في خمسة أيام فقط، تحول النظام القادر على محو العدو الرابض على الحدود وإلقائه فى البحر إلى نظام ودولة مهزومين، يقرر رئيسها وزعيمها التنحي بعد «مواجهتنا لنكسة خطيرة» استمرت تداعياتها حتى الآن فى شتى الألوان والأشكال. ما الذي حدث إذن؟


البداية: هزيمة سياسية واجتماعية

فى البداية، لم تكن هزيمة يونيو 1967 هزيمة عسكرية فقط، وإنما سياسية واجتماعية أيضاً. يقدم أستاذ العلوم السياسية خالد فهمي في مقالاته المنشورة مؤخراً على موقعه الخاص قراءة وتحليلاً لأسباب الهزيمة، خاصة العسكرية، وبالتطرق إلى معنى الهزيمة نجد أنها تعني فشل وانهيار مشروع دولة التحرر الوطني وما بعد الاحتلال على كافة الأصعدة.

فانتهت واحدة من الدول المؤسسة لحركة عدم الانحياز إلى الاعتماد المضاعف على الاتحاد السوفيتي، وانتهت الدولة «الاشتراكية» إلى تبني بعض الحلول الرأسمالية لمواجهة الانهيار الاقتصادي في أعقاب الهزيمة [1] مع فشل الخطط الخمسية [2].

كشفت الهزيمة جزئياً عن الواقع المؤسف، واقع مليئ بالقمع والقهر والفشل وانعدام الكفاءة على مستويات التخطيط المختلفة، من الاقتصاد للسياسة الداخلية والخارجية، ومن التخطيط الحربي إلى التعليم.

انكشف هذا في مقالات وتحقيقات ومحاكمات موثقة أظهرت كيف كان النظام يتداعى ببطء، بينما هو جنة الاشتراكية فى نظر الكثيرين. كيف اكتسبت تلك الأحداث من 5 إلى 9 يونيو طبيعة مزدوجة؟ كونها نكسة وفي الوقت ذاته هزيمة لم يمح ذكراها عبور القناة في 1973، هزيمة استمرت راسخة وبقوة في الذاكرة والوجدان الجمعيين واستمرت شبحاً يطارد مخيلاتنا؟ فكيف استطاع النظام أن يحول هزيمة بهذا القدر والعمق إلى «نكسة»؟ مجرد نكسة؟


الصدمة: آلة البروباجندا الناصرية لتزييف الصورة

في البدء كانت الصدمة، فعلى مدار خمسة أيام نشطت آلة البروباجندا الناصرية لتزييف الصورة بشكل كامل. ولأن سابقة 1956 كانت ما تزال ماثلة للأذهان، فإن مؤامرة أمريكية – بريطانية هي احتمال وارد تصديقه جداً، كما أن كذب المحطات الإذاعية الأجنبية بشأن الأوضاع في سيناء لهو الآخر حقيقة مؤكدة، فطبقاً للمؤامرة وتسليماً بها فإن كل القوى الأجنبية تود القضاء على نظام ناصر القومي الاشتراكي الذي يمثل تهديداً لهم كلما قويت شوكته.

نشطت إذن صحف وراديو وتليفزيون الجمهورية العربية المتحدة في اتجاهين، الأول، هو تعزيز انتصاراتنا الوهمية الساحقة فى الوعي الجمعي، والثاني، هو الإلهاء. قد يبدو الأمران متناقضين، ولكن فى الواقع ليسا كذلك، فالهدف هو التسكين، وليس التعبئة العامة فى معركة خاسرة منذ اليوم الأول. فظهرت بوادر الصدمة مع طلائع الجنود المنسحبين من سيناء إثر عودتهم إلى المدن في حالة يرثى لها، ثم كانت الصدمة مؤكدة في خطاب التنحي وهو يتضمن الاستخدام الأول لكلمة «نكسة» على لسان جمال عبد الناصر.

