صدر حديثًا عن مدارات للأبحاث والنشر كتاب «الأصوليَّات» للدكتور محمد صُفَّار أستاذ النظرية السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة. ومن الجدير بالذكر أن هذا الكتاب هو النصُّ الأول الذي يصدُرُ للمؤلف بعد عدة ترجمات صدرت له من قبل، نذكر منها: التطهير الثقافي: التدمير المتعمَّد للعراق، مدخل إلى الأيديولوجيات السياسية، نظريات العلاقات الدولية. وقد خرج الكتاب في 368 صفحة مقسَّمًا إلى مقدمة، نظرية، وخاتمة، بينهما ستُّ دراسات منفصلة متصلة ترتبط بخيط ناظم يحاول ربط الفلسفة بالواقع باتباع خدعة لطيفة يعتذر عنها المؤلِّفُ في أول الكتاب ويكشفها في آخر فصول الكتاب. وفيما يلي عرض لأهم أفكار الكتاب.


إشكالية التأسيس الفلسفي: قراءة في تصورات محفوظ

ينطلق النص بهمّه الرئيسي المتمثِّل في «قضية التأصيل الفلسفي» والتساؤل عن مدى شرعية وجود مشروع فلسفي في البيئات غير الغربية وإمكانية تحوله من مجرد مذهب إلى ممارسة. يصيغ النص نظرته حول خفوت وإخفاق الإسهامات الفلسفية وفقًا للخصوصية العربية، ويرجع ذلك إلى تَهاون العرب بالفلسفة، وعليه يُدندن النص حول تصورات «نجيب محفوظ» لإمكانيات التأسيس الفلسفي في رواياته، حيث وضع من «الثلاثية» منطلقًا لذلك. يرجع ذلك الاختيار لمنهاجية “الصدام بين الشخصيات” في أدب محفوظ للكشف عن تجلياته من خلال الحوار الصدامي. ولهذا يجعل النص من شخصية «كمال أحمد عبد الجواد» – أحد شخصيات الثلاثية – أساسًا لفهم فلسفة محفوظ، فكمال يعكس نمطًا لحال التفلسف وسط المثقفين العرب القائم على التقليد والترديد دون الإبداع.

شخصية «كمال» في «الثلاثية» تعكس نمطًا لحال التفلسف وسط المثقفين العرب، والقائم على التقليد والترديد دون الإبداع.

كما يحاجج النص أن المقالات الفلسفية لمحفوظ تشكل حجر بناء أساسي لفهم تأصيله الفلسفي، بدءًا من مقال «احتضار معتقدات وتوالد معتقدات» الذي عكس كيفية تزعزع المعتقدات القديمة لتحلّ محلها نظيرتها الحديثة (الاشتراكية نموذجًا)، وذلك من خلال عملية تطويرية، انتهاءً بـ «فكرة الله في الفلسفة» الذي يعكس شكوك محفوظ حول فعالية التطور، حيث يقرّ بتَجَذُّر المعتقدات القديمة (الدين نموذجًا) في ممارسات الحياة اليومية، والتي تحوي أفكارًا راقية تتجاوز نظيرتها المستقاة من المجتمع مهما بلغ تطوره. هنا يتقلَّبُ محفوظ بين تعاطي الفلاسفة، علماء الاجتماع، والمتصوفة مع فكرة الله، فيتقلَّب رأيه ما بين الاستحسان، الإنكار، والعجز في تعاطي هؤلاء -على التوالي- مع موضوع الألوهية. وعليه يستنتج النصُّ من ذلك ما أطلق عليه “موقف اللاموقف” أو “الإيمان الطبيعي” حول محاولة جادة للتفلسف التي ستنتهي بالانتقال النهائي نحو الأدب وهجر الفلسفة التي أدت إلى قلق روحي مُضاعف.

فالنص يعرض لتلك الحالة المتأرجحة بين الفهم وعدم الفهم ليكشف عنها في أدب محفوظ سواء كانت فى شخصية «كمال» أو تجلياتها في حوار شبه تواصلي – في رواية “اللص والكلاب”- بين سعيد مهران (اللص) وعلي جنيدي (المتصوف) القائم على المادية الكلية والمعنوية الشمولية؛ أي أنه يطرح لثنائية المصلحة/ القيم.

