يقع النفط الخام الآن تحت تأثير التوتر الجاري في الشرق الأوسط من ناحية، والمخاوف من تداعيات الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين من ناحية أخرى. ومن المرجح أن ينجذب السوق إلى إحدى القوتين في المستقبل القريب استنادًا إلى تلك العوامل التي تُمارِس مزيدًا من التأثير على الأسواق.

وفي ظل التوازن الهش في السوق، فإن أي تطور جديد بين الولايات المتحدة وإيران من جهة والولايات المتحدة والصين من جهة أخرى، سيكون لديه القدرة على إرسال أسعار النفط 10 دولارات للبرميل في أي من الاتجاهين الهبوطي أو الصعودي.


تأثير العوامل الجيوسياسية

شهدت أسعار النفط ضغطًا صعوديًا خلال الفترة الماضية، وسط نية الحكومة الأمريكية الاندفاع نحو حرب أخرى في الشرق الأوسط، وذلك بعد قرار ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، وما تلاه من فرض عقوبات جديدة على صادرات المعادن والنفط الإيراني، ومؤخرًا، إرسال الأسطول العسكري الأمريكي إلى مياه الخليج العربي، وكل تلك الحركات هدفها الرئيسي هو زيادة الضغط على إيران.

وقد ذكرت صحيفة وول ستريت جورنال في 16 مايو/آيار: «أن المعلومات الاستخباراتية التي جمعتها الحكومة الأمريكية تُظهر أن قادة إيران يعتقدون أن واشنطن تُخطط لمهاجمتهم، مما دفع طهران إلى الاستعداد لشن ضربات مضادة محتملة»، كدليل على تهديد وشيك من إيران. وباختصار، تلعب إدارة ترامب لعبة خطيرة، وذلك لأن أي مناورة خاطئة أو سوء تفسير للتحركات الأخيرة يمكن أن يؤدي نظريًا إلى اندلاع الحرب.

وكان هناك الكثير من الحديث عن حرب إيران في الأسابيع الأخيرة، لكن احتمال نشوب حرب، سواء عن قصد أو غير قصد، ظل محدودًا بشكل نسبي، لسبب بسيط وهو أن قادة إيران والولايات المتحدة لا يريدون الحرب. بينما يتمثل جوهر حملة الضغط التي اتخذتها إدارة ترامب في فرض عقوبات اقتصادية على إيران في «تخفيض الإيرادات»، لإجبار إيران على التفاوض على «صفقة جديدة»، تُنهي بموجبها أنشطتها النووية وبرنامج الصواريخ الباليستية، مع توفير ردع عسكري كافٍ لمنع طهران من شن هجوم على القوات الأمريكية وحلفائها في المنطقة.

وعلى الرغم من أن العقوبات الأمريكية على صادرات النفط والمعادن الإيرانية من غير المرجح أن تُحدث تغييرًا في النظام، إلا أنها ستجعل من الصعب على إيران تعزيز مكاسبها الإقليمية والحفاظ على مكانتها النفطية الإقليمية، حيث سيتعين على الحكومة إعطاء أولوية للإنفاق المحلي على حساب الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي. ببساطة، العقوبات تجعل من الصعب على إيران تحقيق انتصارات إضافية على الصعيد الاقتصادي والسياسي معًا.

وفي حين أن المضاربين على الهبوط قد يكونون مسئولين عن الانخفاض في الوقت الحالي، إلا أن ارتفاع أسعار النفط الخام بشكل كبير هو احتمال لا يزال قائمًا، بسبب انخفاض الصادرات من إيران وفنزويلا والتوتر الجيوسياسي في الشرق الأوسط. ومن المرجح أن تنخفض صادرات إيران من النفط بشكل أكبر في النصف الثاني من العام الجاري، وقد تنخفض الشحنات الفنزويلية مرة أخرى في الأسابيع المقبلة بسبب العقوبات الأمريكية. كذلك أجبر التلوث النفطي روسيا على وقف التدفقات على طول خط أنابيب دروزبا -وهو ممر رئيسي للنفط الخام إلى أوروبا الشرقية وألمانيا- في أبريل/نيسان الماضي، تاركًا مصافي التكرير للبحث عن إمدادات.

