عام 1996 عرضت السينما الإسبانية فيلم «العائلة»، الذي دارت أحداثه حول قصة حزينة لرجل يستأجر الأشخاص ليتظاهروا بأنهم أقاربه. كان الرجل يستأجر الأفراد للقضاء على تلك الوحدة المخيفة التي تحاصره، حيث يشاركونه المناسبات الخاصة به، مثلما كان الحال في حفل عيد ميلاده الذي امتلأ بـ «الأقارب المزيفين».

شكَّلت القصة آنذاك صدمة للعديد من المشاهدين، لم يقتنع الكثير منهم بإمكانية حدوث هذا على أرض الواقع، ولكن اليوم وبعد مرور أكثر من 20 عامًا، أصبح الأمر حقيقة في اليابان والصين وكوريا الجنوبية وبريطانيا، وغيرها العديد من الدول. فقد ازدهرت خدمة استئجار الأصدقاء أو الأقارب، وأصبحت صناعة يعمل فيها العديد من الشركات والمواقع حول العالم.


بالمال يمكنك شراء العائلة والصديق

يأتي في مقدمة تلك الشركات شركة «فاميلي رومانس» family romance، أما المواقع فأشهرها RentAFriend، فعند الدخول إلى الموقع كل ما عليك فعله هو إدخال الموقع الجغرافي الذي ترغب في البحث من خلاله عن الأصدقاء، وبمجرد اختيار الموقع ستجد الكثير من الأصدقاء المتاحين والموجودين في تلك المنطقة.

يمكنك عرض صورهم وقراءة ملفاتهم الشخصية والتواصل معهم بشأن طلب استئجار هم كأصدقاء أو أقارب، وذلك عقب دفع رسوم العضوية بالموقع، وإن لم ترغب في التعامل من خلال الموقع، يمكنك الاتصال بإحدى شركات استئجار الأقارب والأصدقاء. وهذا ما فعله ويفعله الكثير من الأشخاص الذين يعانون الوحدة حول العالم:

1. في اليابان: قرر «كازوشيج نيشيدا»، الرجل الستيني الذي ماتت زوجته منذ سنتين، وتركت ابنته الوحيدة منزل العائلة إثر خلافات معه، أن يتخلص من وحدته بطرق عديدة، إلا أنها باءت بالفشل؛ ما دفعه إلى التفكير في استئجار زوجة وابنة مزيفة.

بالفعل اتصل نيشيدا بشركة «فاميلي رومانس» وطلب استئجار زوجة وابنة، وكان أول لقاء مع أسرته المزيفة للتعارف، حيث سألته الزوجة المؤجرة «كازو» عن الطريقة التي يجب أن تتصرف بها هي والابنة، فقال لها عن تسريحة زوجته وكيف كانت ابنته تداعبه. ومع الوقت بدآ يخرجان من إطار التمثيل ويتبادلان الأحاديث الحقيقية عن حياتهما والمشاكل الأسرية وغيرها. وكان ذلك بالطبع بمقابل بلغ نحو 370 دولارًا. صحيح أن الأمر لن يستمر طويلًا، إلا أنه جعله يشعر بالسعادة ويتغلب على شبح الوحدة ولو لساعات معدودة.

2. في كوريا الجنوبية: وجدت إحدى العرائس أنها وحيدة لا تمتلك صديقات يشاركنها تلك اللحظات المؤثرة في حياتها، لم تكن تريد أن تظهر هكذا أمام الضيوف الذين اعتادوا على وجود صديقات العروس إلى جوارها، فما كان منها إلا أن اتجهت إلى موقع «RentAFriend» حيث استأجرت 4 فتيات ليقمن بدور الصديقات المقربات لها.

لم يكن هذا حال تلك العروس فقط. لكنه حال الكثير من الفتيات المقبلات على الزواج في هذا البلد، واللاتي غالبًا ما يقمن باستئجار ضيوف وهميين عندما لا يكون لهن أصدقاء، حيث عدد الضيوف في حفلات الزفاف هو علامة وضع العائلة ومكانتها. وقد أصبحت هذه الظاهرة شائعة منذ نهاية 1990، فأصبح بإمكان الأفراد استئجار آباء مزيفين أو إخوة وأخوات من أجل حفلات زفافهم.

3. أما الصين؛ ففي ظل الضغوط العديدة على الشباب لتكوين صداقات وإخفاق الكثير منهم في ذلك نظرًا للضغوط المالية عليهم التي تدفعهم إلى الانشغال بالحياة المهنية حتى بأوقات الفراغ. يلجأ العديد إلى استئجار أصدقاء مزيفين، حيث يتم الاتفاق معهم على إحداث تغييرات معينة في الشعر واللباس والمظهر والتصرفات، بحيث يظهر كأنه صديق فعلًا وليس ممثلًا أمام باقي أفراد العائلة. ولا مانع في هذا الصدد من اتخاذ بعض الصور بملابس مختلفة ليبدو الأمر كأنهم أصدقاء قدامى.