وعليه يرى النص في أدب محفوظ تلك المساحة التي تعكس ضيق حيز الفلسفة ورحابة الحيز الأدبي لطرح تصوراته عن أصل الكون وسؤال الألوهية المستند إلى فلسفة برجسون التي ترى العقل بعين الفلسفة وليست الفلسفة بعين العقل؛ لأنها تؤمن في الحدس المتجاوز للعقل المتغلغل في أطراف الحياة المعقدة.


جماليات الثورة الإيرانية

يرغب النص هنا في تقديم محاولة فهم للثورة الإسلامية في إيران من خلال أعمال الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو لتلك الثورة؛ أملًا في وجود تصورات عن تساؤل «لماذا ينبغي مقاومة السيطرة الغاشمة؟» فانطلاقًا من الفهم الفوكوي للحداثة على أنها موقف -وليست مرحلة تاريخية- قائم على الاختيار الطوعي لنمط الواقع الآني وترجمة ذلك الاختيار في شعور، تفكير، سلوك، ممارسات، وعلاقات الانتماء التي تنقسم إلى:

جماليات الحدث الإيراني تكمن في وجود مواجهة واحدة، وتكرارها في كل مساحة، بين «صوت المقاومة الشعبية /صوت الرشاشات والدبابات».

1. علاقة مع الزمان المستند إلى، بحسب تسمية فوكو: «الوجود البطولي للحاضر الحديث»، الذي يعمل على إعادة تشكيل الحاضر والانتباه إلى ما هو موجود وممارسة الفعل الذي يحترم الموجود وينتهكه في آن واحد.

2. علاقة مع الذات في الموقف الحداثي قائمة على –بحسب ما أوضحه النص- التأنق والانضباط الذاتي؛ فالإنسان الحديث ليس من يكتشف ذاته، بل من يُعيد اختراعها.

وعليه يقترب النص من منطلق الموقف النقدي الفوكوي للحداثة من تعريف كانط للتنوير، حيث يقوم ذلك النقد بالارتباط مع السياق التاريخي للمجتمعات الغربية الذي يعمل في سبيل إخضاع الأفراد عن طريق إعادة خلق ذواتهم على النحو الذي يعزز من ميكانيزمات القوة التأصيلية للحقيقة، وهذا ما يسعى فوكو لتفكيكه عبر وضعه لثنائية فن الحكم /فن العصيان، فتلك الثنائية تعمل على تذويب عملية “خضوع الذات”، وذلك يمثل لبّ النقد الفوكوي، بهدف جعل ما هو مُعطى باعتباره جبريًّا كونيًّا يتحول إلى واقعه الحقيقي باعتباره فرديًّا تعسُّفيًّا، ومن ثم تتحدد عبر ذلك التحركات والأشكال اللازمة للتغيير من تلك الميكانيزمات.

كما تعمل بنية النص على محاولة فهم الرابط بين «التنوير» و «الثورة الكانطية» من خلال أنطولوجيا الحاضر الفوكوية؛ فالفهم الفوكوي للحظة الحاضرة يعني العلامة التي تتسبب في تأثير معين مع عزل الحدث المرتبط بتلك العلامة، وعليه يرى فوكو –وفقًا للنص- أن الثورة هي الحدث الذي يحظى بقيمة العلامة التي تتحول إلى “مشهد” يُشارك فيه أو يُشاهد أو ينساب البعض بداخله، وهذا ما يجعل من الثورة أنطولوجيا الحاضر، وعليه انجذب فوكو للثورة الإيرانية كحدث جمالي يطرح معايشة جديدة ومختلفة للوجود.

من ثم يبدأ النص بعملية إسقاطية على مفهوم المقاومة الفوكولي والجانب الخفي للتحديث في المجتمع الإيراني، فالمجتمع الانضباطي الفوكوي يتفكك بتفَرُّط مراكز السلطة، والظهور المركب لعلاقات العصيان التي تصرح عن أزمة في الحكم، فليس هناك علاقات قوة إلا ووُجدت المقاومة؛ وعليه، فجماليات الحدث الإيراني تكمن في وجود مواجهة واحدة، وتكرارها في كل مساحة، بين «صوت المقاومة الشعبية /صوت الرشاشات والدبابات». فذلك المشهد هو نتاج إخفاق الدولة الإيرانية في عمليات التحديث القومية، وإضفاء العلمنة على مجتمع ما زال ينشئ مُدنه على أساس سوسيولوجي إسلامي، مع وجود للفساد والاستبداد والتبعية، سطحية المؤسسات السياسية الحديثة بما فيها «مؤسسة الجيش» الذي تميَّز بتفكُّك قاعدته الاجتماعية وغياب لدوره التنموي وافتقاره لهيكل اقتصادي صلب رغم ابتلاعه معظم العوائد النفطية للبلاد. وقد عَمِلت الثورة القائمة على العوام على صهر هوية الجنود في هوية الثورة حين أبتْ المؤسسة الأكثر تحديثًا سحق صوت المقاومة الذي اكتشفت أنه يعبّر عنها.

