ثمة نبضة سعيدة تدق أبواب قلوبنا مع كل قطرة مطر لامعة يرسلها الله لنا، كحلقة وصل تربط بين شعور من في الأرض بجمال عظمة من في السماء، تتخلل بهدوء لثنايا أرواحنا فتحدث عنفوان مشاعر بين الاشتياق والحنين وتأثير الذكريات.

ولكن ماذا إن كانت تلك القطرات تتخطى كونها دمعات سعيدة من السماء لتتحكم في تشكيل سلوك كامل بحياة البشر؟ هذا تحديدًا ما يحدث لنا دون أن نشعر.

الاضطراب العاطفي الموسمي

هل شعرت من قبل بتغير صفاتك الشخصية وسلوكياتك في فصل الشتاء؟

المسؤول عن هذا الشعور هو الاضطرابات العاطفية الموسمية  «SAD» أو «الاكتئاب الموسمي»، الذي يربط بين التغيُّرات الموسمية لميول الإنسان وسلوكه وبين بداية تحول الطقس للبرودة وسقوط المطر.

أشهر علامات هذه الحالة الموسمية هو فقدان الاهتمام بالنشاطات اليومية، مثل الإفراط في النوم، مزاج عصبي متقلب، أو تغيرات بالشهية والوزن، ومن ثم بدايات الشعور باليأس والفراغ وفقدان الأمل والتي تصل في بعض الأحيان للاكتئاب.

في هذا الإطار، أشارت دراسة أجراها باحثون بجامعة كوبنهاجن الدنماركية إلى أن هناك علاقة واضحة بين الاضطرابات العاطفية الموسمية في فصل الشتاء، وتعرض الأشخاص لضوء النهار، لاعتباره مؤثرًا واضحًا على التوازن الكيميائي للجسم، ومضاد طبيعي للاكتئاب.

بالنسبة للبعض، قد يكون تأثير الاضطراب العاطفي خفيفًا بعض الشيء فلا يتدخل كثيرًا في أدائهم اليومي، لكن بالنسبة للآخرين يصيبهم بقلة الاتصال مع دوائرهم المحيطة، نتيجة للشعور بالسوء تجاه أنفسهم، وقد يتسبب في إعاقة خطرة تمنعهم من العمل بشكل طبيعي، وخاصة عند الأفراد الذين يمتلكون استعدادًا وراثيًا للتأثر الشديد بالاضطراب العاطفي الموسمي (SAD).

أيضًا مستويات مساعدة البشر ومرونتهم في تقبل الأمور تختلف تبعًا للمناخ، فكلما قلت درجة الحرارة عن 20 درجة مئوية كلما زاد شعورنا بعدم الارتياح، ومنها يختلف الأداء اليومي للشخص سواء في العمل أو تقبل الأمور.

حتى أن أساليب تقييمات القبول بالوظائف والجامعات العالمية تختلف حسب الفصول في بعض الأحيان، فمثلاً في الأيام الملبدة بالغيوم شتاءً يكون التقييم على أساس المؤهلات الأكاديمية للمتقدمين، وقدراتهم الذهنية على حل المشكلات، بينما في الأيام الصيفية يعتمد التقييم على الإبداع.

كيف يؤثر المطر على الإنتاجية بالعمل؟

شعور يراودنا جميعًا ويملأ أجسادنا بمجرد سقوط المطر، ماذا لو أجلت عمل اليوم إلى الغد؟ هل أذهب متأخرًا ساعتين أم أعتذر عن العمل اليوم؟ شعور يتملّكنا بالكسل مع كل قطرة مطر، تصيبنا حالة من الخمول ونقص طاقة تنتابنا بلا رحمة.

في الواقع، لم تكن حالتك بمفردك بل هي نتيجة واضحة لعلاقة نشاطنا اليومي بالتعرض للشمس، وتأثر بعض الهرمونات بفصل الشتاء؛ فينص المعهد الوطني للصحة العقلية بالولايات المتحدة الأمريكية على أن التغيرات في مستويات السيروتونين (ناقل عصبي يؤثر على الدماغ وأجهزة الجسم مسؤول عن تنظيم الحالة المزاجية) تؤثر على أدمغة البشر، فيساعد على بقاء العقل بالمستوى الطبيعي المتزن الذي يجعله هادئًا أكثر، سعيدًا، مستقرًا عاطفيًا.