وهذا أيضًا حال العديد من العزباوات اللاتي يتعرضن لضغوط اجتماعية قوية من أجل الزواج قبل سن الثلاثين، حيث تلجأ الكثيرات منهن واللاتي يعشن في المدينة إلى استئجار زوج مزيف عند زيارة عائلاتهن في القرى.

وقد ظهرت تلك الفكرة بعد عرض أحد المسلسلات الصينية عام 2010، حيث يقوم أحد الاشخاص باستئجار صديقة له لمواجهة الضغوط العائلية في المناسبات والعلاقات الاجتماعية المختلفة. أما في الواقع، فالأمر يزداد مع احتفالات رأس السنة الصينية وأعياد الربيع نتيجة ازدياد الضغوط العائلية لاصطحاب الأصدقاء لمشاركتهم الاحتفال بهذه المناسبة.


صناعة العائلات: حينما تدفع لتشتري الحب المزيف

نشأت هذه الفكرة بشكل أساسي في اليابان حيث ضغوط العمل الشديدة، التي تقيد حرية الأفراد وعلاقاتهم بالآخرين وتمنع تكوين صداقات قوية ومستمرة. وزاد من الأمر الفردية التي يحيا بها المجتمع، حيث يعيش نحو 40%‏ من الشعب بمفرده، بعيدًا عن العائلة، بل ربما كان منقطع العلاقة معهم، ما يحرمه مشاركتهم في الكثير من المناسبات.

في هذا السياق قرر الكثير من المجتمع، سواء كانوا من الشباب أو كبار السن، دفع مبالغ مالية للخروج مع شخص يستأجره، بدل أن يراه الناس يخرج وحيدًا. وازدهرت الشركات العاملة في هذا المجال فلم تعد تقتصر على شركة «family romance»، وأصبح هناك العديد من الشركات مثل «Client Partners»، وشركة «You Can Rent One: A Tokyo»، وشركة «Japan Efficiency Corp» وغيرها الكثير .

عملت هذه الشركات بمبدأ «إن لم تستطع شراء الحب الحقيقي، فعلى الأقل يمكنك شراء المظهر الموحي بالحب». وانطلاقًا منه عمدت إلى توفير موظفيها للعمل كأصدقاء وآباء وأمهات وأزواج وزملاء عمل وغيرها الكثير من العلاقات الاجتماعية التي تقوم بتسلية حياة العميل وإعطائه الشعور بالزخم.

وفرت الشركات خدمة الاستئجار وفقًا لاحتياجات طالب الخدمة، بدايةً من تأجير صديق بالساعة من أجل التحدث معه، أو التصوير معه لنشر الصورة على مواقع التواصل الاجتماعي، حتى يوحي لمن حوله أنه ليس وحيدًا، وصولًا لتأجير أعداد كبيرة من الممثلين قد تصل إلى 800 فرد؛ لتأدية دور أقارب العميل يوم زفافه إذا لم يكن يمتلك عائلة كبيرة، أو حتى في مأتم؛ من أجل البكاء معه ومواساته.

دفع النجاح الكبير الذي حققته تلك الخدمة في اليابان العديد من الشركات إلى الاستثمار بها وتنفيذها في دول أخرى مثل الهند وكندا وإيطاليا وبريطانيا وحتى الولايات المتحدة، التي تأسست بها شركة باسم «Rent A friend» حيث تقدم الخدمات نفسها مقابل 30 دولارًا في الساعة.

ومع هذا التوسع بدأت أهداف تلك الخدمات تتوسع، حيث لم تعد تتوقف عند حد القضاء على الشعور بالوحدة ومواجهتها، بل ظهر عدد من الأهداف الثانوية، مثل استئجار موظفي الشركات وإرسالهم للاعتذار بدلًا من العميل إذا لم يرغب في الاعتذار لشخص آخر بنفسه.وتأجير آباء مزيفين إذا ما تردد شخص في مفاتحة شريك حياته المستقبلي عن متاعبه ومشاكله العائلية. وفي حالة عدم الرغبة في إظهار الانكسار أمام الشريك بالحياة في حالات الطلاق والانفصال. وأحيانًا أخرى في حالات الاحتياج لشخص ما لتقديم المشورة الشخصية.


إنها الوحدة: القاتل الخفي

بالرغم من هذه الأهداف الثانوية، فإن الدافع والمنشأ الرئيسي الذي جاءت منه فكرة استئجار الأشخاص المزيفين هي الوحدة. فمع ازدياد الشعور بالوحدة قام السوق بملء الفراغ عبر تلك الشركات والمواقع الإلكترونية التي تقدم خدمات استئجار الأشخاص.

ولم تكن هذه الوحدة تقتصر على اليابان وحدها (منشأ الفكرة)، لكنها تنتشر في مختلف الدول. إذ تشير الدراسات إلى أن 1 من كل 5 أمريكيين يشعرون دائمًا بالوحدة أو بالعزلة الاجتماعية، كما توضح الأرقام الصادرة عن الاتحاد الأوروبي أن نحو 6% من الأوروبيين يعانون من الوحدة وأنَّ هذه الوحدة تأخذ حيزًا مهمًّا في بريطانيا، أكثر منه في سائر دول الاتحاد، ما دفع الحكومة إلى استحداث وزارة للتعامل مع مشكلة الوحدة.