كما يعرض النص لتفاصيل تحركات المُدن في الثورة الإيرانية بعين فوكو الذي وجد في ذلك الحدث للنظام الحقيقي المتمثل في الإسلام، وكيف شكّل «المسجد» حالة الدعاية المضادة للنظام التي تعمل على تكثيف الذاكرة الجمعية المناهضة لسلطة صاحب السيادة والتأسيس للروحانية السياسية للإسلام التي لاقت استغرابًا من جانب الكثير من المفكِّرين الغربيين.


الدلالات السياسية لمفهوم اللوجوس الفيلوني

ينطلق النص في ذلك الفصل من إشكالية العلاقة بين التنظير والحركة وما يتولد عنها من اتجاهات شارحة لتلك العلاقة، فمنها من وجد في عالم الأفكار كيانًا يطوف في فُلك متمايز ويمكن التعرف عليه من خلال الدراسات الجينالوجية. وهناك من يرى أن الأفكار هي القناع الذي يعكس مصالح الواقع، وعليه يتساءل النص حول العلاقة بين التصورات الفيلونية وارتباطها بالواقع السياسي والاجتماعي، لا سيّما وأن فيلون يعبّر عن الاتجاهات الفكرية اليهودية.

شكّل اليهودُ أزمةَ «الاندماج القومي» بخلقهم لثقافة الغيتو.

وعلى غرار المنهاجية المنهايمية (نسبة لكارل مانهايم) لسوسيولوجيا المعرفة القائمة على تحليل الوضعية التاريخية المستندة على فهم الطبقة الاجتماعية والجيل، يقترب النص من الوضعية التاريخية لفيلون القائمة على سوسيولوجيا المدنية كوحدة تحليلية للفكر الفيلوني. فيرى النص في جذور مدينة الإسكندرية ما يجعلها كوزموبوليتانية وليست على نمط دولة المدينة اليونانية، حيث زخرت بالثقافات والعلوم والجنسيات ومدرسة تقوم على الدمج بين العلمية والصوفية الروحية المعززة من توفيقية التفكير. ومن هنا يبرز فلسفة فيلون التي تجمع بين المدينة والطائفة.

في ذلك السياق التاريخي شكّل اليهودُ أزمةَ «الاندماج القومي» بخلقهم لثقافة الغيتو. يرجع ذلك لافتقادهم حقوق المواطنة، وعليه ظهر تيار يهودي متعصب انغلاقي، وآخر توفيقي اندماجي، كما حصل في مدينة الإسكندرية.

فاستنادًا على ما سبق، يرى النص أن الهدف من المشروع الفكرى الفيلوني هو إثبات أن اليهودية هي الحكمة الحقيقية، وذلك من خلال منهاجيته التوفيقية بين الكتاب المقدس والفلسفة اليونانية تجنبًا للصدام مع هيمنة الأخيرة على التفكير العام في عصره، وهذا ما جعله يتخذ «منهج التأويل الرمزي» –يوناني الأصل- لتبسيط حقيقة الله والتوفيق بين «النصوصيين المتشددين» ضد الهرطقة الرمزية، و«الرمزيين المتحررين» من الأرثوذوكسية الحرفية.

وعليه يحفر النص لبنية العمران المفاهيمية الفيلونية التي تتخذ من مفهوم «الله» مفهومًا مركزيًا، يتفرع منه مفهوم «العالم» المخلوق من العدم حيث يقترب فيلون من تصميم المدينة العملاقة من خلال العقل الهندسي لفهم العقل الإلهي في الخلق وليس مجرد التصميم؛ إلا أن الارتباك يقع في استحالة التلامس بين الإله والمادة، وهنا يتوسط مفهوم «اللوجوس» للتقويم من تلك المعضلة عبر جعله الوسيط (الأداة) بين الله والعالم.


