في العام 2011، وضع رجب طيب أردوغان، رئيس الوزراء التركي آنذاك، أهدافًا اقتصادية طموحة لعام 2023، وهي الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية، بهدف جعل تركيا واحدة من أكبر عشرة اقتصادات في العالم بإجمالي ناتج محلي يبلغ 2 تريليون دولار. والآن ونحن على أعتاب العام 2022، لا تزال تركيا بعيدة كل البُعد عن تحقيق هذا الهدف.

يقع الاقتصاد التركي في العديد من الأزمات، يأتي في مقدمتها أزمة العملة المحلية التي تشهد أزمة كارثية -خارج نطاق السيطرة- بسبب وصول الليرة إلى أدنى مستوياتها القياسية مقابل الدولار، وفقدان ما يقرب من 60% من قيمتها منذ بداية العام 2021- وهي إلى حد بعيد الأسوأ أداءً بين أقرانها منذ ثلاث سنوات متتالية- ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى تضرر المصداقية النقدية وسط مخاوف بشأن دوامة التضخم التي أحدثتها خطة الرئيس رجب طيب أردوغان غير التقليدية لخفض أسعار الفائدة في مواجهة ارتفاع الأسعار.

لماذا تنهار الليرة التركية؟

سعر الليرة مقابل الدولار الأمريكي خلال العام 2021
السقوط الحر لليرة التركية

تواصل الليرة التركية تراجعاتها -المستمرة منذ بداية العام 2021- إلى مستوى قياسي منخفض مقابل الدولار – اليوم الإثنين- بفعل مخاوف بشأن السياسة الاقتصادية لانخفاض أسعار الفائدة التي ينتهجها الرئيس رجب طيب أردوغان وارتفاع التضخم.

سجلت العملة التركية تراجعًا بنحو 9% لتصل لأدنى مستوى قياسي لها عند 17.869 مقابل العملة الأمريكية -خلال تعاملات اليوم الإثنين وهو أدنى مستوى لها على الإطلاق وسط مخاوف من قيام البنك المركزي بإجراء مزيد من الخفض في أسعار الفائدة في وقت لاحق من هذا الأسبوع- منخفضة من إغلاقها عند 16.4790 يوم الجمعة الماضي، وذلك من حوالي 7 ليرة للدولار في وقت سابق من هذا العام.

وتراجعت الليرة بنسبة 8% يوم الجمعة الماضي، مما أدى إلى تدخل البنك المركزي المباشر في السوق لدعم العملة التركية المتعثرة -من خلال بيع أكثر من 6 مليارات دولار من احتياطي العملة الأجنبية المستنفد بالفعل- وهي المحاولة الخامسة خلال ديسمبر الجاري لمعالجة ما وصفه بالأسعار «غير الصحية».

كان الانزلاق مدفوعًا بإصرار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان -منذ الصيف الماضي- على أن أسعار الفائدة يجب أن تنخفض، متخذًا وجهة نظر غير تقليدية مفادها أن المعدلات المرتفعة تؤدي إلى التضخم المرتفع. وتسير سياسة البنك المركزي بموجب برنامج أردوغان الاقتصادي غير التقليدي مع خفض سعر الفائدة الرئيسي بمقدار 400 نقطة أساس خلال سبتمبر، ثم خفض الأسعار بنحو 100 نقطة أساس أخرى خلال ديسمبر الجاري، وهو ما أدى إلى دفع سعر الفائدة الحقيقي لتركيا إلى عمق المنطقة السلبية، مما يجعل العملة أقل جاذبية للمستثمرين والمُدخرين على حد سواء.

ما هو نهج أردوغان الاقتصادي؟

إما أن نتخلى عن الاستثمارات والإنتاج والنمو والتوظيف من خلال الحفاظ على التفاهم السائد في بلدنا لسنوات، أو أننا سنخوض صراعًا تاريخيًا يتماشى مع أولوياتنا.
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان

على الرغم من الانتقادات واسعة النطاق والتداعيات السريعة للاقتصاد بما في ذلك التدهور المتسارع للدخل والمدخرات التركية، يستمر أردوغان في تنفيذ نموذجه الاقتصادي الجديد الذي يعتمد على انخفاض تكاليف الاقتراض وتخفيض قيمة العملة، مُشيرًا إلى أن هذا النموذج الجديد يُعتبر بمثابة «حرب الاستقلال الاقتصادي».

