إن الذي يتحكم في درجة اعتمادك على القروض، ليس هو فقط مدى حاجتك إلى الاقتراض، أو مدى رعونتك أو حكمتك في إدارة شئونك، وإنما هو أيضًا مدى استعداد غيرك لإقراضك ومدى تلهفه على توريطك في الديون.
المفكر المصري جلال أمين

على المستوى الشخصي، قد تغرق في الديون لأنك شخص مُسرف تنفق هنا وهناك بلا حكمة وببذخ أحيانًا، كي تثبت لمن حولك أنك أفضل حالاً منهم، أو في نفس مستواهم، أو تثبت لنفسك أنه بإمكانك أن تعيش حياة الأغنياء. فتنفق في الكماليات وتحرم نفسك من أساسيات عيش حياة كريمة.

لكن ماذا إن لم تسدد ديونك؟

إما أن تعيش رهينة وتحت إمرة دائنك يأمر فتُطيع، أو تُحبس لأنك لم تستطع الإيفاء… هكذا ينطبق الحال على الدول… وهكذا كان حال مصر خلال مائتي عام من تاريخها الحديث وحتى يومنا هذا.


قصة «التنمية المدهشة» وخطيئة إسماعيل

كانت تجربة محمد علي (والتي استمرت من عام 1805 إلى 1840) في التنمية إجمالاً مُثيرة للإعجاب، وللدهشة في أكثر الأحيان. سر الدهشة أنه بعد تمكن محمد علي من تحقيق الاعتماد الذاتي، لم يكن يقبل القروض المشروطة مُطلقًا، إلا أنه لم يكن بمعزل عن الاقتصاد العالمي، بل حقق تلك التنمية المستقلة على ثلاثة أوجه تفتقر إليها مصر في الوقت الحالي:

  • حقق الاكتفاء الذاتي في الغذاء في عهده، فكانت مصر تُصدِّر فائضها من الأرز والقمح والفول والذرة، وتستورد في المقابل آلات وسفنًا ومدافع وحديدًا وخشبًا لسدد حاجات المصانع والجيش.
  • تمتعت مصر في عهده بدرجة عالية من القدرة على المساومة مع المُصدِرين، إذ كانت مصر في وضع يسمح لها بالحصول على أفضل الشروط لصادراتها ووارداتها نظرًا لنظام الاحتكار الذي طبقه محمد علي وجعل منه البائع الوحيد.
  • لم يسمح لنفسه بالتورط في الديون، فلم تمر مصر في عهده بعجز في ميزان المدفوعات إلا وأعقب ذلك فائضًا، ولم تُدخِل مصر قروضًا أو معونات إلا والتزمت بإيفائها.

وهنا نخرج بالاستنتاج الأهم؛ العبرة في درجة الاستقلال ليست بمدى استغناء الدولة عن التجارة الخارجية أو علاقتها بالعالم الخارجي، وإنما بمدى ما تتمتع به من قدرة على المساومة في علاقاتها الخارجية.

لكن ما لبثت أن وقعت مصر فريسة لحكام ضعاف، جاءت شخصياتهم منسجمة مع حاجة رأس المال الأوروبي، وأدخلت مصر في «دائرة جهنمية» أضاعت باستقلال مصر الاقتصادي والسياسي على السواء.

1. سعيد باشا

كان يوقع ما يُقدَّم إليه من ثائق دون أن يقرأها، بما في ذلك اتفاقية قناة السويس التي قدمها إليه ديليسبس، بل وحتى دون أن يستشير مستشاريه القانونيين، مرتكنًا إلى أن ديليسبس صديقه ولن يخدعه.
مما كتبه عن سعيد باشا

ما أن اعتلى سعيد باشا العرش عام 1854، حتى بدأ بالتورط في الديون. فبعد أقل من ثلاث سنوات شرع في التأخر عن دفع مرتبات موظفيه وعن دفع الجزية للسلطان، الأمر الذي دفعه للاقتراض من بعض البنوك الأوروبية، علاوة على إصداره لأذونات على الخزانة تترواح مددها بين ستة أشهر وثلاث سنوات بسعر فائدة من 15%-18%، وكان يستخدمها أحيانًا في دفع مرتبات الموظفين.

ولكن ذلك لم يكن كافيًا، فلجأ إلى القروض الخارجية، وحمّل مصر ديونًا وصلت مع موته عام 1863 إلى 8 ملايين إسترليني، مستحقة السداد خلال 30 عامًا، بالإضافة إلى مليون آخر واجب الدفع عبر ثلاث سنوات، وديون قصيرة الأجل تقدر بنحو 9 ملايين جنيه. كانت أغلب مشروعاته في خدمة الأجانب سواء حفر قناة السويس أو موقفه من التعليم؛ بإغداقه المعونات على مدارس الراهبات الفرنسية، وإغلاق مدرسة المهندسخانة ببولاق وديوان المدارس ومدرسة طب قصر العيني أحيانًا.

2. إسماعيل باشا

ورث إسماعيل باشا عن سعيد تركة ضخمة من الديون، لم يكن ليتعامل معها إلا بمزيد من الإنفاق والاستدانة سيرًا على خطى سعيد ومُكررًا لنفس أخطائه، فبلغت ديون مصر في عهده 91 مليون جنيه، وهو ما تسبب في خروج إدارة المالية المصرية عن سيطرته عام 1876 ووقوعها في يد المراقبين الماليين من الأجانب.