وحين يقل ذلك الهرمون، تظهر على الأشخاص أعراض مختلفة، مثل: الخمول، وفقدان الاهتمام بالأنشطة التي تؤثر على الإنتاجية والعمل بشكل واضح.

والهرمون ذاته ينخفض بنحو 10٪ في فصل الشتاء مقارنة بالصيف، فضلًا عن انخفاضه بشكل ملحوظ لدى النساء، ما يجعلهن أكثر عُرضة للاكتئاب الموسمي بنسبة تتخطى الرجال ثلاث مرات لعدم تعرضهن للشمس لفترات طويلة بسبب فترات جلوسهن المنزلي الطويلة.

ولا يمكن أن نغض الطرف عن علاقة واضحة تربط بين ظهور الشمس الذي يزيد من هرمون السيروتونين في أجسامنا والنوم فيعتبر هو المسؤول عن تحفيز أجزاء الدماغ التي تتحكم في الاستيقاظ والنوم، مع بعض الوظائف الإدراكية مثل الذاكرة والتعلم، ومنها قد تظهر زيادة الأرق والاضطرابات الشخصية كلما غابت الشمس وقل الهرمون في الجسد.

الأكثر تأثرًا هم الأشخاص الذين يعملون من التاسعة صباحًا حتى الخامسة مساءً لأن أثناء الذهاب لم تكن الشمس قد ظهرت بوضوح بعد، وأثناء الخروج تكون بالفعل اختفت، فيفقدون كل خيرات السيروتونين (SSRI) التي تزداد بالتعرض للشمس، ما يجعلهم أقل نشاطًا وأكثر تقلبًا بالمزاج.

لذا يعتبر شهر يناير هو الأقل إنتاجية بالعام، على مستوى العالم من كل سنة، فيؤثر على جميع النشاطات، أهمها العمل، وتزداد معها نسبة الخطأ نظرًا لعدم كفاءة تركيز الأشخاص، فيُعد الشهر الأبرد بالعام حيث تكون الشمس في أدنى نقطة لها حتى وقت الظهيرة تكون الأضعف بين الشهور، وتستمر من 4 : 6 أسابيع من بداية يناير لمنتصف فبراير.

ومع الإقبال على الرغبة الشديدة في تناول الكربوهيدرات، التي تعطينا الشعور بالشبع مثل المخبوزات، المكسرات، البقوليات، الدجاج، واللحوم، ينتج حمض التريبتوفان الأميني، الذي يزيد من الشعور بالتعب وقلة التركيز.

وفيما يخص ذاكرة البشر، اتضحت صلة هامة بين ضعف الذاكرة وقصر النهار بفصل الشتاء، لغياب الشمس سريعًا، فيكون الأشخاص أكثر عرضة للنسيان نظرًا لعدم تعرضهم للفيتامينات الشمسية خلال فصول الشتاء الطويلة.

الشتاء الغني يعزز الإبداع

أما الشتاء والإبداع فهما وجهان لحدث فريد واحد، تخيل أن الأجواء الممطرة يصل تحكمها لدرجة براءات الاختراع وجوائز نوبل، ذلك بناءً على بعض الدراسات بالولايات المتحدة، من خلال ملاحظة عالم النفس الهولندي إيفرت فان دي فليرت أن العدد الأكبر للحاصلين على جوائز نوبل تكون من دول صقيع مثل روسيا، الولايات المتحدة، وبريطانيا، السويد، ودول أوروبا الغربية، وأستراليا ونيوزيلندا.

استخدم دي فليرت عددًا من المؤشرات، بينها أعداد براءات الاختراع كيف تختلف بين دولة وأخرى بحسب الطقس، بالطبع مع توافر مجتمع يعزز البحث، فتلك النقطة تحديدًا أشار لها موضحًا أن البرودة تعزز الإبداع لدى السكان الأكثر ثراءً، لكنها تعيق الفئات السكانية الفقيرة، كذلك تتحكم باختلافات معدل الذكاء.

