة فعل إيجابي مُحرِر وسلطة فاعلة وقوة علاجية مضادة للتاريخ الذي يترتب على تضخمه «شيخوخة سابقة لأوانها» على حد وصف الفليسوف الألماني فريدريك نيتشه،وهو الذي بلور نظرية متكاملة حول الذاكرة والنسيان، ودعا فيها إلى التحرر مما أسماه «مرض التاريخ». كما اعتبر أن الفشل في إحداث التوازن بين الذاكرة والنسيان يمثل خطرًا، لا على الأفراد فقط بل وعلى الشعوب والحضارات كذلك. الأمر ذاته نبّه إليه الفليسوف الفرنسي «بول ريكور» في كتابه: «الذاكرة، التاريخ، النسيان»، والذي أشار فيه إلى تجلي تلك الخطورة في إمكانية التلاعب بالذاكرة والنسيان وسوء استعمالهما من طرف مالكي السلطة.

بينما قدم الكاتب الأمريكي «جورج أورويل»في روايته الشهيرة «1984»، فكرة وزارة الحقيقة التي أوجد بها، من وحي خياله، «ثقبًا للذاكرة» تختفي فيه الحقائق المهمة كوسيلة للهرب من الحوادث والنكبات والمصائب التي قد يكون للمرء يد بها. فيما طرح الكاتب «تشارلي كافمان» في فيلم «إشراقة أبدية لعقل نظيف» فرضية مثيرة للاهتمام، وهي:

هل بإمكاننا حقًا محو الذكريات غير المرغوب فيها والتي تنتهي بنا إلى المزيد من الحزن واليأس والاكتئاب والقلق؟ وهل من الممكن أن نجد يومًا ما علاجًا بإمكانه معرفة كيف تُخرن الذكريات المؤلمة، وكيف يمكننا استرجاعها كي نمحوها تمامًا من الذاكرة؟

حاول الكاتب من خلال ذلك الفيلم أن يطرح فكرته تلك، متمثلةً في رغبة بطليه، جيم كاري وكيت وينسلت، في محو ذاكرة علاقتهما التي لطالما سبّبت لهما الآلام والمتاعب كلما تذكرا تفاصيلها.


اضطرابات ما بعد الصدمة

عند تعريف اضطراب ما بعد الصدمة، نجد أنه ذلك الاضطراب الذي يحدث للإنسان بعد مروره بتجربة قاسية، كحادثة مروعة تعرضت حياته أو حياة من يحب فيها لخطر أو شاهد لحظة موت أحدهم، كحوادث الطرق الخطيرة والمعارك والحروب والاعتداءات الجنسية والجسدية أو التعرض لحادث سرقة أو سطو.

ومن أعراض تلك الاضطرابات،أن يشعر الشخص بحصول التجربة مرة أخرى خلال النهار أو أن يشاهدها في كوابيس خلال الليل. قد لا يتذكر الأحداث لكنه يظل يشعر بمشاعر مشابهة لما أحسه من قبل عندما تعرض لذلك الحادث. وقد يتجنب الذهاب لأماكن معينة أو التعامل مع أشخاص بعينهم قد يكون لهم صلة بالحادث من قريب أو بعيد، أو أن يكون دائمًا في يقظة دائمة، فيظل يعاني من الأرق ولا يستطيع الاسترخاء لشعوره الدائم بأن ثمة خطر يحدق به.

حقيقةً، لا يُشترط أن تكون الصدمة حدثًا جللاً كالنجاة من حادث حريق أو انفجار أو حرب. قد تكون الصدمة هي انكسارات تسبب فيها أناس مقربون لم يكن من المتوقع بأي حال أن يأتي الخذلان منهم. ذكريات مؤلمة وأحاديث قاسية تمر علينا في رحلة الحياة، كلما تذكرناها أحدثت غصة في قلوبنا. حتى أن كثيرين منّا يُقوقعون أنفسهم داخل ذكرياتهم المؤلمة، فيظل شبح تلك الذكريات مُلقيًا بظلاله على حياتهم. فقد تتشكل نظرتنا إلى ذواتنا والطريقة التي نعيش بها في الحياة، بكلمة واحدة فقط كُررت على مسامعنا في طفولتنا.

