محتوى مترجم
المصدر
The conversation
التاريخ
2019/04/15
الكاتب
Jordi Cornellà-Detrell

ثمانون عامًا خلت منذ وضعت الحرب الأهلية الإسبانية أوزارها، حين سحق الجنرال «فرانثيسكو فرانكو» المقاومة اليسارية وحكم البلاد بديكتاتورية لا تلين. وحتى بعد عقود من موته، لم يزل فرانكو يلقي بظل ضخم على إسبانيا، يمكن رؤيته في مشاهد كثر، من صعود حزب فوكس اليميني المتطرف، وحتى الاكتشافات المستمرة إلى يومنا هذا للمقابر الجماعية من عهد الحرب.

من بين أكثر تركات فرانكو حضورًا حتى الآن أثره الحي في الكتب، سواء في إسبانيا أو سائر دول العالم الناطقة بالإسبانية؛ فإلى اليوم يُعاد طبع العديد من كلاسيكيات الأدب العالمي والإسباني، باستخدام نسخ منقحة اعتمدها رقباء فرانكو، دون أن يدرك الناشرون ذلك، ناهيك عن القراء. فعلى مدار سنوات، أثّر ذلك سلبًا على حرية التعبير، وهذا أمر مطلوب علاجه على نحو عاجل وملح.


فرانكو يراقب إسبانيا… حتى بعد موته

بين عامي 1963 و1966، سُلم كل كتاب نُشر في إسبانيا إلى هيئة رقابة وطنية لفحصه، وكان على الرقباء أن يقرروا ما إذا كان يجب حظر النص كليةً أو السماح بنشره شريطة إدخال أي تعديلات ضرورية عليه.

وحتى بعد عام 1966، حين صدر قانون يسمح بحرية التعبير، كان يحق للناشرين التطوع بتسليم أي نص للرقابة، واحتفظت السلطات بحق منع تداول أي كتاب تراه غير مناسب.

وضعت قوانين الرقابة في عهد فرانكو نصب أعينها فرض العقيدة الكاثوليكية والتوحيد الثقافي والفكري. فرض الرقباء قيمًا محافظة، وكمّموا كل معارضة وتلاعبوا بحقائق التاريخ، لا سيما تلك المتعلقة بفترة الحرب الأهلية، وتم حظر المواد الجنسية الصريحة، والرؤى السياسية البديلة لرؤية السلطة، وأي كتابة مخالفة أو نقد للكنيسة الكاثوليكية.

تخلت إسبانيا عن هذه السياسات بعد موت فرانكو عام 1975، لكن معظم النصوص المنقحة لم تزل متداولة على نطاق واسع حتى اليوم. وعلى سبيل المثال، هناك 20 طبعة مختلفة باللغة الإسبانية لرواية إيرا ليفين «طفل روزماري»، منها طبعة إلكترونية، وكلها محذوف منها خيطان ممتدان بطول الرواية، رأى الرقباء الإسبان أنهما يُمجّدان الشيطان.

النسخة الإسبانية الوحيدة لرواية جيمس بالدوين «اذهب وقلها فوق الجبل» خضعت لحذف أجزاء عن تنظيم النسل وتفاصيل الحياة الجنسية لأبطالها الرئيسيين، وقد نُشرت هذه الطبعة المنقحة برعاية اليونيسكو.

واجهت الأعمال الأدبية لبعض أعظم الكتاب الإسبان شهرة في القرن العشرين مصيرًا مشابهًا، بما فيها أعمال كتاب مثل آنا ماريا ماتوته، وكاميلو خوسيه ثيلا، وخوان مارسيه، وإيجناثيو ألديكوا. وفي بعض الحالات، مثل رواية جورج أورويل «أيام بورما»، ورواية إيان فليمنج «كرة الرعد»، أُعيدت ترجمة النسخ المنقحة كما هي.

لم يعد الكثيرون واعين بحجم المشكلة، خاصة وأن كل من هم دون سن الأربعين لم يكونوا موجودين في زمن فرانكو. تُشجع المكتبات العامة الناس على قراءة آلاف المجلدات دون أن يدركوا أنها خضعت للرقابة.