وتبلغ صادرات إيران الآن 400 ألف برميل يوميًا فقط من مليوني برميل يوميًا قبل عام. وقد ينخفض ​​إنتاج فنزويلا إلى النصف من 700 ألف برميل في اليوم إذا فرضت الولايات المتحدة المزيد من القيود، حيث تخضع فنزويلا وصناعة النفط هناك للحصار الاقتصادي والمالي من قبل واشنطن.


تصعيد الحرب التجارية

في الوقت نفسه، تُثير المعركة الجمركية الطويلة بين الولايات المتحدة والصين مخاوف بشأن تباطؤ الاقتصاد العالمي وتراجع معنويات السوق. وتُشير الدلائل إلى أن الاقتصادات الآسيوية قد تضررت بالفعل من جراء الصراع التجاري مما يجعل الخام أكثر تكلفة، ومن ثَمَّ تتراجع معدلات الطلب وهو ما يؤدي بدوره إلى انخفاض الأسعار.

ويُذكر أن الرئيس دونالد ترامب قام برفع التعريفات الجمركية على حزمة من البضائع الصينية إلى 25% من النسبة الحالية البالغة 10%، وفرض ضرائب جديدة على جميع الصادرات الصينية تقريبًا إلى الولايات المتحدة. وأدى هذا القرار إلى اضطرابات في وول ستريت مع عمليات بيع مُكثفة مدعوة بمزيد من المخاوف من أن تُصبح الحرب التجارية طويلة الأمد، وذلك بعد أن كان المستثمرون في الآونة الأخيرة متفائلين بحذر من أن الجانبين يمكن أن يتوصلا إلى اتفاق.

وسبق أن فرضت واشنطن التعريفة الجمركية على بعض السلع الصينية المباعة في الولايات المتحدة لمدة عام تقريبًا، كجزء من النزاع المستمر حول التجارة. وفرضت إدارة ترامب تعريفة بنسبة 25% على 50 مليار دولار من منتجات التكنولوجيا الصينية في يونيو/حزيران 2018، والتي تغطي سلع الفضاء والسيارات وتكنولوجيا الاتصالات والروبوتات، في محاولة لعرقلة مبادرة بكين «صنع في الصين 2025» لتعزيز قاعدة التصنيع والتكنولوجيا.

بعد ذلك، فرض البيت الأبيض تعريفة بنسبة 10% على 200 مليار دولار من البضائع في سبتمبر/أيلول 2018، على مجموعة واسعة من المنتجات بما في ذلك المكونات الغذائية ومواد البناء وقطع غيار الدراجات وأجهزة الإنذار ضد السرقة. وهذه هي التعريفات التي يمكن زيادتها إلى 25%. وردت الصين بتعريفة تبلغ قيمتها 110 مليارات دولار على السلع الأمريكية بما في ذلك المنتجات الزراعية مثل فول الصويا، وكذلك السيارات والحقائب والإلكترونيات والأدوات المنزلية والمواد الغذائية.

كذلك أعلن ترامب، بنهاية مايو/أيار الماضي 2019، أنه سيفرض تعريفة بنسبة 5% على الواردات المكسيكية بحلول 10 يونيو/حزيران الجاري، إذا لم تفعل الدولة المزيد للحد من المهاجرين غير الشرعيين الذين يدخلون الولايات المتحدة. وبحلول أكتوبر/تشرين الأول 2019، من المقرر أن ترتفع الرسوم الجمركية إلى 25% إذا لم يتمكن المكسيكيون من وقف التدفق من أمريكا اللاتينية.

وتعتبر المكسيك شريكًا تجاريًا حيويًا للولايات المتحدة، كما أن سلاسل التوريد الخاصة باقتصاد البلدين في قطاع السيارات متكاملة للغاية. ويبدو أن الخطوة الأخيرة التي قام بها ترامب تفصل التجارة عن الدوافع الاقتصادية وبالتالي تُفزع أسواق المال والأسهم، التي أدت إلى إلحاق الخسارة بجميع القطاعات الاقتصادية في الأيام الأخيرة، والذي كان له تأثير مدمر على أسعار النفط.

وقد كتب بنك أوف أمريكا ميريل لينش، في مذكرة للعملاء:

تباطأ نمو الطلب العالمي على النفط بشكل حاد في الأشهر الأخيرة، حيث بلغ متوسط النمو 680 ألف برميل يوميًا في الربعين الماضيين فقط مقارنة بنمو الطلب بنحو 1.46 مليون برميل يوميًا في السنوات الخمس الماضية.