كان الرئيس يضغط من أجل خفض تكاليف الاقتراض لتحفيز الاقتصاد وتعزيز النمو والصادرات وخلق فرص العمل، متعهدًا بكسر دورة اقتصاد يعتمد على «الأموال الساخنة» قصيرة الأجل التي تغريها أسعار الفائدة المرتفعة. وأصر أردوغان على أن «نموذجه الاقتصادي الجديد» سيؤتي ثماره في نهاية المطاف، وقال للجمهور في وقت سابق من ديسمبر الجاري: «نحن نعلم ما نقوم به. نحن نعرف كيف نفعل ذلك. نحن نعلم إلى أين نحن ذاهبون. نحن نعلم ما سنحققه». لقد شجع الأتراك مرارًا وتكرارًا على إخراج ما لديهم من أموالهم مكتنزة ووضعها في البنوك.

وبدأ أردوغان في صياغة تفاصيل سياسة تخفيض تكاليف الاقتراض وتخفيض قيمة العملة منذ سبتمبر 2021، عندما بدأ البنك المركزي في خفض أسعار الفائدة في مواجهة ارتفاع أسعار المستهلكين، وهو ما ترك الليرة بدون قيود، مع انخفاض العملة إلى أدنى مستويات قياسية جديدة كل يوم تقريبًا.

يدافع أردوغان عن سياسته الاقتصادية قائلاً «إن التقلب في أسعار الصرف يجب أن يُنظر إليه على أنه هجوم على اقتصاد البلاد»، مؤكدًا أن التضخم، الذي وصل إلى 21.3%، سيعود إلى خانة الآحاد. وتحدث أردوغان في عطلة نهاية الأسبوع عن كيفية خفض التضخم إلى التضخم السنوي إلى نسبة 4% التي حققها في عام 2011، عندما كان أردوغان رئيسًا للوزراء.

ومع تصاعد الأزمة، لم يتراجع أردوغان بل ضاعف من نهجه، مؤكدًا أنه لن «يتنازل أبدًا» عن معارضته لارتفاع أسعار الفائدة. ويجادل أردوغان بأنه من خلال الإبقاء على أسعار الفائدة منخفضة، سيكون المستهلكون أكثر حرصًا على مواصلة التسوق وأن الشركات ستكون أكثر ميلًا للاقتراض واستثمار الأموال في الاقتصاد وتوظيف العمال. ويرى أنه إذا فقدت الليرة قيمتها مقابل الدولار، فإن صادرات تركيا ستصبح أرخص وسيرغب المستهلكون الأجانب في شراء المزيد. اقتصاديًا، يعد هذا صحيحًا إلى حد ما، لكنه يأتي بثمنٍ باهظ. تعتمد تركيا اعتمادًا كبيرًا على الواردات مثل قطع غيار السيارات والأدوية، وكذلك الوقود والأسمدة والمواد الخام الأخرى. عندما تنخفض قيمة الليرة، تزداد تكلفة شراء هذه المنتجات.

ماذا تقول السياسات الاقتصادية التقليدية؟

توصي النظرية الأرثوذكسية في الفكر الاقتصادي بسياسة نقدية صارمة من شأنها أن تخفف التضخم عن طريق تعديل الطلب المحلي، وذلك من خلال زيادة سعر الفائدة لجذب مزيد من الادخارات وتقليص الأكواد في أيدي المستهلكين ومن ثم السيطرة على الأسعار. في تركيا، على النقيض من ذلك، ينتهج البنك المركزي سياسة نقدية وائتمانية فضفاضة لتعزيز النمو الاقتصادي، وذلك لأن أردوغان قلق من أن أسعار الفائدة المرتفعة ستؤدي إلى تباطؤ الاقتصاد وتغذية استياء الناخبين في الفترة التي تسبق الانتخابات في عام 2023. ولذلك فقد دفع المركزي التركي لخفض أسعار الفائدة على أمل أن يحفز الائتمان الأرخص الاقتصاد ويحسن شعبيته.

فبالنسبة لما هو مُتعارف عليه، إذا ارتفع التضخم، يمكنك التحكم فيه عن طريق رفع أسعار الفائدة. لكن أردوغان يرى أسعار الفائدة على أنها «شر يجعل الأثرياء أكثر ثراءً والفقراء أكثر فقرًا». من وجهة نظر أردوغان، يمكن لتركيا أن تحرر نفسها من الاعتماد على تدفقات رأس المال الأجنبي من خلال التخلي عن السياسات التي تعطي الأولوية لمعدلات فائدة أعلى وتدفقات قوية. يعتقد الرئيس أن أسعار الفائدة المنخفضة ستحد أيضًا من نمو أسعار المستهلك، وهو العكس تمامًا لوجهة النظر المتفق عليها بين المصرفيين المركزيين في العالم، الذين يرون أن نهج الرئيس متهور ويتوقعون معدل أعلى من 30% للتضخم العام المقبل بسبب تضخم أسعار الواردات وزيادة طارئة في الحد الأدنى للأجور.

