حقق صلاح عيسى في «مقتل مأمور البداري»، وكتب عن الحادثة من واقع ما نُشر عنها في صحف زمانها. قدم وصفًا دقيقًا لقضية «رجال ريا وسكينة» من واقع سجلات التحقيقات مع المتهمين في قتل السيدات بالإسكندرية مع بدايات القرن العشرين. كتب عن أولاد الليل وأهمهم «خُط الصعيد» في «أفيون وبنادق» مستعينًا بمذكرات الملازم محمد سعيد هلال، قائد فرقة مطاردة الخُط، وبالتحقيقات الصحفية التي نشرها الكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل، بوصفه الصحفي الوحيد الذي سُمح له بالكتابة عن القضية التي روعت 3 حكومات في الأربعينيات.

لصلاح عيسى إسهامات كبيرة في مجال التحقيق والتحقق من الحوادث التاريخية، بدءًا من معركة «مرج دابق»، مرورًا بـ«الثورة العرابية» وأحداث وقعت في البيت الملكي في مصر، وصولاً إلى الأوراق المبعثرة والمشاغبات التي جمعها في كتاب صدر له بعد رحيله بعنوان «سلامي عليك يا زمن».

كان منهجه تاريخياً عقلانياً منطقياً، لا يميل إلى تاريخ رسمي، ولا يجنح نحو شطط ما أطلقوا على أنفسهم اسم مؤرخين بالخطأ، حيث كان انطلاقهم من زوايا فكرية وعقائدية معينة، لا تعين الباحث ولا الدارس للتاريخ بشكل واضح.

من بين كتب صلاح عيسى التي حاد فيها عن منهجه التاريخي التوثيقي، كتاب «مذكرات فتوة»، حيث لجأ إلى مدخل مختلف، وهو المدخل اللغوي، حيث نشر المذكرات مع تحقيق وتأصيل وتوثيق ما ورد فيها من مصطلحات غريبة على الأسماع، وهو منهج لم يلجأ إليه إلا القليل، ومنهم على سبيل المثال د. أحمد السعيد سليمان، الذي قدم دراسته المهمة والملهمة «تأصيل ما ورد في كتاب الجبرتي من الدخيل»، وهي الدراسة التي ذكرها عيسى في مقدمة كتابه بعنوان «الأصيل والدخيل في تاريخ الجبرتي»، وأعتقد أنها ليست مسمى الدراسة التي قدمها سليمان في السنوات المتأخرة من السبعينيات، ولا هي مسمى الكتاب الذي صدر في الثمانينيات، ولكن ما يُحسب لعيسى أنه ذكرها باعتبارها دراسة رائدة في هذا النمط التحقيقي التوثيقي، إضافة إلى دراسة أخرى وهي «العصر المماليكي» للدكتور سعيد عبدالفتاح عاشور.

ما فعله سليمان أو عاشور هو أنهما جمعا المصطلحات التركية والفارسية التي تسللت في الخفاء إلى اللغة العربية، واستعان بها المؤرخون الأكابر مثل ابن تغري بردي والجبرتي وابن إياس الحنفي في كتبهم التي أرخت لفترة الدول الإسلامية المتعاقبة، فشرحوها في أواخر الكتب أو قدموها في كتب مستقلة تقدم للقارئ الكلمة ومعناها وأصلها.

صلاح عيسى «الترجمان»

صلاح عيسى «ترجمان» مهم. لا يترك شاردة أو واردة من دون التحقق منها، أما في كتاب «مذكرات فتوة» فهو لم يترك لفظًا غريبًا أو مهملاً (دخيلًا أو أصيلًا) إلا وكشف عن معناه وأصله اللغوي والتاريخي، بحيث أراد أن يقدم للقارئ العربي سبتًا كاملاً من الكلمات التي كان يستخدمها المصريون في الشوارع والحارات في بداية القرن الماضي.

عيسى وكأنه يقدم معجمًا خاصًا للغة أهل الشارع والفتوات، لغة الشعبيين وأهل مصر الأصليين، الذين عاشوا بعيدًا عن طبقة النبلاء والأعيان، ولم تشغلهم حياة القصر الملكي، بكل ما يدور فيها من بذخ وترف وقصص حب واشتهاء.

