حازت الحركات الإسلامية باهتمام عالمي على مختلف الأصعدة، ومن بينها الصعيد الأكاديمي، حيث غدت موضوعًا محبّذًا لكثير من الباحثين، ليس العرب والمسلمون منهم فحسب، بل والغربيون أيضًا.

مع ذلك، يبقى «فرنسوا بورجا» اسمًا مميزًا في هذا الحقل، ليس فقط لأنه واحد ممن أخلصوا حياتهم لدراسة تلك الظاهرة بحيث قضى في الشرق الأوسط من أعوام حياته ما يعادل ما قضاه في وطنه الأصلي فرنسا، ولكن أيضًا لأن تلك الحياة أثمرت لديه وجهة نظر تسير ضد التيار السائد في دراسة ظاهرة الإسلام السياسي وفهمها.


من فرنسوا بورجا؟

ولد فرانسوا بورجا عام 1943 في مدينة تشامبيري في منطقة رون ألب في شرق فرنسا. التحق بجامعة غرينوبل الفرنسية ليدرس القانون، ونال منها شهادتي البكالوريوس والماجستير. أثناء دراساته، سافر بورجا إلى العديد من البلدان، من بينها فلسطين التي زارها عام 1964 للحج المسيحي إلى القدس.

جاء إلى المنطقة العربية بالصدفة، ولكنه بقي في أكنافها 23 عامًا، تنقل خلالها عبر عديد من بلدانها كالجزائر ومصر واليمن وسوريا والسعودية، حيث جاء إلى الجزائر لأداء الخدمة الوطنية، بسبب رفضه الخدمة العسكرية، حيث تم تعيينه لتدريس القانون في كلية الحقوق بمدينة قسنطينة التي أقام فيها سبع سنوات بدأ فيها اهتمامه بالعالم العربي يتنامى.

كانت إقامة بورجا الطويلة في الجزائر فرصة له في الخروج من حدود ثقافته الفرنسية والدخول إلى عالم جديد وثقافة جديدة أدهشته وشدت فضوله. عام 1989، انتقل بورجا إلى مصر حيث عمل في المركز للوثائق الاقتصادية والقانونية في القاهرة حتى عام 1993. في عام 1997، انتقل بورجا إلى اليمن للعمل مديرًا للمعهد الفرنسي للعلوم الاجتماعية والآثار في صنعاء حتى عام 2003.

بين عامي 2008-2013، عمل بورجا مديرًا للمعهد الفرنسي لدراسات الشرق الأدنى، وكان مسئولًا عن فروع المعهد في الأردن، سوريا، لبنان، العراق وفلسطين. ويتمتع بورجا في الوقت الحالي بعضوية المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، كما ترأس بورجا في السنوات الأخيرة برنامج البحث الجماعي «حين يفشل الاستبداد في العالم العربي».

يتبنى بورجا وجهة نظر مختلفة عن الاتجاهات السائدة في الأكاديميا الغربية في تحليله لمشكلات العالم العربي، حيث تعزوها كثير من الاتجاهات السائدة إلى جذور ثقافية ودينية، بينما يحمِّل بورجا الاستعمار الغربي وتأثيراته التاريخية في العالم العربي والإسلامي، إلى حد بعيد، المسئولية عن التدهور الحاصل في أوضاع المنطقة في الوقت الراهن.


لماذا الإسلام السياسي متنوّع؟

يعتقد بورجا أن خطاب الإسلام السياسي ليس كالقواعد اللغوية الثابتة، وإنّما هو كالمعجم الذي يمكن أن يمتلئ مع مرور الوقت بالمصطلحات المتجددة، على وجه يمكن أن يحمل معه ذلك التيار كلّ القيم السائدة عالميًا وتأثيرات التيارات السياسية الدولية، ولذلك فقد يكون صاحب ذلك الخطاب ديموقراطيًا كراشد الغنوشي أو أصوليًا كأبي بكر البغدادي.

يطرح بورجا تساؤلًا: هل نحن إزاء إضفاءٍ للصّبغة الراديكالية على الإسلام، أم أننا أمام مجرد أسلمةٍ للراديكالية؟ في هذا السياق ينتقد بورجا الباحث الفرنسي جيل كيبيل الذي يفسر الالتزام الجهادي كظاهرة مغلقة دون تفاعل مع الديناميات الاجتماعية والسياسية الجارية في مجتمعاتها التي ينحدر منها أصحاب ذلك الالتزام.

في المقابل أيضًا، يرى بورجا بنية خطاب الإسلام السياسي نتاجًا لرد فعل ما بعد كولنيالية (رد فعل نشأ ضد الاستعمار بعد رحيله)، أراد من خلالها قطاع واسع من العرب والمسلمين المعاصرين تبني معجم سياسي أصيل وموروث، في مقابل الامتدادات المعاصرة للخطاب السياسي القادم من الغرب الاستعماري، المتمثلة في اتجاهات الطيف السياسي العلماني بمختلف تمثيلاته[1].

لا يعتقد بورجا أن برنامج الإسلام السياسي مبهم أو مشوش بهذا القدر الذي يجعله غير مفهوم بالشكل الكافي في الغرب، فخلف العبارات الدينية تكمن غالبًا المطالبة بحقوق عامة تمامًا، في الاقتصاد أو في السياسة، على الصعيد المحلي أو العالمي، وينظر بورجا إلى تطور ذلك التيار ككل كحالة سياسية من حالات التركيز على الهوية، وتعبير عن الرغبة في «إعادة الاعتبار» بعد سياقات متتالية من السيطرة الاستعمارية.