وتثير تلك السياسة النقدية غير التقليدية لتركيا مخاوف المستثمرين الأجانب، الذين يتخلصون من الأصول التركية. كذلك يسارع المواطنون الأتراك إلى تحويل مدخراتهم إلى العملات الأجنبية والذهب لحمايتهم من ارتفاع التضخم. نتيجة لذلك، تراجعت الليرة التركية، التي تعافت بالكاد من أزمة العملة في 2018، إلى مستويات منخفضة قياسية مقابل الدولار واليورو. وتظل هناك مستويات قياسية منخفضة جديدة يمكن أن تصل إليها الليرة التركية في ظل إصرار أردوغان على أنه لن يكون هناك تراجع عن سياساته غير التقليدية، ووسط علامات على أن بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي سيشدد الائتمان للمستهلكين والشركات مع ارتفاع التضخم.

كيف يعيش الأتراك؟

أدى انهيار العملة إلى ارتفاع أسعار المستهلكين بين عشية وضحاها تقريبًا، مما أدى إلى تفشي التضخم لدرجة أن موظفي السوبر ماركت بالكاد كانوا قادرين على مواكبة تغير العلامات السعرية. وتؤدي الليرة التي تم تخفيض قيمتها إلى مزيد من ارتفاع الأسعار، مما يجعل الواردات والوقود والسلع اليومية أكثر تكلفة في تركيا التي تعتمد على استيراد المواد الخام. في غضون ذلك، ارتفعت الإيجارات بشكل كبير وأسعار مبيعات المنازل، التي ترتبط في الغالب بالدولار، آخذة في الازدياد. لذا تسببت الظروف الاقتصادية الحالية في ارتفاع كبير في تكلفة المعيشة بالنسبة للكثيرين، مما أدى إلى تآكل شديد في القوة الشرائية للأتراك ومن ثم ارتفاع معدلات البطالة.

ومؤخرًا بدأ الأتراك والمتقاعدون من الطبقة العاملة في تشكيل طوابير طويلة أمام أكشاك البلدية للحصول على الخبز المدعوم في الأسابيع الأخيرة. ويحاول المواطنون الأتراك إيجاد طرق للتعامل مع استمرار انخفاض الليرة. أولئك الذين لا يملكون عملة أجنبية أو ذهبًا للبيع يجدون طرقًا أخرى لخفض الأسعار، من خلال تجنب شراء اللحوم أو اللجوء إلى الخبز المدعوم من الحكومة للحصول على القوت.

وعلى الرغم من الإصلاحات الاقتصادية التي تهدف إلى خفض تكاليف العمالة وتحفيز الصادرات، قامت تركيا أيضًا برفع الحد الأدنى للأجور إلى 4250 ليرة (275 دولارًا). لكن العديد من الأتراك يرون أن زيادة الحد الأدنى للأجور بنسبة 50% -التي أعلنها أردوغان يوم الخميس الماضي- والتي من المتوقع أن تزيد من تضخم أسعار المستهلكين بمقدار 3.5 إلى 10 نقاط مئوية- من المتوقع أن يؤدي ذلك إلى زيادة تضخم أسعار المستهلكين الإجمالية. وبالرغم من أن الزيادة تؤثر على حوالي 6 مليون عامل، لكن بالنظر إلى الانخفاض الحاد في قيمة الليرة، لا يزال الحد الأدنى الجديد للأجور أقل من 380 دولارًا في العام السابق، لذا لن تكون تلك الزيادة كافية لمواجهة التداعيات الاقتصادية التي يُعاني منها المواطنون.

هل بدت علامات الركود على الاقتصاد التركي؟

عملت إستراتيجيات أردوغان القوية المؤيدة للنمو لصالحه من قبل. منذ أن بدأ حكم تركيا في عام 2003، تولى تنفيذ مشاريع بنية تحتية باهظة الثمن، وتودد إلى المستثمرين الأجانب وشجع الشركات والمستهلكين على تحمل الديون. وبالفعل كانت تركيا تُعتبر معجزة اقتصادية خلال العقد الأول من حكم أردوغان.

تم تقليل معدلات الفقر، وزادت صفوف الطبقة الوسطى، وكان المستثمرون الأجانب حريصين على الإقراض داخل تركيا. لكن سعي أردوغان للتوسع أصبح غير مستدام. وبدلاً من التراجع، استمر الاقتراض المتهور، إلى أن وقع الاقتصاد غير المستقر بشكل متزايد في مأزق. وبالرغم من أن أسعار الفائدة المرتفعة جذبت المستثمرين الأجانب لقبول المخاطرة والاستمرار في الإقراض، فإنها أعاقت النمو المستدام بشكل كبير.

