والآن لو أن كل تلك الأجسام كانت في الحقيقة أصداف أسماك؛ وهي الأقرب في الشبه لذلك، وأن تلك الأجسام توجد على قمم أكبر جبال العالم؛ فإنه حجة قوية على أن الأجزاء السطحية من الأرض تعرضت لتغيرات شديدة من البداية، وأن قمم الجبال كانت في الأصل مغمورة تحت الماء، ويمكن الزّعم كذلك أن أجزاء متنوعة من قاع البحر كانت في ذلك الحين جبالًا.
روبرت هوك، من كتاب محاضرات ومقالات عن الزلازل (1668)

لربما كانت الديناصورات من أكثر الكائنات الحية التي حيّرت الحضارة البشرية، وبحث الإنسان في تاريخها طويلًا، ووضع سجلًا يحاول فيه وصف الحياة قبل التاريخ. ويتضمن هذا السجل تاريخًا طويلًا لعصور وأزمنة سحيقة ومتنوعة وُجدت فيها أنواع غريبة وكثيرة من الكائنات الحية، لكن إذا سألنا أنفسنا عدة أسئلة كالآتي:

كيف تمكنّا من معرفة ذلك السجل بما فيه من معلومات؟ وكيف استطاعنا تصّور بيئة كاملة كانت موجودة بالفعل منذ ملايين السنين؟ أو هل كيف استطاعنا تحديد عُمر الكوكب ذاته؟

حتمًا ستكون الإجابة هي: عن طريق الحفريات القديمة التي وجدت منذ ذلك الحين وصولًا لعالمنا.

إذًا ما هي الحفريات، وكيف تنشأ؟ وبماذا تخبرنا عن عالمنا؟


ما هي الحفريات – Fossils؟

http://gty.im/57013989

الحفريات أو المستحثات؛ هي بقايا أو آثار لكائنٍ حي سواءً كان نباتًا أو حيوانًا عاش قديمًا، ومات منذ آلاف أو ملايين السنين، وتم حفظه في طبقات الأرض بطرقٍ طبيعية، ويعرف العلم الذي يدرس الحفريات باسم «علم المتحجرات – paleontology».

بدأ علم المتحجرات يأخذ الطابع الرسمي في القرن الـ 17 وما بعده، وبدأ الناس في دراسة الحفريات التي عثر عليها لتحديد عمر الأرض، وتحديد أسباب انقراض الحيوانات التي عاشت قديمًا. وفي القرن الـ 19 نشر «تشارلز داروين» كتابه «أصل الأنواع» والذي أعطى لعلم الحفريات الدافع للبحث في بدايات وأصل الكائنات الحية.


أنواع الحفريات

قبل الخوض في الحفريات وكيف يتم التحفّر؛ لا بد من ذكر أنواع الحفريات بشكل عام؛ وهي تنقسم إلى 3 أنواع رئيسية من الحفريات كالآتي:

1. حفريات هيكلية – Body Fossils: وهي البقايا الحقيقية من الكائن الحي سواءً أكان حيوان أم نبات، والتي تم حفظها بالكامل؛ مثل هيكل عظمي أو وخالب، أو أسنان أو حبوب لقاح وغيرها من الهياكل.2. حفريات الأثر الأحفوري – Trace: وهي بقايا من النشاط القديم للكائن الحي حين كان على قيد الحياة، مثل الحفر بواسطة دودة، أو أثار الأقدام، أو طبعات على الصخور، وغيرها من الأثار للكائنات الحية.3. حفريات الطوابع – mold، وحفريات القوالب – Casts: حفريات الطوابع تحدث عندما يذوب الكائن الحي بالكامل في الصخور الرسوبية، وتبقى أثاره على الصخر المحيط، عندها تُسمى حفرية طابع خارجي. أما حفرية الطابع الداخلي؛ فتحدث عندما تملأ الرواسب أو المعادن التجويف الداخلي للهيكل، مثل الأصداف أو الجمجمة.4. حفرية القالب: هي حفرية تنشأ عن ملئ تجويف الحيوان بمادة معدنية؛ فينشأ عنها شكل يُماثل هيكل الحيوان.


كيف يتم التحفّر؟

http://gty.im/72461607

«عملية التحفّر – Fossilization» هي عملية حفظ بقايا الكائن الحي[1] في الصخور الرسوبية، وتتم تلك العملية بالعديد من العمليات الكيميائية والفيزيائية التي تطال الكائنات الحية بعد موتها، ويتم حفظ الكائن الحي بعد موته داخل الصخور الرسوبية بعدة طرق كالآتي:

1. حفظ الكائن الحي بكامله دون تغيير في صفاته وهيكله؛ حيث يتم حفظ الكائن الحي داخل بيئته؛ مثل «فيل الماموث» الذي وجدت حفرياته كحيوان كامل في صحاري سيبيريا المتجمدة. مثال آخر: هي حفريات الحشرات الشهيرة التي حُفظت داخل أحجار الكهرمان بكامل شكلها.