من وجهة نظر بورجا، أدى حصر تأثيرات الشريعة في نطاق قانون الأحوال الشخصية في الكثير من البلدان العربية و الإسلامية وتكريس العلمنة، إلى نوع من الانفصال بين الثقافة المحلية التاريخية والشأن العام، ولذلك اعتبرت العلمانية من قبل كثير من المتدينين بنهاية المطاف شكلًا من أشكال الاغتصاب الرمزي[2].

يقرأ بورجا ظاهرة العمليات «الانتحارية» القراءة ذاتها التي يتبناها البروفسور الأمريكي روبرت بيب، حيث الاحتلال وليس «الأصولية» سبب العمليات الانتحارية، في فلسطين وغيرها، حيث يؤكد بيب أن الدوافع الدينية الظاهرة ليست ذات صلة وثيقة بالهجمات الانتحارية بالقدر الذي يظنه كثير من الناس، حيث إن أشهر من تبنى ذلك النمط هم «نمور التاميل» الانفصاليون في سريلانكا، وهم ماركسيون وعلمانيون تمامًا[3].

كما يرد بورجا على من يقولون إن الأيديولوجيا «الجهادية» تنتشر وتتعولم بفضل الإنترنت، بأن ذلك يحدث بالأحرى لأن العنف الغربي كان يزداد في ذات الوقت، على الوتيرة نفسها، بشكل موضوعي، من فلسطين إلى العراق، ومن الشيشان إلى أفغانستان.


هل الإسلام السياسي وليد انتكاسة إلى الماضي؟

في كتابه «الإسلام السياسي: صوت الجنوب»، يقول بورجا إن دول شمال البحر المتوسط التي لطالما كانت منتِجًا للأيديولوجيات ومصدرًا لها، أصبح عليها اليوم أن تضع في عين الاعتبار منافسًا قادمًا من الجنوب، يزاحمها في مناطق نفوذها ويزحزح مواضع يقينها[4].

منافس إذا حدثته بالفرنسية ردّ عليك بالعربية، وعندما يسمع كلمة «العلمانية» يعطيها معنى «المادية»، وإذا حدثته عن «الدولة» يفضل هو الحديث عن «الأمة»، وإذا حدثته عن «الديمقراطية» يحدثك هو عن «الشورى»؛ منافس يمتلك تاريخه الخاص، ومعجمه المتفرد، ونظرته المستقلة عن العالم والوجود[5].

بحسب بورجا، يواصل الإسلام السياسي، ذلك الصوت الجديد الآتي من الجنوب، شقّ طريقه في مناخ عام دولي يتسم بأوجه عدم اليقين والأزمات الاقتصادية والإحباطات السياسية والأزمات الثقافية، وصارت اليوم لغته النضالية نوعًا من التهديد للحكام المواليين للغرب الذين قاموا بعملية التحديث في بلدان «الجنوب»[6].

يعتقد بورجا أن موجة القضاء على الاستعمار الغربي لم تنتهِ حتى الآن من إفراز جميع عواقبها، وإن كان بعض المحللين يميل إلى التسرع في الحكم فيعتقد أن عملية القضاء على الاستعمار قد انتهت برمتها وصارت جزءًا من الماضي. في هذا الإطار، يحلل بورجا فحوى ظاهرة الإسلام السياسي، كجزء من السيرورة الجدلية بين الاستعمار ومحاولات القضاء عليه التي يبدو أنها أخذت عدة مراحل، إحداها كانت مرحلة التخلص من الوجود العسكري للمستعمر، لحقتها مرحلة أخرى تمثلت في تجاوز تأثيراته الثقافية[7].

هذا التحليل هو الأفضل بحسب بورجا لفهم صعود الإسلام السياسي، وليس حصر التحليل في التناقضات المرتبطة بالتنمية الاجتماعية والاقتصادية، أو حتى في إطار افتراض أنه عودة عالمية لأهمية عنصر الدين في المجال السياسي[8].

يحلل بورجا في كتاباته التيارات الإسلامية كمجموعات إنسانية في المقام الأول، لا ينحصر فهمها من الخارج من خلال دراسة عقيدتهم وحسب، ولكن من خلال فهم واقعهم الاجتماعي وظروفهم المحلية كحركة ديناميكية قابلة للتطور باستمرار، دون جمود على تصورات منحصرة قائمة على بنية الخطاب الإسلامي في فترة ما[9].

كما لم يكتفِ بورجا في تأليف أبحاثه ودراساته على القراءات النظرية كأقرانه من الباحثين الغربيين في مجال الحركات الإسلامية كجيل كيبيل، بل نزل إلى أرض الواقع واستمع طويلًا إلى الأطراف الفاعلة من الإسلاميين في العالم العربي.

لبورجا 4 كتب أساسية عن تيار الإسلام السياسي، بدأها بكتابه «الإسلامي السياسي: صوت الجنوب» عن الحركة الإسلامية في بلدان المغرب العربي، وكتابه « وجهًا لوجه مع الإسلام السياسي» (2002)، وكتاب «الإسلام السياسي في زمن القاعدة» (2005)، وأخيرًا كتاب «فهم الإسلام السياسي» الذي تمت ترجمته إلي العربية، ونشرته دار الساقي في لبنان عام 2017.

المراجع
  1. فرانسوا بورجا، الإسلام السياسي في زمن القاعدة، ترجمة سحر سعيد، الطبعة الأولى، قدمس للنشر والتوزيع، سوريا، 2006، ص 22
  2. المرجع نفسه ص 24
  3. المرجع نفسه ص 131
  4. فرانسوا بورجا، الإسلام السياسي صوت الجنوب، ترجمة لورين زكري، دار العالم الثالث، القاهرة، الطبعة الثانية 2001، ص 17
  5. المرجع نفسه
  6. المرجع نفسه
  7. المرجع نفسه
  8. المرجع نفسه
  9. المرجع نفسه