لكن يبدو أن الرئيس لم يكن على استعداد لقبول مقايضة زيادة الاستثمارات بضعف معدلات النمو، واستمر في دعم الاقتراض الرخيص مع ارتفاع التضخم وانخفاض قيمة العملة. ولا يزال أردوغان يُصر على أن أسعار الفائدة المرتفعة تسبب التضخم -على الرغم من أن أسعار الفائدة المنخفضة هي التي تضع المزيد من الأموال في التداول، وتشجع الناس على الاقتراض والإنفاق أكثر، مما يؤدي في النهاية إلى رفع الأسعار.

ويمكننا القول بأن الاقتصاد التركي فقد بريقه منذ عام 2015، وكان في حالة ركود منذ عام 2018 حينما كانت تركيا تعاني من هشاشة اقتصادية مع مزيد من تدني معدلات الليرة، والتضخم المرتفع، والبطالة المرتفعة، والديون الخاصة المرتفعة. وقد تسبب هذا في انخفاض قياسي في قيمة العملة وكان التضخم في خانة العشرات. وتأرجح الاقتصاد التركي بين الأهداف النقدية والمالية المتضاربة حتى عام 2018 عندما تسببت التوترات السياسية المتزايدة بين تركيا والولايات المتحدة في انهيار قيمة الليرة.

وبالرغم من تراجع حدة المواجهة السياسية، فإن المشاكل الاقتصادية الأساسية ظلت قائمة. وواصل أردوغان الضغط على البنوك الحكومية لتقديم قروض رخيصة للأسر والشركات واستمر جنون الاقتراض، وهو ما أدى إلى تأزم الاقتصاد التركي إلى هذا الحد. لذلك، كان الاقتصاد يعاني بالفعل من أوجه قصور هيكلية واضحة عندما ضربته جائحة الفيروس التاجي (كورونا) في عام 2020.

لكن حتى قبل أن تبدأ جائحة الفيروس التاجي (كورونا) واختناقات سلسلة التوريد في إعاقة اقتصادات العالم منذ ما يقرب من عامين، كانت تركيا تحاول تجنب الركود حيث كانت تكافح مع الديون المرتفعة، والخسائر الفادحة في قيمة الليرة التركية، والتضخم المرتفع. فالمشاكل الاقتصادية في تركيا لها جذور عميقة، لكن الأزمة الأخيرة كانت ناجمة عن إصرار الرئيس على خفض أسعار الفائدة في مواجهة التضخم المتسارع -وهو بالضبط السياسة المعاكسة لما يصفه الاقتصاديون على مستوى العالم.

إلامَ يفتقر الاقتصاد التركي؟

تعاني الليرة في الوقت الراهن من مزيد من الانخفاضات الحادة وغير المنضبطة التي تثير مشاكل في القطاع المصرفي. ولأزمة العملة تداعيات اقتصادية واجتماعية كبيرة، حيث قد يترتب عليها أزمة ائتمان تؤثر بشدة على النشاط الاقتصادي. وبالرغم من ذلك لا تزال خيارات السياسة الاقتصادية للحكومة تخاطر بإلحاق المزيد من الضرر بالاقتصاد. وإن كانت السياسات قصيرة الأجل قد تُساعد على دعم النمو، وهو ما دفع الاقتصاد التركي للتوسع السريع في الربع الثالث من العام 2021، حيث ساعد الاستهلاك الأسري القوي في تعزيز نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 7.4% بين شهري يوليو وسبتمبر مقارنة بالفترة نفسها من عام 2020، لكن تظل وتيرة النمو السريعة الخطى غير مستدامة في ظل ارتفاع معدلات التضخم بسرعة وانخفاض قيمة الليرة.

ومن ثم يظل هناك ضرورة حتمية لتبني سياسة نقدية مقيدة على الأقل حتى يتحقق ما يشبه التوازن الاقتصادي الكلي. هذا ضروري أيضًا لتأسيس المصداقية مع المستثمرين، واستعادة احتياطيات النقد الأجنبي. كذلك يحتاج الاقتصاد التركي إلى إستراتيجية طويلة الأجل، مع وصفات مؤلمة للغاية في بعض الأحيان، من شأنها أن تعيد الاقتصاد إلى مساره الصحيح. ومع وجود نسبة دين عام منخفضة نسبيًا تبلغ 40%، هناك حيز مالي للحكومة لدعم مختلف قطاعات الاقتصاد والعاطلين عن العمل، ولا سيما الأسر والشركات الأكثر ضعفًا خلال هذه الفترة الصعبة.