لاحظ عيسى كذلك، وبناءً على دراسة عبدالسميع الهراوي، أن لغة الدواوين في مصر هي الأخرى تداخلت فيها ألفاظ تركية وفارسية وإيطالية وفرنسية، وبمرور الزمن لم يبق منها إلا القليل، حيث بدأت العامية المصرية في امتلاك زمام الأمور بعد الحرب العالمية الثانية، ربما بسبب خروج الاحتلال البريطاني من مصر، ورحيل آلاف الجنود الأجانب مع انضمام مصر للحرب العالمية، وربما بسبب تطور وسائل المواصلات والاتصالات، وشيوع الراديو والتلفزيون والسينما.

لكن اللغة بشكل عام وعاء يستوعب المزيد، فهجرة كلمة من لغة إلى لغة كانت بسيطة، وربما باتت أبسط وأيسر، ولكن أن تستخرج وتهتم بالألفاظ الدخيلة في نص معين، هو ما يفرّق صلاح عيسى أو أي دارس غير تقليدي للغة، عن غيره.

أمثلة من مصطلحات وردت في المذكرات

– «الأشية معدن»: تعبير عامي كناية عن شخص ميسور الحال.

– «تُمن الجمالية»: قسم شرطة الجمالية، وكان محمد علي بك الكبير قد قسم القاهرة إلى ثمانية أقسام، أنشأ في كل قسم منها مركزًا للشرطة، فأصبح «الثُمن» يطلق على قسم الشرطة، إلى أن اختفى المصطلح.

– «أبوكاتو»: تحريف للكلمة الفرنسية AVOCAT بمعنى محامٍ.

– «لاسة»: غطاء الرأس، وأصل الكلمة «لاذة» وهو ثياب حرير ينسج في الصين، وقد استخدمها نجيب محفوظ في ملحمة «الحرافيش» بالثاء فكانت «لاثة».

– «كار»: كلمة فارسية بمعنى حرفة أو صناعة، وقد تعربت.

– «بريمو»: كلمة أجنبية بمعنى من الدرجة الأولى.

– «الطورناطة»: الميزان المعروف بميزان القباني، وهو ميزان مخصص لوزن الأشياء الثقيلة.

– ا«لمنزول»: نوع من المخدرات الشعبية، يضم خليطًا من المنبهات والمخدرات، ويجمع بين الحشيش والأفيون وجوزة الطيب.

– «بُرمجي»: صفة تطلق على الصعاليك الذين لا يكفون عن التجول من دون هدف إلا اصطناع المشاكل مع الآخرين، وأصلها فصيح يقال «برم فلان» أي أخذ يذهب ويجيء، والمقطع «جي» في نهاية الكلمة مأخوذ من اللغة التركية التي تضيفه كاسم للصنعة.

– «عملت «أبو علي»»: تعبير عامي يستخدم للدلالة على الرجل اللطيف كثير الإنفاق السمح الكريم. ويقول أحمد أمين إن «أبو علي» هو الحسن بن علي (حفيد الرسول – صلى الله عليه وسلم) أو من السلطان حسن، سلطان بني هلال، وحسن دائمًا ما يُلقب بـ«أبو علي». 

مَن هو المعلم يوسف أبو حجاج؟

المعلم يوسف أبوحجاج هو «فتوة القرن العشرين». هكذا عرّف نفسه في رسالة قدمها لحسني يوسف محرر وصاحب جريدة «لسان الشعب»، ليستأذنه في أن يكتب تاريخ حياته المملوء بـ«الجدعنة» بحسب وصفه، ولكنه- للأسف- نسى القراءة والكتابة التي تعلمهما في الكتّاب، ليقترح عليه أن يملي تاريخه على أحد أقاربه، وهو يكتب، ومن ثم ينشر في الجريدة. ولكن صاحب الجريدة رأى أن يملي عليه الفتوة، الحكاية، وهو يكتبها بنفسه، حتى يضمن أن تخرج بصورة لائقة.

والأديب حسني أفندي يوسف، وبحسب كلام صلاح عيسى عنه في المقدمة، لم يكن من أصحاب التاريح الكبير في العمل الصحفي بمصر، حتى أن البحث عنه مرتبط بجريدة «لسان الشعب» التي هي الأخرى ليست في مصاف الصحف الشهيرة خلال النصف الأول من القرن العشرين.

ولكن عيسى يشير إلى أن تلك الصحيفة كانت اسمًا على مسمى، أو هكذا أراد لها صاحبها، فهي كانت تهتم بالشعب بشكل كبير، كما كان لها طابع محافظ أخلاقي، تهاجم الانفلات السلوكي في الشارع وفي المسارح، وتستخدم كثيرًا اللغة العامية والساخرة في مقالاتها وموضوعاتها، باعتبار أنها لغة أهل الشارع.