مثلت هزيمة يونيو 67 انقطاعاً – إذا جاز القول – فى السردية الجماعية الواعية، فدولة ما بعد الاستعمار والتي اتجهت فى بنائها إلى النموذج الستاليني للدولة، حملت تناقضاً بين شعاراتها المرفوعة وواقع الأمور داخل بيروقراطيتها المتكلسة، تناقضاً بين الاستعراض القومي للاشتراكية والتحرر والتقدم والعدل والكفاءة من خلال أبواقها الإعلامية وبين ما يجري على أرض الواقع من محسوبية أهل الثقة والقمع ووجود طبقة برجوازية تحل محل الطبقة الارستقراطية والبرجوازية القديمة [3].

فانهار النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي بالكامل أمام أعين الناظرين، ولكن انهار معه أيضاً «الفرد»، من المثقفين إلى الأميين، انهارت أحلامهم وطموحاتهم وما تربوا عليه من أحلام هوية حضارية وفاعلة فى لحظة تاريخية فارقة.

برز ألم المسئولية عن سنوات الصمت والقبول، وسرعان ما برز أمامه صورة تلك الآلة القمعية الجبارة التي دفعت إلى «القبول» وبرز الثمن الذي دفعه هؤلاء الأفراد من دماء وجهد ومن وجود في مقابل هزيمة لم يريدوها، ثمناً لوهم عقد اجتماعي حديث قدموا فيه حرياتهم في مقابل الأمن والتقدم والعزة والكرامة، أحلام تعيد دولة ما بعد الاستعمار إنتاجها المرة تلو الأخرى دون إرادة حقيقية لتحقيقها. يجدر بنا الآن البحث فى أسس العلاقة وما تعنيه الذكرى والهوية في هذا السياق.


الهوية والذكرى

في كتابه «الذاكرة الحضارية» يعرف يان أسمن العلاقة بين الكتابة والذكرى والهوية/ الخيال السياسي في الحضارات الكبرى الأولى – كما هو واضح من بقية العنوان – عن طريق تعريفه للهوية والذكرى والعلاقة بينهما. ويمثل المدخل النظري لأسمن جهداً ثميناً يمكن من خلاله تفسير ما نحن بصدده من أحداث، مع محاولة تطويع نظريته باختصار بالنظر إلى القرن العشرين الحداثي الطابع والبعيد عن الحضارات الأولى.

باختصار فإن الهوية الجماعية تتأسس على الذاكرة والتي يتم حفظها إما عن طريق الطقوس ذات الطابع المقدس، وإما من خلال تطور الكتابة والذي تم عن طريقها حفظ ما يشكل هوية المجموعة فى نصوص مؤسسة للحضارة «ما يعرفها أسمن بالقانون الحضاري». وفي العصر الحديث انضمت أدوات أخرى للكتابة كما تبدلت دلالة مفهوم القانون الحضاري لتصبح «حالة الارتباط بمبدأ، أو بمرجعية، أو بتكوين كبير من القيم» ومثال على ذلك الدستور فهو: «…يصيغ مبادئ تم التعارف عليها على أنه لا يجوز التخلي عنها، ولا يجوز التفريط فيها، وبالتالي تعتبر مبادئ مقدسة إلى حد ما»[4].

وبالنظر إلى اتساع الإطار الذي يتناوله أسمن، فإنه يمكن تضييقه بالنظر في مساحات مقيدة زمنياً ومكانياً بفترة محددة ومثال على ذلك ما أورده أسمن بشأن القانون الستاليني الخاص بمذهب الواقعية الاشتراكية والذي يمثل: «مبدأ جمع كل الجوانب والمجالات المختلفة لعملية الممارسة الحضارية، ووضعها تحت مظلة النظام الشامل لعقيدة دينية معينة، أو أيدولوجية سياسية ما… وهذه هي الصيغة الشمولية الموحِدة»[5]

كانت القانونية الحضارية فى هذه الحالة إذن – حالة جمهورية 23 يوليو – هي خطب الرئيس وكتب مثل «فلسفة الثورة» والمقالات والوسائط المتعددة والتصريحات السياسية والتي تبلورت على أساس التجريب حتى وصلت لجمعها في «الميثاق». ويمكن اختزال الهوية الجماعية في كونها تأسست على محاور التحرر الوطني ومقاومة الاستعمار العالمي والعروبة والاشتراكية أو «اشتراكيتنا» كما ورد في الميثاق.