وأشار البنك إلى ضعف نشاط الصناعات التحويلية في الولايات المتحدة والصين وألمانيا، وهو ما أدى إلى ضعف الطلب على نواتج التقطير.


المسار الصعودي للأسعار

ارتفعت أسعار خام برنت بنسبة 34% عام 2019، كما ارتفع سعر خام غرب تكساس الأمريكي بشكل ملحوظ، بزيادة 39% على أساس سنوي. وكانت العوامل الرئيسية الدافعة لارتفاع أسعار النفط في عام 2019 هي المخاوف الجيوسياسية المتزايدة في أماكن مثل الشرق الأوسط وفنزويلا، مما تسبب في قلق من أن هذه القضايا السياسية ستعطل إنتاجها.

ومن المُقرر أن تجتمع منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك) في فيينا يومي 25 و26 يونيو/حزيران الجاري. فإذا قررت أوبك في اجتماعها حجب الإنتاج عن بقية عام 2019، فقد يؤدي ذلك إلى ارتفاع الأسعار مرة أخرى. وأيضًا، يصادف شهر يونيو/حزيران موسم الأعاصير وبداية موسم الصيف في الولايات المتحدة، مما يؤدي إلى ارتفاع الطلب. وأيضًا أدى التوتر المتزايد في الشرق الأوسط والممرات المائية الناقلة لناقلات النفط في المنطقة إلى عودة بعض المحللين والبنوك الاستثمارية للحديث عن وصول سعر خام برنت إلى 80 دولارًا أو 90 دولارًا أو حتى 100 دولار للبرميل، مقارنة بالمستوى الحالي حول 72 دولارًا للبرميل.

ومع ذلك، يعتقد بنك «جيه بي مورغان» أن عودة المخاطر الجيوسياسية في أسعار النفط يمكن أن تكون فقط على المدى القصير، حيث يستمر إنتاج الصخر الزيتي في الولايات المتحدة في الزيادة، في حين أن الطلب العالمي على النفط قد يتعثر وسط حالة عدم اليقين في الاقتصاد العالمي. وحتى إن نجحت الولايات المتحدة والصين في تسوية نزاعهما التجاري، فقد تؤدي حادثة واحدة في منطقة الشرق الأوسط المتوترة إلى ارتفاع أسعار النفط إلى 100 دولار.


المسار الهبوطي للأسعار

يتوقف مسار أسعار النفط الخام إلى حد كبير على ما سيحدث لاحقًا مع الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، حيث يُمكن أن تجعل الحرب التجارية الأمور أسوأ من ذلك، وقال بنك أوف أمريكا إن التعريفات قد أثرت على «بعض جيوب الاقتصاد العالمي»، وتزيد المخاطر السلبية على النفط الخام من حقيقة أن المضاربين قاموا بشراء كميات ضخمة من المراكز في النفط، مما قد يؤثر على الأسعار على المدى القصير.

وتجدر الإشارة إلى أن تقلب الأسعار -في ظل التوترات السياسية- كان منخفضًا إلى حد ما، وهي ميزة مدهشة في ضغوط السوق الضخمة مع المخاطر الجيوسياسية. حيث ظل خام برنت عالقًا بين نطاق ضيق نسبيًا بين 70 و75 دولارًا للبرميل لأكثر من شهر، على الرغم من الاضطرابات.

وكتب محللون في بنك أوف أمريكا: «في حالة حدوث ركود عالمي، قد يهبط برنت إلى 50 دولارًا للبرميل». ومن ناحية أخرى، يقول بوب ماكنالي، رئيس مجموعة رابيدان للطاقة، إن الحرب التجارية بين الصين وأمريكا وضعف الاقتصاد العالمي يمكن أن يؤديا إلى انخفاض أسعار النفط بما لا يقل عن 15 دولارًا.

ويأتي أكبر مصدر لعدم اليقين في الأسواق من جانب الطلب؛ حيث تهدد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين النمو العالمي في وقت لا تبدو فيه المؤشرات الاقتصادية رائعة. وفي نهاية المطاف، فإن الانكماش الاقتصادي من شأنه أن يُخفّض الأسعار.