ذلك الشخص الذي فشل في الدراسة وأصبح مدخنًا ولم يكمل تعليمه، هو نفسه الذي لطالما دس والده السم في جسده بكلماته السلبية «أنت كسول… أنت فاشل»، تلك الكلمات التي شكّلت هويته حتى باتت جزءًا من شخصيته ونظرته لنفسه. فإذا ما أخبرته أن بإمكانه أن يبدأ من جديد سيخبرك: «أنا حقًا لن أصل إلى أي شيء!»

وتلك الفتاة التي لا تتذكر من طفولتها سوى صياح والدتها فيها بمبرر وبدون مبرر، لا شيء تتذكره سوى ذلك الخوف والارتعاش الذي لطالما كرسته أفعال والدتها فيها، فأصبح ذلك الخوف ملازمًا لها حتى بعدما أصبحت أمًا ورغم وفاة والدتها، فانكمشت ثقتها في الناس ولم تدم علاقاتها طويلاً.

كلا الشخصين تعرضا للصدمة، فلم يستطع الشاب الهرب من شبح «النقد» الذي خيّم به والده عليه في طفولته، ولم تتمكن الفتاة من التحرر من مشاعر الخوف التي كرستها فيها والدتها المزاجية.


محاولات علمية لمحو الذكريات السلبية

عرض باحثون هولنديون على وسائل الإعلام حبوب منع الحمل المتوفرة بشكل شائع كعلاج يساعد على خفض التوتر والنسيان؛ ذلك لاحتوائها على «حاصرات بيتا» التي تُعرف أيضًا بعقاقير حصر بيتا الأدرينالية والخافضة لضغط الدم. ذلك العلاج قُدم كخدعة يمكن عليها الاعتماد للمساعدة في النسيان، إذ تشغل الذكريات العاطفية منطقة من الدماغ تسمى باللوزة الدماغية، ويعد هرمون الأدرينالين هو الناقل العصبي المسئول عن مشاعر الخوف والتوتر. ومن خلال تقليص تأثير الأدرينالين باستخدام حاصرات بيتا سيحدث بالتبعية إضعاف للذاكرة العاطفية ومن ثم نسيان تلك المشاعر.

بعيدًا عن تلك الخدعة، فقد ألهم فيلم «إشراقة أبدية لعقل نظيف» مجموعة من الباحثين الكنديين، لمحاولة إيجاد علاج يعين المريض على النسيان. ففي تجربة أجراها أولئك الباحثون على مجموعة من الفئران، استهدفوا فيها عددًا صغيرًا من خلاياها العصبية المرتبطة بمشاعر «الخوف»، في محاولة منهم للقضاء على الذكريات السلبية المرتبطة بالخوف. وقد زعم الباحثون حينها أن بإمكانهم إذا ما نجحت التجربة أن يستخدموا ذات الأسلوب مع البشر.

وجد الباحثون الكنديون أنه من بين ملايين الخلايا العصبية في الدماغ، لم يكن هناك سوى عدد قليل منها مسئول عن تكوين ذاكرة مرتبطة بالخوف أو الشعور بالتهديد في حالة الخطر، وأنه بالإمكان تمييز تلك الخلايا العصبية المسئولة عن مشاعر الخوف من خلال الإفراط في إنتاج بروتين معين في الدماغ يمكن من خلاله إزالة الخلايا العصبية المستهدفة دون التأثير على باقي الذكريات الأخرى. ومع مزيد من التجارب على الفئران، توصل الباحثون إلى أن إدمان الكوكايين من الممكن التغلب عليه من خلال محو الذكريات العاطفية المرتبطة بتناوله.

وفي الاجتماع السنوي للجمعية الأمريكية لتقدم العلوم في بوسطن،قالت الطبيبة «شينا جوسلين» والتي تولت قيادة فريق الباحثين في تلك الدراسة:

واقترحت جوسلين كوسيلة للتخلص من الأفكار السلبية، أن يتم التوصل إلى العلاج بصورة نهائية، ربط التفاصيل المرتبطة بمشاعر سلبية بمشاعر أخرى إيجابية. فإذا كانت أغنية ما كلما سمعتها ذكرتك بأشخاص تسببوا في أذيتك، حاول أن تسمعها في بيئة إيجابية أثناء ممارسة الرياضة أو في رحلة أو مع صديق مرح. وإذا كانت مشاهد من فيلم رعب تطارد أفكارك وتثير الخوف في نفسك كلما تذكرتها، من الممكن أن تشاهد نفس المشاهد نهارًا أو بدون صوت أو حتى تركيب صوت كوميدي على تلك المشاهد حتى تبدو لك مشاهد ساخرة عبثية لا تستحق كل هذا الخوف.