أما يوسف أبوحجاج، فهو اسم مستعار لفتوة القرن العشرين هذا، لأن أول حلقة من المذكرات والصادرة في 30 يونيو 1924 في الجريدة كانت بتوقيع «الفتوة» ثم في الحلقة الثانية كان التوقيع «ع . ح»، وهو ليس حسني يوسف الذي أملى عليه الفتوة المذكرات، ولا هو بيوسف أبوحجاج، الاسم الذي اختاره الفتوة ليكون اسمه المستعار.

يوسف أبوحجاج، كما يروي هو، مولود في حي الحسينية، وهو أحد أحياء الجمالية، لأب جزار له «دكان» في حي العباسية. ونتيجة لأنه كان صبيًا لعوبًا أرسله أبوه إلى كتّاب «الست السطوحية» مقابل «رغيف» من الخبز يوميًا. هذا الوضع استمر لثلاث سنوات ونصف السنة، حتى التحق بعد ذلك بـ«دكان» أبيه لفترة طويلة، وتعرف في صباه على رفاق سوء أدخلوه الحانات والبارات، حتى مات أبوه، وباع «الدكان»، وأنفق ما تحصل عليه على شرب الخمر وغيرها من أمور «الفنجرة»، كما ذكر. دخل الفتوة السجن في أكثر من مرة بسبب شجارات متعددة، وعايش فترة ثورة 1919، وهتف باسم قائدها «يحيا سعد زغلول باشا العترة»، وكان الفتوة الأهم في المنطقة، بل ذاع صيته إلى عدد من المحافظات المصرية، وشارك في شجار كبير في الأزبكية.

ما الأهم.. المذكرات أم التحقيق؟

الأجزاء الثلاثة من المذكرات التي وجدها صلاح عيسى على أرصفة بيع الكتب على مرحلتين أو بالأدق (نسختين: نسخة تحتوي على الجزء الأول، ونسخة تحتوي على الأجزاء الثلاثة)، لا تتعدى نحو 160 صفحة، ومحتوية في نسختيها على مقدمتين للمؤرخ والأديب واللغوي السوري خير الدين الزركلي صاحب كتاب «الأعلام»، وللكاتب حسين شفيق المصري، وهو صحفي وشاعر وكاتب ساخر، وله شعر يسمى بـ«الحلمنتيشي»، فضلا عن مقدمة صاحب الجريدة التي نشرت فيها المذكرات، وكذلك تعريف الناشر لها كونها «قصة مصرية فكاهية أدبية انتقادية ذات مواقف غريبة وحوادث مدهشة».

والمذكرات في الحقيقة لا تخرج عن كونها قصصًا فكاهية بسيطة مكتوبة باللغة العامية، مواقفها لم تكن غريبة ولا حوادثها مدهشة كما ذكر الناشر، وهي بنسبة كبيرة لا تضيف للتاريخ الاجتماعي شيئًا كبيرًا أو مؤثرًا أو مغيّرًا لمسارات التاريخ الرسمي. وأتصور أن الأهم في الكتاب هو التحقيق اللغوي المدهش لصلاح عيسى، ويضاهي مجهوده هنا بشكل كبير مجهود أعتى الباحثين والدارسين في علوم اللغة، لأنه استعان بكثير من الكتب والمراجع في البحث عن أصول الكلمات الغريبة التي أوردها المعلم يوسف أبوحجاج في مذكراته. إذ استعان بمعاجم عدة وللغات مختلفة، إضافة إلى كتب لغويين سابقين عليه، وموسوعات للأمثال الشعبية ودواوين شعرية وكتب للتاريخ الرسمي، فضلاً عن استعانته الدائمة بالصحافة والسينما والمونولوجات والأغنيات الشعبية.

كتاب «مذكرات فتوة» المحقق من صلاح عيسى وثيقة لغوية مهمة، قد تنفع الدارسين بعد عشرات السنين لفك شفرات ورموز اللغة التي كان يتحدث بها المصريون في الشارع خلال أوائل القرن الماضي، وهو أيضًا كتاب ملهم للأجيال المقبلة من الباحثين الذين قد يهمهم البحث عن مقاصد وأصول اللغة التي نتحدثها اليوم.