الثورة المصرية والتأسيس الفلسفي: ابن رشد وجمهورية أفلاطون

يهدف ذلك الفصل إلى فهم دور الأنماط الفكرية التاريخية للفلسفة في تشكيل الحدث الثوري. وعليه يُسكن النص مفهوم الثورة في التصورات الفلسفية المتباينة بدءًا من الرفض الأرسطي والأفلاطوني للثورة في ظل السياق الطوباوي الكلاسيكي، انتهاءً بالموافقة الماركسية للعمل الثوري القائم على الطوباوية الحديثة الدامجة بين المثال والواقع. كما يتطرق النص إلى الوسطية الكانطية عن الثورة، حيث يعمد إلى التصور الفوكولي عن «اللحظة الحاضرة/ أنطولوجيا الحاضر» التي تُعنى بـ: قضية الدور وموضع الذات مما يحدث، وقضية الهوية التي تعني الـ «نحن» المُعللة للواقع في ظل الجمع الثقافي.

ما وقع في المشهد المصري هو هدم بعض أركان السلطة، وليست الإطاحة ببنية السلطة؛ ويرجع ذلك إلى الافتقاد لعمق التغيير واتساع نطاق التغيير.

وعليه يحاول النص استملاك مفاتيح الفهم لتلك اللحظة لإسقاطها على الحدث الثوري المصري من خلال تفكيك بنية العلاقات بداخل المتغيرات التي تُشكل لتلك اللحظة. كما فرق النص -وفقًا لكانط- بين الثورة كحدث وكمشهد، وهذا ما عززه تعريفات كل من فوكو وباومان للثورة القائمة على الإيمان بالتغير الراديكالي في الخبرات، المدركات، الممارسات، وبنية العلاقات النظمية. وهذا ما يدفع النص إلى المحاججة أن ما وقع في المشهد المصري هو هدم بعض أركان السلطة وليست الإطاحة ببنية السلطة أو حتى تغييرها؛ ويرجع ذلك إلى الافتقاد لعمق التغيير واتساع نطاق التغيير.

كما ينطلق النص نحو منهاجية القراءة –كنوع من أنواع المقاومة لمصادرة حرية الفكر- القائمة على سوسيولوجيا الفلسفة الموسعة من العلاقة بين الفكر والمجتمع، حيث يقترب من القراءة الرشدية للأقنعة الأفلاطونية في الجمهورية المستندة على “التأمل الانعكاسي” للذات والواقع ثم الولوج إلى “معكوس التأمل الانعكاسي” لقياس المسافة بين الواقع والمثال. كما يوضح النص أن تلك القراءة تعمل على فك الارتباط بين الشكل والمضمون مع إعادة هيكلة المحتوى العلمي المتواجد بداخل المنهج الحواري الأفلاطوني ثم القيام بعملية التوطين لتقاليد الفلسفة الكلاسيكية، وهذا ما أسهم -حسب وصف النص- في استيراد وليس تأصيل لفكر فلسفي في التربة العربية والإسلامية رغم حرص القراءة الرشدية على توفيق العلاقة بين المثال الأفلاطوني والشريعة الإسلامية.

يحاول النص فهم التلخيص الرشدي لجمهورية أفلاطون بدءًا من عرضه لنظام الحكم الأمثل الذي يشكل ذروة التأمل الانعكاسي، مرورًا بتكسير الفجوة بين الواقع والمثال بإقامة تماثل بنيوي بين النفس والمدينة والنظر في ماهية العدل، انتهاءً بالإضافات الرشدية للتأويل الأفلاطوني بما يتفق مع الشرع دون محاولة إسقاط ذلك على واقع المدن الأندلسية.


مفهوم الحوار في التصور المقارن بين «قنواتي» و«سكاتولين»

يهتم هذا الفصل بالتعرض لمفهوم الحوار. يعتبر النص مارتن بوبر من أهم المتناولين لمفهوم الحوار من خلال تأكيده على عدم فردانية “الأنا” أينما تتداخل في علاقة ثلاثية: «العلاقة مع الطبيعة» ذات طابع محدود، «العلاقة مع الناس» ذات طابع متسع الحوار، و«العلاقة مع الكائنات الروحية» ذات الطابع المولدّ للحوار ذاته.

