ناقشنا في المقال السابق كيف بدأت محاولات الإنسان في تفسير العالم المحيط به، وبناء منظومة فكرية تسمح له بالتعامل مع الواقع ومحاولة تسخير ظواهره (الطبيعية والاجتماعية) لتحقيق مصالحه، وتعرضنا لكيفية قيام الإنسان منذ قديم الزمان باستخدام الخيال لتفسير الظواهر الطبيعية المختلفة، ومن ثم وضع الأسس التي يتعامل بها مع تلك الظواهر في محاولة لتطويعها لمنفعته، مما أدى لنشأة الأساطير التي أسست لمنظومة الفكر الأسطوري/الغيبي التي حكمت فهم الإنسان للواقع الذي يعيشه، ومحاولاته للاستفادة من ذلك الواقع.

وقد ظل الإنسان لعشرات الآلاف من السنين يعتمد على مصدرين للحصول على المعرفة اللازمة للتعامل مع الواقع الذي يعيشه، المصدر الأول هو الخبرة العملية التي يكتسبها الفرد مما يتعرض له من مواقف عن طريق «التجربة والخطأ». أما المصدر الثاني فهو منظومة الفكر الأسطوري/الغيبي، كما ناقشناها في المقال السابق. وبهذا ظلت المعرفة البشرية معرفة «خاصة» غير قابلة للتعميم، يقوم التحقق من صدقها، ومن ثم قبولها، على معايير شخصية تختلف باختلاف الأفراد. وبدأت السيطرة المطلقة لمنظومة الفكر الخرافي تلك في التآكل مع بدايات عصر النهضة الأوروبي واستمرت حتى ظهور حركة التنوير في أواخر القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر. وقد تشكلت تلك الحركة من ثلاثة مكونات رئيسية هي: حركة اﻹجتهاد الدينى والحركة الإنسانية والحركة العقلانية، وفي القلب من تلك الحركة ظهرت منظومة العلم الحديث في صورته الأولى.


الثورة الكبرى في تاريخ الفكر البشري: العلم

شهد تاريخ البشر عددا من النقلات الفكرية التي انتقلت بالإنسان من منظومة ذهنية اتضح قصورها لمنظومة أخرى أكثر فعالية. ويعتبر الانتقال إلى منظومة العلم الحديث، أكبر وأهم تلك النقلات وأبعدها أثرا، حيث أنها كمنظومة ذهنية تتيح للإنسان فهما أفضل لما يحدث حوله من ظواهر الواقع من خلال منهج التفكير العلمي القائم على ثلاث ركائز هي:

الإميريقية:

وتعني الاعتماد على الشواهد المحسوسة؛ فلا مكان في العلم للشواهد القائمة على السمع أو ولا تلك القائمة على شهادة أفراد ولا على تلك القائمة على الإلهام أو العاطفة.

العقلانية:

وتعني استخدام العقل وملكاته وأدواته مثل أدوات التفكير المنطقى في تحليل الشواهد الإمبريقية واستخلاص النتائج منها.

الشك:

ويعني خضوع المعرفة التي ينتجها العلم للنقد الدائم بهدف التأكد من صحتها ولتعديلها عند الضرورة. فالمعرفة العلمية هي المعرفة التي تتمتع بالقابلية للدحض/التفنيد Falsifiability . فمنهج العلم، طبقا لكارل بوبر هو: «منهج صياغة الفروض الجريئة والمحاولات البارعة والعنيفة لدحضها». ويكمن في هذه الركيزة سر قدرة المنظومة العلمية على التطور وتصحيح أخطائها.

وبناءً على هذه الركائز ولدت «منظومة العلم الحديث»، كـ «منظومة تعلم» و«منظومة معارف»، تهدف لتفسير ظواهر الكون الطبيعية والاجتماعية مهما شابها من عدم انتظام أو تعقد متزايد.