وفي ظل نظام شمولي يكاد يكون مغلقاً بالكامل ومحاصراً من قبل الرقابة، لم يكن هناك مجال سوى لصوت واحد – كما أوضح شريف يونس في كتابه «الزحف المقدس» في تناوله للصحافة والإعلام على سبيل المثال – وكيان واحد فقط وهو الاتحاد الاشتراكي، صوت واحد فقط يتردد صداه.

إن الذاكرة الجماعية مرتبطة بالهوية أي:

ترتبط كلية بالموقف الحياتي لمجموعة بشرية حية وحقيقية… فتبدو مفاهيم الزمان والمكان هنا وكأنها تمثل الوطن وسيرة حياة المجموعة، تكون ذات مغزى وذات أهمية كبيرة بالنسبة للصورة الذاتية التي ترسمها المجموعة عن نفسها وبالنسبة لأهدافها

فمن أجل تعريف الذات وتبرير دور الجماعة في التاريخ، عليها أن تنظر إلى ماضيها أولاً – السردية المراد اعتمادها من خلال انتقاء النصوص المرجعية لها – وترتبط الهوية الفردية بالجماعية باعتبار الأولى مركباً اجتماعياً، وفي ذات الوقت فإن الهوية الجماعية تنبع من الأفراد وتنحصر في كونها شيئًا متخيلاً ورمزياً وبالتالي فهي: «ليست موجودة بذاتها ولذاتها وإنما توجد بالقدر الذي ينتسب به أفراد معينون لها ويرسمونها، ثم يندمجون فيها. وتكون هذه الهوية قوية أو ضعيفة بالقدر نفسه الذي تكون فيه قوية أو ضعيفة في وعي وشعور أفراد المجموعة، بالقدر نفسه الذي تحرك وتدفع به تفكيرهم وتصرفهم»[6]

وعن طريق الوعي بموقف المجموعة المشترك من خلال مواجهة مع الآخر أو كما يطلق عليها أسمن «التضامن الضدي»، يتحول مجرد الإحساس بالتبعية لمجموعة ما إلى إحساس بالانتماء، وتعتبر تلك أحد أنماط تكوين هوية جماعية.

بالاستناد إذن لوجود هوية جماعية قومية تبلورت مع نهاية القرن التاسع عشر بمصر، فإن الجمهورية اعتمدت على تكثيف تلك الروح القومية والهوية الجماعية من خلال الذكرى القريبة خصوصاً والبعيدة بشكل عام، فعلى سبيل المثال اتخذت الذكرى القريبة صور المؤامرة في سرديات حرب فلسطين 1948 وقضية الأسلحة الفاسدة، حريق القاهرة في 1952، أحداث 1954 وفكرة المؤامرة على نظام الضباط الأحرار، حرب السويس 1956، والانعكاس لصورة المؤامرة وهي صورة الجماعة القومية المقاومة، هوية تريد أن تفرض نفسها كفاعل قادر على تقرير مصيرها الخاص – تأميم القناة والجلاء والمشاريع القومية التنموية – وقادر أيضاً على إحداث تغيير على الساحة الدولية – حركة التحرر الوطني وحركة عدم الانحياز. ربما تكون هذه النقاط هي ما شكل الذكرى المؤسسة لهوية جماعية خاصة، وهي الهوية التي اضطربت وتصدعت مع هزيمة 1967 بالطبع وسحبت معها اضطرابًا وتصدعاً في الهوية الفردية أيضاً.