كما يصنف بوبر وفقًا لطبيعة الموقف، نوعين من تجسيد «الأنا» وهما: (الأنا-الذاك) تقوم فيها الأنا كذات فاعلة مجردة متباينة عما يحيطها من ذوات. و(الأنا-الأنت) تقوم فيها الأنا كشخص يدرك ذاته كفاعلية بنيانها ذو طابع تبادلي تضامني. وهذا ما يُؤسس لفكرة الحوار بين الحضارات والثقافات، حيث يفرق بين الحيز الثقافي والعلاقة التبادلية مع الآخر الثقافي باعتباره «الأنت».

انطلاقًا مما سبق، يبدأ النص في النظر إلى الأفق الزمني لفكرة الحوار، أطراف، وعملية الحوار من منظور مقارن لكل من جورج قنواتي وجوزيبي سكاتولين. فرغم تعاصرهما إلا أن لكل منهما خصوصية في فهم الزمن، فيحاجج سكاتولين بأن خطر الحاضر متجسد في «التكنولوجيا المتغطرسة» المفسدة للتماهي بين الوجود البشري والطبيعي، في حين يشعر قنواتي بخطر الحاضر المتجسد في الصراعات والحروب النووية، العنف، المجاعات، الانقلابات العسكرية، والتشرد في العالم الثالث. وعليه يتفحص النص طبيعة التباينات بين التصورين القائمة على رؤى مختلفة للبنية التاريخية لديهما، ففي حين يتميز الخطر القنواتي بالطبيعة السياسية، يتحدد نظيره السكاتوليني بالطبيعة الوجودية.

يستمر النص في استدعاء مفاصل المقارنة في أطراف وعملية الحوار حينما يوضح الرؤية القنواتية القائمة على التعددية الثقافية وتدارك التقارب الإسلامي-المسيحي المعزز بالتلاقي الأخوي بين البشر من خلال دور الكنيسة. بينما الرؤية السكاتولينية فإنها تعدو في سبيل التأصيل الذاتي النظري لمفهوم الحوار المستنِد إلى مفهوم اللوجوس القديم المكون من رؤيتين، وهما: «اليونانية» القائمة على الوجود، الفكر، والكلمة، و«الكِتابية» القائمة على الانتقال من الحيز الدلالي إلى حيز العلاقة الشخصية بين الإنسان وخالقه (تلك الأنت-الأبدية). ومن هنا يرى النص أن الرؤية السكاتولينية اتخذت من اللوجوس محلًا لتأسيس الحوار الوجودي الناظر للإنسان ككائن حواري، وهذا ما يجعل عملية الحوار تقوم على «وجه الله» المتسامية بالتيارات البشرية.

كما يطرح النص أنه رغم ضبابية الاعتراف بالدور الكنسي في تحقيق ذلك لدى التصور السكاتوليني إلا أنه –أي التصور- على إدراك كامل بدور الإطار المؤسسي الديني في التعزيز من عملية الحوار بين الأديان. كما يختتم النص بطرح تساؤل حول أي من الرؤيتين أقرب إلى التأصيل لفكرة الحوار المتآخي على المُتصل الحضاري؟، وأيهما كرسّ للطابع التبادلي مع الآخر الحضاري؟، وهنا يضع النص رؤيته الضمنية حول ذلك.


الوعي الذاتي الحضاري: قراءة مقارنة في التصور الجعيّطي

ينطلق النص بتصوير مسرحي بين «أسطورة الكهف» لأفلاطون، و«المرايا في المقهى» لطهطاوي. فكلاهما يشكلان خبرة؛ إلا أن الأولى طوباوية والأخيرة واقعية. تقوم خبرة كليهما على السعي للوعي الذاتي، ففي حين تتطلب الأولى الانتقال لخارج الكهف لتصحيح رؤية الذهن، بينما الأخيرة تمتلك إمكانية التصحيح من خلال التأمل الانعكاسي في المرايا من الداخل دون الحاجة للخروج. ومن هنا تتمثل أطروحة النص في “الوعي الحضاري بالذات الحضارية” من خلال “فلسفة المرايا” وذلك بالقراءة في تصور جعيّط تونسي الموطن.