العلم كمنظومة تعلم

طبقا لموسوعة ستانفورد للفلسفة فإن العلم هو «أي نشاط ممنهج ومنضبط يسعى وراء الحقائق المتعلقة بعالمنا ويتضمن قدرا كبيرا من الشواهد الإمبريقية»، وبالتالي فمن الممكن النظر للعلم بوصفه “منظومة تعلم” أو “آلية تعلم” تساعدنا على فهم الواقع (طبيعيا أو إنسانيا).

ويقوم العلم، كمنظومة للتعلم تهدف لإنتاج المعرفة، على ثلاثة مبادئ/مفاهيم رئيسية هي:

الاختزالية Reductionism

التكرارية Repeatability

الاختبارية Testability

أي أن العلم، كمنظومة للتعلم، يسعى إلى بناء «المعرفة العلمية» بالواقع وذلك بـ «اختزال» تعقده إلى موضوعات منفصلة يمكن فحصها كل على حدة بواسطة تجارب محكمة يمكن “تكرارها” و”اختبار” التفسيرات الممكنة لنتائجها.

الاختزالية:

ولمفهوم «الاختزالية» ثلاثة أوجه مختلفة وإن كانت متكاملة. يتعلق الوجه الأول من أوجه الاختزالية بـ «التفكيك» وهو الذي يُعنى بكيفية التعامل مع التعقد الشديد الذي يميز الواقع بمكوناته المتنوعة والمتشابكة بتأثيراتها المتبادلة بين بعضها البعض. ولا يمكن دراسة هذا الواقع شديد التعقيد إلا بانتقاء أحد جوانبه العديدة، والتركيز على دراسته كموضوع مستقل وقائم بذاته، ومن ثم تفكيكه هو الآخر إلى أجزاء أصغر تسهل دراسة كل منها على حدة. وترتكز صلاحية هذا المنهج على افتراض أن «خصائص الجزء الذي تم فصله عن الكل الذي ينتمي إليه لا تتأثر بهذا الفصل».

ويتعلق الوجه الثاني من أوجه الاختزالية بـ «التجريب»، حيث يتم فحص الموضوع محل الدراسة وأجزائه فحصا دقيقا عن طريق إخضاعهم للتجارب المختلفة، من خلال تجارب محكومة بهدف الحصول على نتائج محددة وواضحة فيما يتعلق بسلوكه.

أما الوجه الثالث فيتعلق بتفسير النتائج المستخلصة من التجريب، وتعني الاختزالية هنا استخدام أقل عدد ممكن من الافتراضات عن شرح أو محاولة تفسير النتائج التي تم الحصول عليها، ويعتمد هذا الفهم على المبدأ المعروف باسم Occam’s Razor الذي ينص على أنه «في حالة وجود عدة تفسيرات محتملة لنفس الظاهرة، فإنه يجب علينا اختيار التفسير الذي يحتوي على أقل عدد من الافتراضات».

التكرارية:

يقوم مفهوم «التكرارية» على «عمومية» المعرفة العلمية. حيث تتميز المعرفة العلمية بكونها عامة لا يتوقف قبولها والإقرار بصحتها على عوامل شخصية، بل يعود قبول تلك المعرفة إلى إمكانية تكرار التجارب بنفس الظروف والحصول على نفس النتائج. وبهذا فإن «عمومية» المعرفة العلمية مرتبطة بإمكانية تكرارها إذ أن «ما يحدث في تجربة علمية ما» يتكرر بغض النظر عن زمان أو مكان إجرائها وبغض النظر عن الأشخاص القائمين بها. من الممكن أن تختلف التفسيرات ولكن النتائج تظل واحدة. وهذه «العمومية» هي ما يميز المعرفة العلمية عن «المعرفة الخاصة» التي كانت من الخصائص المميزة للمعرفة البشرية قبل ظهور العلم الحديث.