وتُشير التوقعات إلى نمو الطلب العالمي على النفط بحوالي 1.2 إلى 1.4 مليون برميل يوميًا في عام 2019، وفي ظل تدني مستويات الطلب على النفط من غير المرجح أن ترتفع أسعار النفط إلى مستويات شهدتها في وقت سابق من هذا العام، إذ يمكن سد أي فجوة في العرض من قبل أوبك وإنتاج النفط الأمريكي الوفير. ولن يأتي الضعف من الطلب على النفط من الصين فقط، فاستنادًا إلى أحدث البيانات المتاحة، انخفض الطلب الأوروبي على النفط بمقدار 0.7 مليون برميل يوميًا في مارس/آذار الماضي مقارنةً بنفس الشهر من العام الماضي.

وفي الوقت الذي تدرس فيه أوبك ما يمكن وما يجب عليها فعله لدعم الأسعار، فإن نمو الإنتاج الأمريكي -على الرغم من التوقعات السلبية في بعض الأوساط- مستمر. ووفقًا لإدارة معلومات الطاقة الأمريكية EIA، ارتفع إنتاج أمريكا من النفط بمقدار 97 ألف برميل يوميًا إلى مستوى قياسي مرتفع بلغ 12.3 مليون برميل يوميًا للأسبوع المنتهي في 24 مايو/آيار الماضي. ومن المحتمل أن يستمر هذا النمو، إذ تشير دراسة حديثة إلى أن منتجي النفط الصخري في الولايات المتحدة يميلون إلى زيادة الإنتاج بنسبة 16% في عام 2019.

وهذا بدوره يفرض على أوبك مواجهة معضلة كبيرة في حصتها في الأسواق إذا ما اختارت الحفاظ على تخفيضات الإنتاج المستمرة البالغة 1.2 مليون برميل يوميًا بالتنسيق مع 10 من المنتجين من خارج أوبك بقيادة روسيا.

وهناك توقعات تقول بأن أسعار النفط الخام من المرجح أن تبقى بالقرب من 70 دولارًا للبرميل في الفترة المتبقية من العام الجاري 2019، حيث أدت مخاطر الإمداد المرتفعة في الشرق الأوسط إلى تعويض مخاطر الطلب من الخلاف التجاري بين الولايات المتحدة والصين. وتوقع استطلاع شهري -أجرته وكالة رويترز الإخبارية- شمل 43 من الاقتصاديين والمحللين أن يبلغ متوسط ​​سعر خام برنت 68.84 دولارًا للبرميل في عام 2019.


تراجع الأسعار: المسار المُرجح

يشير مدى الاضطرابات في التوقعات والتحدي المتمثل في التنقل بين المسارين الصعودي والهبوطي لأسعار النفط -في ظل الظروف الحالية- إلى أن سوق النفط أصبحت الحدث الأهم على الساحة العالمية. فعلى مدار الأسبوع قبل الماضي، اتجهت أسعار النفط إلى الارتفاع، حيث طغت المخاوف بشأن تصاعد المواجهات بين الولايات المتحدة وإيران على مخاوف الجانب الهبوطي بشأن الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين وتباطؤ النمو الاقتصادي العالمي. وبدءًا من يونيو/حزيران الجاري عزمت أسعار النفط على الهبوط في ظل تصعيد الخلافات التجارية بين أمريكا والصين من جهة وأمريكا والمكسيك من جهة أخرى.

ولأن النفط قصة ليست متعلقة بالعرض فقط، لكنها تتوقف أيضًا على معدلات الطلب، فإن المخاوف بشأن النمو الاقتصادي العالمي تزيد من ضعف مستويات استهلاك النفط العالمي لتقل عن 100 مليون برميل يوميًا. وبالنظر إلى هذه الخلفية، فإن التنبؤات الصعودية، والتي استندت في البداية إلى التخفيضات التي أجرتها أوبك والدول غير الأعضاء في المنظمة والتي تم تمديدها حتى نهاية عام 2019، وأخيرًا على التوترات الجيوسياسية في الشرق الأوسط كانت أقل مما هو مطلوب لدعم المسار الصعودي للأسعار.

وفي المقابل، يبدو أن عوامل ضعف النمو الناجمة عن تباطؤ ألماني وصيني، والمخاوف بشأن طلب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وملاحظات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والتصعيد الأمريكي بفرض رسوم جمركية جديدة على الصين، كانت جميعها عوامل تحد بالفعل من أي صعود مرتقب في الأسعار، وإن كانت احتمالات عودة الأسعار لمستويات أقل من 50 دولارًا غير مرجحة مجددًا.