ينتهج النص منهاجية النظر في التصورات المختلفة حول همّه بـ «الوعي الذاتي». بدأ من قراءة ألبرت حوراني للمفهوم في تصور الأفغاني ومحمد عبده من خلال مقاربتهما نحو مفهوم الحضارة لفرانسوا جيزو القائمة على التنمية الاجتماعية والفردية، ويستخلص –أي حوراني وفقًا للنص- أن التصور الأفغاني دعا لإعمال العقل للتوفيق بين العلوم الغربية والتراث الديني، إلا أنه أعطى الأولوية للتنمية الاجتماعية ووحدة الأمة الإسلامية. وذلك بخلاف تلميذه عبده الذي أَوْلَى التنمية الفردية والعقل الصدارة، ثم قراءة حسن حنفي للمفهوم في تصور جعيّط، فانطلاقًا من أنه ليس هناك فلسفة عامة وفقًا لحنفي، فإن الموقف الحضاري لعصره يتسم بالتصحّر الإبداعي، والاقتصار على الترجمة والتجميع للمعرفة الغربية، والنظر للتراث من منظور استشراقي. وعليه يرى النص أن قراءة حنفي لجعيّط تأتي عبر «نظرية الدوائر الثقافية الأربع المتداخلة» التي تُوقع جعيّط في شِباك «طغيان أنا الآخر»، فيتوقف فهم الذات على الآخر المُضخَّم.

ثم ينتهي النص إلى قراءة الوعي الذاتي لدى جعيّط دون قراءات وسيطة أخرى، وعليه يرى أن الوعي الحضاري الجعيّطي يتأسس على مفهوم التنوير كظاهرة ثقافية أوروبية تقوم على النقد المزدوج المناهض للدين والسياسة (في صورة الحكم المطلق)، والمؤيدة للعقل النهضوي. ومن هنا –كما يصل النص- يتسع مفهوم التنوير الجعيّطي ليصير معيارًا للحكم على التطور التاريخي الإنساني بأكمله، حتمي المنحى في تقدمه نحو الحداثة باعتبارها المحطة الأخيرة من التطور البشري.

كما يطرح النص –وفقًا لفلسفة المرايا- عملية التمرئي الجعيّطية الرباعية وهي (المرايا القروسطية والحديثة/ المثقفين الفرنسيين/ الباحثين الأوروبيين/ الفكر الألماني). فكل عملية قوامها الهوية تُصرح عن بنية الذات من خلال تصور الآخر النهضوي؛ مما ينتج عن ذلك فقدان أنطولوجي للأنا عن هويتها الذاتية (الاغتراب/ باثولوجيا الأنا) كما يُسميها هيجل.


الخاتمة: فهم الأصوليات

يتسع مفهوم التنوير الجعيّطي ليصير معيارًا للحكم على التطور التاريخي الإنساني بأكمله، حتمي المنحى في تقدمه نحو الحداثة باعتبارها المحطة الأخيرة من التطور البشري.

تأتي خاتمة النص لشرح أسباب عنونته بـ «الأصوليات»، واصفًا إياه بـ: الكذبة النبيلة، من خلال طرح ثلاث قراءات لنص «الفلسفة المصرية: شروط التأسيس» لـ عزت قرني. فالأولى تقوم على الإبداع التأسيسي المتطَلبِ لصيرورة فكرية ممتدة تظهر عبر التقسيم التفصيلي الداخلي للنص المفرزة لتعريف جديد للفلسفة ذاتها. وعليه يضع قرني تعريفه للفلسفة باعتبارها: «البحث في الأصول، على نحو عقلي شمولي»، ومن ثمّ يرى باحث النص أنه لا غضاضة في اعتبار الأصولية، العقلية، والشمولية من المكونات المنهاجية للفلسفة. بينما الثانية تتغلغل في المستوى الوسيط لعمق النص بالتعامل معه كوحدة واحدة. في حين تضع الثالثة والأخيرة الغاية القائمة على الارتطام بقاع النص الذي تتأرجح عليه التصورات والتيارات النظرية، وهنا تظهر إمكانية الكشف عن «المسكوت عنه» في بنية النص التي تحدد نظمية الحقيقة بداخله. أخيرًا، يوضح باحث النص الغاية العليا من «الأصوليات» وهي تغيير النظرة للعالم.