هاجرت الكثير من النصوص المنقحة تلك إلى أمريكا اللاتينية، وفي بعض الأحيان أعيدت طباعتها في بلدان مختلفة اعتمادًا عن نفس النسخ التي خضعت للرقابة والحذف، مما يعني أن قطاعًا لا بأس به من سكان العالم محرومون من قراءة النسخ السليمة من الأعمال التي يقرؤونها مشوهة.


لماذا لا تموت الرقابة؟

لقد صار معروفًا أن الإسبان وجدوا في مواجهة تاريخهم الحديث أمرًا ثقيل الوطأة. واخترعت النخبة السياسية الإسبانية «ميثاق النسيان» ليكون اتفاقًا ضمنيًا على تفادي النبش في الماضي، كضرورة لجعل التحول الديمقراطي ممكنًا في سنوات أواخر السبعينيات والثمانينيات. ولسنوات، أنتج ذلك -من بين آثاره- فقدان ذاكرة عامًا حول سياسات فرانكو الثقافية، وحتى عندما أعُيدت ترجمة بعض الكتب لإعادة الأجزاء المحذوفة إليها، لم يذكر الكثيرون شيئًا عن الأمر.

كان صدور قانون استعادة الذاكرة التاريخية عام 2007 خطوة هائلة للابتعاد عن سنوات النسيان تلك. أدان القانون الديكتاتورية، ورتّب تعويضات لضحايا العنف السياسي في عهد فرانكو، وقضى بإزالة التماثيل والرموز الثقافية التي تُمجّد سلطته، لكن أعمالًا ثقافية أخرى، مثل الكتب، أُهملت في خضم إحياء الذاكرة.

كانت النتيجة أن مشكلة الرقابة الأدبية لم تزل حية تُرزق في إسبانيا، بل يمكن القول إنها تسوء أكثر فأكثر؛ ذلك أنه من السهل نشر نسخ إلكترونية للكلاسيكيات المنقحة، مما يعني أن مقص رقابة فرانكو يصل إلى الحواسب اللوحية ذاتها. إننا نتحدث هنا عن إحدى أكثر تركات فرانكو الخفية حضورًا.

يصعب حصر آثار فرانكو على الثقافة في إسبانيا والدول الناطقة بالإسبانية، فلا شك أن الرقابة شوهت تصورات الكثيرين عن الحرب الأهلية وتداعياتها، وسيظل الكثير من القراء في غفلة عن مقاصد الكتّاب الحقيقية بشأن قضايا اجتماعية مهمة، مثل أدوار الجنسين وتنظيم النسل والمثلية الجنسية.

السؤال الآن يدور حول كيفية التعاطي مع هذه المشكلة المعقدة، لا سيما مع صعود حزب فوكس، الذي من المتوقع أن يبلي حسنًا في الانتخابات المقبلة، والذي تعهد بإلغاء قانون استعادة الذاكرة التاريخية، بحجة أنه يتلاعب بالماضي.

إن المهمة الأكثر إلحاحًا هي زيادة الوعي لدى جمهور القراء، وهذا يتطلب دعمًا صريحًا من الحكومة الإسبانية، ومشاركة جدية من القطاع الثقافي، بما يشمله من مكتبات ودور نشر ومترجمين وأرشيفات ومنشورات ثقافية، وحتى الكتّاب أنفسهم. والتكنولوجيا التي يمكن أن تُبقي المشكلة حية يُمكن أيضًا أن تساعد في حلها، حيث يمكن تأسيس قاعدة بيانات عامة للنصوص المستعادة بحالتها الأصلية.

النقطة هنا هي أنه بينما تعالج إسبانيا آثار نظام فرانكو في الذاكرة الاجتماعية والتاريخية منذ مطلع القرن الحالي، فإن عملية التصالح مع الماضي لم تزل بعيدة عن طور الاكتمال.

لم يشوه ميثاق النسيان العملية الديمقراطية في إسبانيا فحسب، وإنما أخضع التراث الثقافي لتدمير بليغ أيضًا. ولن تتحرر إسبانيا والعالم الناطق بالإسبانية من رقابة فرانكو ما لم تُعالج هذه القضية جهارًا وبحسم. ومع صعود أناس يُفضلون إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، ليس لدينا الكثير من الوقت لنهدره.