وقد أكدت هذه الوزارة وجود نحو 9 ملايين بريطاني يعانون الوحدة (13% من السكان)، وأن حوالى نصف الأشخاص الذين تتجاوز أعمارهم 75 عامًا يعيشون وحدهم، وقد تمر عليهم أيام وأسابيع دون أيِّ تواصل اجتماعي لهم على الإطلاق.

أما في اليابان فقد ظهرت مشكلة الوحدة والانعزال الاجتماعي بين الشباب في منتصف التسعينيات، وازدادت تدريجيًّا حتى بلغت أكثر من نصف مليون ياباني في المرحلة العمرية بين 15 و30 عامًا، وفي الفئات العمرية الكبيرة أصبح هناك نحو 70% من الأشخاص فوق سن الـ 40 منعزلين اجتماعيًّا.

بالطبع تعددت الأسباب وراء تلك الوحدة واختلف سياقها وظروفها من دولة إلى أخرى، إلا أن هناك عددًا من الأسباب والقواسم المشتركة كانت سببًا في ازديادها على هذا النحو، يأتي في مقدمتها:

1. الفردية: فنظام الحياة الاقتصادي والاجتماعي في هذه الدول قائم إلى حد كبير على تعزيز كل ما هو فردي في مقابل كل ما هو مجتمعي، ما نتج عنه عواقب سلبية وَلَّدَت بدورها العديد من الأمراض النفسية والاجتماعية على رأسها الوحدة.

وقد أكد ذلك «جون كاسيوبو»، أستاذ علم النفس بجامعة شيكاغو، حيث ربط بين الوحدة وطبيعة البشر وحاجتهم للتواصل الاجتماعي، مشيرًا إلى ازدياد الشعور بالوحدة كل عام نظرًا للفردية التي أصابت المجتمعات وافتقادهم للتواصل الاجتماعي. وأن الأمر لم يتوقف عند هذه الوحدة، بل تبعها بطبيعة الحال عدد من الأعراض الأخرى مثل الاكتئاب. ففي الثمانينيات من القرن الماضي، كانت نسبة من عانوا الاكتئاب ولو مرة واحدة طوال حياتهم نحو 20% في الولايات المتحدة. أما الآن فتخطت الـ 40% ومن المتوقع أن تستمر في الزيادة.

2. الرأسمالية: وهي التي عززت الفردية، إذ سعت لتفكيك العلاقات الاجتماعية وتطويعها فقط في خدمة السوق، وحوَّلت الأسرة إلى وحدة اجتماعية تخدم أهدافها، وتوفِّر لها الأيادي العاملة، حيث حوَّلت العمل من وسيلة للعيش إلى قيمة في حد ذاته، ما أثر على الفرد ودوره المجتمعي والأسري وتسبب بتفكك العلاقات الأسرية مع مرور الوقت.

ولعل أبرز الأمثلة على هذا اليابان، فالثنائي الياباني لا يتمتعان بحياة اجتماعية طبيعية بسبب كثرة الانشغال بالعمل. وتسبَّب هذا العمل أيضًا في ارتفاع معدلات العزوف عن الزواج، حيث بلغت نسبة غير المتزوجين الذين تتراوح أعمارهم بين 30 و34 عامًا نحو 47.1% بالنسبة للرجال، و34.6% بالنسبة للنساء، ونسبة غير المتزوجين الذين تتراوح أعمارهم بين 35 و39 عامًا نحو 35% بالنسبة للرجال (1 من كل 3 رجال)، و23.9% بالنسبة للنساء (1 من كل 4 نساء).

3. مواقع التواصل الاجتماعي: تحولت من كونها وسيلة للتواصل الاجتماعي إلى وسيلة للانفصال عن الواقع. حيث تم الاكتفاء بوسائل التواصل هذه والرسائل للتعبير عن المشاعر، بدلًا من التواصل الحقيقي والحديث وجهًا لوجه. وأكدت دراسات عديدة أن استخدام مواقع التواصل لأكثر من ساعتين خلال اليوم يضاعف فرص شعور المستخدمين بالوحدة والعزلة نتيجة تعرضهم لصور مثالية لحياة الآخرين، ما يزيد من مشاعر الحقد أو الغيرة لديهم، فضلًا عن الشعور بالإقصاء مثلما يحدث في حالة مشاهدة صور لأشخاص في احتفال لم يُدعَ إليه المستخدم.


أخيرًا، يمكن القول إنه مهما تعددت الأسباب وراء تلك الوحدة، فالحل لا يكمن فقط في استئجار الأشخاص المزيفين لصناعة العائلة أو الصديق. فإن كانت تلك الطريقة ستجنب الفرد الشعور بالوحدة لساعات أو أيام، فهي أيضًا تزيد من المعاناة في كثير من الأوضاع، حيث عادة ما ينسى الأفراد حقيقة أنهم يدفعون مقابل القضاء على الوحدة، وكثيرًا ما يتعلقون بهؤلاء المستأجرين، خاصة عندما يكون العملاء من كبار السن من الأمهات أو الآباء أو حتى الأزواج الذين يفتقدون زوجاتهم.