لماذا نتذكر؟

فالتذكر يمثل طريقة يتخلص بها الإنسان من الحقائق المسلم بها، يمثل طريقة للنقل من الماضي تستطيع اختراق الحقائق القائمة، ولو لحظات قصيرة، فالذاكرة تستعيد المخاوف والأهوال والآمال والأحلام الماضية، وتضعها فى بؤرة التذكر
هربرت ماركوزه [7]

اختزال الهزيمة إلى «نكسة» ربما كان استراتيجية للتذكر والنسيان معاً، فتذكر شيء معناه نسيان أشياء أخرى. فمع مصطلح النكسة يبرز جانبان: الأول، هو تذكر الهزيمة «المؤقتة» لتصبح عماداً لبقاء النظام الناصري – مع محاولاته الجزئية للإصلاح من الداخل – ولإضفاء شرعية علي سياساته فى مواجهة «القوى الغاشمة» التي استهدفت الدولة «التقدمية التحررية» المصرية وتحاول النيل من «إنجازاتها»، وهي الإنجازات المراد تذكرها بشكل معين فقط، وبالتالي فالهزيمة هي مجرد «نكسة» يمكن للنظام بل يجب على النظام تجاوزها.

والثاني، هو النسيان، نسيان أنها هزيمة على كافة الأصعدة – مكتفية بالهزيمة العسكرية دون الباقي – ونسيان الأسباب الحقيقية وراء تلك الهزيمة وهي الأسباب التي استمرت بشكل كبير بعد 1967، ومن أبرز مظاهرها الاحتجاج الشعبي في فبراير 1968 على الأحكام الهزيلة الصادرة بشأن بعض المتسببين في الهزيمة [8] بينما بقي منهم آخرون في مواقعهم بلا قلق أو خوف من شبح المحاكمات والمساءلة.

إذا كان النظام الناصري وقتها يظن أنه في طريقه للتعافي من «نكسته»، فهذا لا يعني أن الشعب والمجتمع قد تعافى من هزيمته إلى الآن. فبعد مرور خمسين عاماً على الخامس من يونيو 1967، وأربعة وأربعين عاماً على أكتوبر 1973، ما زلنا نسأل نفس الأسئلة، كأن الخروج من تلك المتاهة، هو عمل شبه مستحيل لا يقدر عليه سوى أبطال التراجيديات الإغريقية فقط، ليموتوا في تحديهم للآلهة في النهاية.

ربما كانت ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 فرصة لتجاوز هذا الإرث الثقيل من الهزيمة، إلا أن هزيمتها المرحلية قد أعادت التأكيد على أهمية التذكر وضرورة هذين السؤالين: لماذا انهزمنا وننهزم؟ وكيف ننتصر؟

المراجع
  1. جينارو جيرفازيو, الحركة الماركسية فى مصر, ص 231
  2. شريف يونس, الزحف المقدس, ص 66
  3. غالي شكري "النهضة والسقوط فى الفكر المصري الحديث" ص 110
  4. الذاكرة الحضارية ص 213
  5. الذاكرة الحضارية ص 215
  6. الذاكرة الحضارية ص 245
  7. كتاب يان اسمن الذاكرة الحضارية، ص 148
  8. حمد عبد الله, الطلبة والسياسة فى مصر, ص 275
  9. الزحف المقدس: مظاهرات التنحي وتشكل عبادة ناصر, تأليف: شريف يونس
  10. الذاكرة الحضارية: الكتابة والذكري والهوية السياسية في الحضارات الكبري الأولي, تأليف: يان أسمن
  11. النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث, تأليف: الدكتور غالي شكري
  12. الطلبة والسياسة فى مصر, تأليف: أحمد عبد الله
  13. الحركة الماركسية في مصر ( 1967 – 1981), تأليف ومراجعة: جينارو جيرفازيو