http://gty.im/115101100

2. حفظ هيكل الكائن الحي دون تغيير في تركيبه؛ حيث تقضي البكتيريا على الأنسخة الرخوة في الكائن الحي، وتبقى بقايا هيكله كما هي دون تغيير في تركيبها، حيث عادةً ما تكون مكونة من معادن الكالسيوم، أو غيرها من المواد المكونة للهياكل الصلبة، وتتم هذه العملية في الكائنات الحية التي تأخر دفنها في طبقات الصخور.3. حفظ الهياكل بعد استبدالها بمواد معدنية، وهذه العملية تنقسم لعدة طرق يتم من خلالها احلال المعادن محل المكونات الرئيسية للهيكل كالآتي:أ. الكَرْبَنَة – Carbonization: وهي عملية تتم عن طريق إحلال الكربون محل كافة العناصر الأخرى مثل الأكسجين والهيدروجين في بقايا الكائن الحي، وتعمل درجة الحرارة والضغط كعاملين أساسيين لإتمام تلك العملية.

حفرية حفريات الكَرْبَنَة
حفرية ناتجة عن عملية الكَرْبَنَة

2. التّمَعْدُن – per-mineralization: تحدث هذه العملية بعد موت الكائن الحي وفناء أنسجته الرخوية – الجلود أو الأعضاء الداخلية – في الصخور الرسوبية، وتبقى الأجزاء الصُّلبة للكائن خاصة العظام والهياكل. يتسرب الماء المذاب فيه بعض المعادن إلى فجوات تلك البقايا الصُّلبة حيث تُشكل البلورات المعدنية فيها. هذه المعادن المتبلورة تتسبب في تصلّب البقايا الهيكلية وتحفظ داخل الصخور الرسوبية.

حفرية التّمَعْدُن
حفرية ناتجة عن عملية التّمَعْدُن

3. الإحلال المعدني الكامل – Replacement: تحدث هذه العملية عندما تحل المعادن المذابة في المياه الجوفية محل المعادن الموجودة في بقايا الهيكل للكائن الحي، بحيث يستبدل التركيب المعدني للبقايا بالكامل.

حفرية ناتجة عن الإحلال المعدني الكامل

كما تحدث هذه العملية في النباتات؛ حيث تحل المعادن محل المواد العضوية في النبات، ويستبدل الهيكل النباتي بالكامل. أشهر هذه الأمثلة هو «الخشب المتحجر – Petrified Wood» حيث يتم استبدال المادة العضوية فيه بمعدن السيلكا، ويظهر بشكله الخشبي العادي، لكن تركيبه هو معدن السيلكا.


ماذا تخبرنا الحفريات؟

حفرية
حفرية

أول من اهتم بدراسة الحفريات هو العالم الإنجليزي «روبرت هوك» الذي وضع مؤلفه فيها عام 1665م، وبدأ في محاولة تصورها ورسمها بشكلها الصحيح في كتابه «محاضرات ومقالات عن الزلازل» الذي نُشر بعد موته عام 1705م.

ساهمت الحفريات بشكل رئيسي في فهم قصة الحياة القديمة على الأرض من خلال فهمنا لحركة القارات المستمرة، وتغير شكل سطح الأرض، والتغيرات المناخية. ساهمت أيضًا في فهم التنوع البيولوجي على كوكب الأرض من خلال ملاحظة نشوء وتنوع شديد لأصناف حية جديدة، وانقراضات جماعية لأصنافٍ أخرى.[1]

بدأت الحفريات تبرهن على كل تلك الأشياء قبل ظهور نظرية «تشارلز داروين» عن الانتخاب الطبيعي بفترة طويلة حيث طُرحت النظرية رسميًا عام 1859م، وقدمت السببية لأصل الأنواع.

توجد العديد من متاحف الطبيعة التي تكون فيها الحفريات – خصوصًا الديناصورات – العنصر الأساسي لجذب الزوار وإرضاء فضولهم عن حياة ما قبل التاريخ. ساهمت الحفريات أيضًا في معرفة أن الصخور الأرضية تتكون من طبقات مختلفة يبلغ سمكها آلاف الأقدام، تحتوي على مجموعات متنوعة من الحفريات.

ومن أهم ما تخبرنا به الحفريات هو الزمان، وأن الأرض قديمة العهد للغاية حيث تبلغ نحو 4.5 مليار سنة، وأنها في حالة تغيّر دائم، وأن قيعان محيطات سابقة أصبحت الآن جبالًا مثل جبال الألب، أو الأجراف الطباشيرية في دوفر، وكذلك انفصال القارات وتحركاتها، والذي تسبب في ظهور مستنقعات الفحم الاستوائية التي تعود للعصر الكربوني، وغيرها من التغيرات الهائلة التي أظهرت تأثير الزمان على الكوكب.

أخيرًا، يعتبر علم الحفريات علمًا مشوقًا ومليئًا بالإثارة؛ حيث هناك دائمًا المزيد من الحفريات التي يتم العثور عليها، بالتالي هناك قصة جديدة تروى من داخل الكوكب، وكل ما عليك هو الاستمتاع بتلك القصص، وربما تقدم لك الحفريات مخيلة واسعة لتبدأ في كتابة رواية ما حدثت في زمن سحيق.

المراجع
  1. الحفريات مقدمة قصيرة جدًا، كيث طومسون، صفحة 58 – مؤسسة هنداوي