وفي قصة اسثنائية من نوعها تحدث مرة بالعمر كانت شمس غائبة مدة عام كامل في إبريل عام 1815 بعد نشاط بركاني هائل في إندونيسيا، ساد بعده الظلام القاتم لمدة يومين في دائرة قطرها 55 كلم من الغبار البركاني، ومباشرة تلاها غازات سامة حجبت أشعة الشمس عن النصف الشمالي من الكرة الأرضية، لمدة عام كامل من درجات الحرارة المنخفضة، فشهد العالم برودة لم تمر عليه منذ القرون الوسطى.

من المفارقات العجيبة لهذا الحدث المهيب كانت بدايات الفن والعزف والخيال، فعلى سبيل المثال نشأت لأول مرة بالعالم روايات الرعب، وجاءت قصتها الأولى بعد جلسة ليلية بين الأصدقاء، أثناء عاصفة شديدة البرودة منعتهم من الذهاب، فاقترحوا على كل شخص أن يحكي أكثر الأحداث رعبًا بحياته، ومنها خرجت لنا رواية فرانكنشتاين الأولى من نوعها بعالم الروايات الخيالية المُرعبة.

كما ظهرت أشهر معزوفات بيتهوفن في العام ذاته، وكانت أول الأغنيات الرومانسية المميزة بالموسيقى الغربية، An die ferne Geliebte، وكتب جوته قصيدته الأشهر عن «برومثيوس» التي تمت ترجمتها للغات عدة.

الرومانسية يبدؤها الشتاء

قد تتلخص شاعرية الشتاء في مشهد رومانسي حول نافذة زجاجية يزيد من بريقها المطر مع رائحة القهوة الساخنة، وهي الحالة التي تشتعل معها الذكريات، ويبدأ خلالها تمني أمسيات ليلية هادئة تذيب البرد بدفء حب القلوب المنتظر، فيسمى بـ«موسم التكبيل أو الأصفاد» وهو مصطلح يشرح حالة إقبال العازبين على الحب والشعور بتلك الحالة المثالية للرومانسية الخالدة.

كما أن لرائحة المطر عطرًا يقلل التوتر ويزيد من تلك الحالة الرومانسية، فيعيد لأذهاننا ذكريات سعيدة، وغيرها مؤلمة، تنتبه خلالها الحواس جميعها، بمجرد استنشاق «عطر الأرض» الناتج عن المطر، وهو مزيج بين عدد من المركبات والتفاعلات الكيميائية العطرة والزيوت التي تصنعها النباتات والتربة مع البكتيريا فتعمل على خلق حالة من الاسترخاء الهادئ للإنسان.

أما الجاذبية كان لها النصيب الأكبر من تأثيرات الشتاء، فتوضح الأبحاث أن الرجال ينجذبون للنساء ويشعرون بإعجاب أكبر لأجسادهن خلال الأيام الباردة في فصل الشتاء.

علاقة الجريمة بالمطر

حتى الجرائم نالها التأثير، فاختلفت هي الأخرى بحسب الأجواء الممطرة، في البداية قد تظن أن الأمر لا علاقة له بالأجواء فقط يحتاج لتوافر هدف وغياب رقابي، إلا أن الأمر ينشط أو يقل بحسب درجات الحرارة.

فمثلاً انخفضت الجرائم الكبرى في بوسطن بولاية أوهايو بوقف شبه كامل في جرائم الممتلكات. ومنها احتفلت نيويورك بـ 12 يومًا متواصلة دون ارتكاب جريمة قتل واحدة، كما تراجعت الدعوات لعمليات السرقة سواء للمنازل أو المتاجر مع الاعتداءات.

«إذا لم يخرج الناس، فلن يكونوا ضحايا محتملين للمجرمين للاختيار من بينهم»

كانت كلمات بريان تشيك، نائب الرئيس في جرينسبورو بولاية نورث كارولينا، لأن السارق هو الآخر شخص يشعر بالكسل والخمول في الشتاء!

لتتضح بذلك علاقة تاريخية قوية بين درجة الحرارة والجريمة، أشار لها ماثيو رانسون، الخبير الاقتصادي في شركة أبت أسوشيتس الاستشارية في كامبريدج بعدما وجد علاقة تاريخية قوية بين درجة الحرارة والجريمة، خلال دراسة استمرت 30 عامًا، أظهرت أن معدلات الجريمة تنخفض كلما كانت الحرارة أقل من 50 درجة.