الاختبارية:

أما الاختبارية، فإنها ترتبط بالأسلوب الذي يتبعه الباحث في محاولته للكشف عن أسرار الطبيعة. وينبغي أن نميز بين نوعين رئيسيين من أنواع التجارب العلمية: «تجارب بيكونية» (نسبة إلى فرانسيس بيكون) وهي التجارب التي تهدف إلى جمع الحقائق عن عالم الواقع بملاحظة لظواهره وقياس معطياته وتسجيلها وتحليلها، و«التجارب الجاليلية» (نسبة إلى جاليليو جاليلي) التي تسعى لاختبار الفروض النظرية أو التمييز بين التفسيرات المحتملة لظاهرة ما.


العلم كمنظومة معارف

بعد أن استعرضنا المفاهيم الرئيسية التي قام على أساسها العلم الحديث كمنظومة للتعلم، حان الوقت للنظر إليه كمنظومة للمعرفة/المعارف. فالمعرفة العلمية هي مجموع الحقائق المؤقتة والقابلة للنقض التي تصف ظواهر الواقع وتحاول تفسير أسباب حدوثها. وتتمتع المعرفة العلمية بعدد من الخصائص التي تميزها عن غيرها من المعارف التي تنتجها طرق التفكير الأخرى مثل التفكير الفلسفي أو الديني أو الأسطوري.

التواصلية:

أولى خصائص تلك المعرفة هي «التواصلية» التي تعني تواصل المعرفة العلمية المتوفرة فعلا مع تلك المستحدثة/الجديدة أو تلك التي يمكن استحداثها. ويأخذ هذا التواصل أشكالا متعددة، فقد يكون إضافة أو تطويرا لنظرية موجودة، أو نقدا وتفنيدا لنظرية موجودة، أو تعديلا على معلومة موجودة. ولهذا يتطلب إنتاج معرفة علمية جديدة حول موضوع معين أن يكون المرء مطلعا على ما تم إنتاجه علميا في هذا الموضوع سابقا، وبهذا يحدث التراكم المعرفي عبر الأجيال ويزداد الرصيد المعرفي للإنسان.

المشاعية:

ثاني هذه الخصائص هي «المشاعية» التي تجعل المعرفة العلمية معرفة عمومية، ينتجها البعض ويتاح للبعض الآخر التحقق من صحتها (عن طريق خواصها الاختبارية والتكرارية) واستخدامها. وتساعد تكنولوجيا المعلومات في تعزيز تلك الخاصية بما توفره من وسائل فعالة لحفظ ونشر المعلومات، وآليات للبحث والتدقيق.

التجددية:

والخاصية الثالثة للمعرفة العلمية هي صفة «التجددية» الناتجة عن إنه لا يوجد، من المنظور العلمي، حقائق نهائية لا تقبل النقض والتفنيد. فالمعرفة العلمية، كمنظومة من الحقائق المؤقتة، هي منظومة منفتحة وتقبل استبعاد أو تعديل ما يثبت خطؤه أو ما تتأكد من انتفاء فعاليته من حقائق، وفي ذات الوقت فإنها تقبل كل ما تثبت صحته وتتأكد فعاليته.

كانت هذه ملامح «منظومة العلم الحديث» في بداياتها، والتي شكلت أهم الأسس التي قام عليها المجتمع الحديث مجتمع «حضارة الصناعة». وهي المنظومة التي تتمتع بقدرة غير مسبوقة على التطور والتجدد مما ساعد على تطور المجتمعات، وتطور المنظومة بذاتها عبر الزمن.

المراجع
  1. The Nature of Science and the Nature of Religion
  2. التنوير الغائب، دار العين للنشر، 2006؛ السيد نصر الدين السيد
  3. معالم على طريق تحديث الفكر العربي. سلسلة عالم المعرفة، يوليو 1987، الدكتور معن زيادة
  4. التفكير العلمي – سلسلة عالم المعرفة، مارس 1978، الدكتور فؤاد زكريا