لماذا يُفضل العلاج النفسي عن الدوائي؟

إن نتائجنا تشير إلى أنه بالإمكان يومًا ما علاج الأشخاص الذين يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة، عن طريق محو هذه الذكريات المؤلمة.
تجرد من كل شيء، تعلق بربك وانظر إلى النجوم… تنفس بعمق وتحسس الفرصة المناسبة في كل لحظة لتحريرك مما يسيطر عليك ويدمر علاقاتك بالآخرين… حين تعلم أنك جزء من عالم أكبر منك ستستقر روحك.
مارك بانشيك، كاتب نفسي في موقع سيكولوجي توداي

لن يُفرق الدواء عند محوه لذاكرة الخوف بين مشاعر خوف سلبية ومشاعر خوف لابد منها. دعنا نتخيل إذا ما وُجد الدواء وتخلص المرء من كل مشاعر الخوف التي قد تنتابه، وكان بمواجهة أسد في غابة أو أمام كلب حراسة… هل سيخاف؟ هل من الممكن أن يحاول حماية نفسه أم سيشعر بتبلد نظرًا لتثبيط الدواء للخلايا العصبية المسئولة عن مشاعر الخوف؟

هنا لا بد من وجود جرعة صحية من الخوف، تُبقي الإنسان في مأمن من المواقف الخطيرة التي قد تُعرض حياته للخطر. فالتخزين الدائم للمعلومات الخطيرة قابل للتكيف، فالأسد حيوان مفترس لكن عند رؤيته في حديقة الحيوان وهو رهن قفصه فإن عقولنا تعلم أننا بذلك نكون في مأمن، أما إذا ما كنا في غابة أو أدغال وواجهنا أسدًا، سيكون حينها الأمر خطيرًا. الأمر نفسه إذا ما شكّل العلاج ذاكرة جديدة تفترض أن معظم الكلاب صديقة، وتعرض الشخص لهجوم من كلب مفترس، ما الذي بالإمكان أن يفعله؟ هل سيهرب أم سيظن أن الكلب يجري نحوه باندفاع كي يداعبه؟ ذلك التفريق الدقيق لن يميزه الدواء.

في المقابل، يبرز العلاج النفسي كحل أمثل للتعامل مع الصدمات النفسية. ويُعد العلاج السلوكي المعرفي هو أحد العلاجات النفسية الشائعة لاضطرابات القلق. يرتكز ذلك العلاج في فكرته الرئيسية على تحويل الأفكار المثيرة للخوف -والتي تتسبب في توليد مشاعر القلق- إلى مشاعر أخرى إيجابية. فهو واحد من أكثر العلاجات المدعومة علميًا للتعامل مع اضطرابات القلق.

ما هو سيئ، أنه وفق ما أشارت إليه دراسة أمريكية حديثة، فإن حوالي 50% من المرضى قد تعود لهم ذكريات الخوف القديمة بعد أربع سنوات من العلاج المعرفي السلوكي أو العلاج بالعقاقير.

لكن ما قد يُثمر حقًا هو أن يعيد المريض اكتشاف نقاط قوته عند تعرضه للعلاج، أن يؤمن بكونه إنسانًا ذا قوة ومواهب مميزة، فيمنحه ذلك الشعور الدافع للتغلب على الصدمة التي حطمت حياته. ذلك إلى جانب العلاج النفسي مع شخص مختص حكيم يعلم متى يلجأ لاستخدام الأدوية النفسية في الوقت المناسب دون الاعتماد عليها كأساس في رحلة العلاج. كل هذا سيعمل على نحو متناغم، إذا ما كان المريض مستعدًا حقًا للتخلص من المشاعر التي تُثقل كاهله وتقيد استمتاعه بالحياة.