فقد كان جُل اهتمام إسماعيل منصبًا على مشروعات البنية الأساسية دون إحداث أي تغيير يُذكر في هيكل الاقتصاد المصري لصالح التصنيع، كما كان نمط الاستهلاك معتمدًا بالأساس على الاستيراد لتلبية حاجات الأنماط الاستهلاكية الجديدة بسبب ميل الأثرياء من المصريين إلى تقليد نمط حياة الأجانب المقيمين في مصر.

هناك اعتقاد شائع بين الناس،قدمته لنا المسلسلات الدرامية عن تلك الحقبة، وهو أن السبب في ديون إسماعيل باشا إنفاقه على مشاريع البنية الأسياسية، وبذخه وإصرافه على حاشيته فقط، لكن المعضلة الأساسية كانت فيما يتعلق بشروط الاقتراض ومختلف أنواع السمسرة والعمولات والمصاريف التي يتم اقتطاعها من القروض قبل تسليمها إلى مصر، إذ كانت قيمة القروض الأسمية من الفترة 1862 وحتى 1873 هي 68.5 مليون لم يستلم منها سعيد وإسماعيل إلا 46.6 مليون فقط، فقبول إسماعيل لهذه الشروط كانت خطيئته الأساسية.


الحرب العالمية الثانية تُحرر مصر من ديونها

كانت «حماية حقوق الدائنين» الحجة التي احتلت بها بريطانيا مصر، إذ عمد الاحتلال البريطاني إلى استغلال موارد مصر بأقصى شكل ممكن، فشهدت الثلاثة عقود الأولى للاحتلال البريطاني من 1882-1914 نموًا سريعًا موجهًا لخدمة الدائنين، تحولت مصر خلالها إلى دولة مصدرة لرأس المال بدلاً من أن تكون مستوردة له. ذلك النمو وصل لمعدلات لم تعرف مصر مثلها منذ محمد علي، فقد كان محور الاقتصاد المصري آنذاك هو الزراعة، إذ زادت المساحة المحصولية بنحو 60% خلال 1877-1913، وتضاعف إنتاج القطن إلى 3 أمثال وزادت قيمة صادراته بنحو 4 أمثال ما كانت عليه قبل الاحتلال.

لكن بكل أسف كانت تلك المكاسب لصالح الدائنين، إذ دفعت مصر 145 مليون جنيه لإنقاص مديونيتها، التي كانت تقدر بـ30 مليون جنيه، وذهب الباقي (115 مليونًا) في صورة فوائد.

طوال العشر سنوات التالية للاحتلال، لم تطرأ أي زيادة على حجم الاستثمارات، لأن الاستثمار الأجنبي الخاص كان ينتظر تحقق الاستقرار السياسي في مصر بعد ثورة عرابي وعزل الخديو إسماعيل، وكذلك إصلاح المالية المصرية. وما أن تحقق الاستقرار، قفزت الاستثمارات الأجنبية الخاصة (وحتى عام 1907) إلى 60 مليونًا بعد أن كان حجم الاستثمار لا يتعدى 6 ملايين في السنوات الأولى من الاحتلال.

وبعد ذلك شهد الاستثمار فترة تراخ، إلا أن مصر بعد نشوب الحرب العالمية الأولى استمرت في تحقيق فائض في ميزانها التجاري بلغ 139 مليونًا، لكن خدمة الديون استمرت هي الأخرى تستأثر بنصيب الأسد في استخدامات هذا الفائض.

وقامت الحرب العالمية الثانية، وخلال سنواتها حدثت نقطة التحول الأساسية في تطور ديون مصر الخارجية، إذ استطاعت مصر أن تسدد بقية ديونها، بل وأن تتحول إلى دولة دائنة، فتمكنت عام 1943 من تحويل ما بقي من ديونها الخارجية إلى دين محلي، الدائنون فيه هم المصريون والأجانب المقيمون بمصر، وذلك نتيجة لجهود وزير المالية آنذاك «أمين عثمان» الذي قدم مذكرة إلى مجلس الوزراء صوّر فيها تمصير الدين على أنه عمل من أعمال الكرامة الوطنية. ووافق المجلس على القانون، وعُرضت القروض التي سميت بالقروض الوطنية على الاكتتاب في نوفمبر/تشرين الثاني 1943، وغُطيت بكامل قيمتها. وبهذا تكون قد انتهت مرحلة طويلة من تاريخ المديونية المصرية التي استغرقت من تاريخ مصر الاقتصادي نحو 80 عامًا.


عبد الناصر: سنوات النهضة والديوان

يمكن القول إن تجربة جمال عبدالناصر الاقتصادية تقع فعليًا في الفترة بين حرب السويس 1956 وانتهاء الخطة الخمسية الأولى عام 1965.

فمصر ظلت منذ عام 1943 وحتى 1958 غير مدينة بشيء للخارج سوى ببعض المنح والقروض الضئيلة، التي لم يترتب عليها أي التزامات مالية، وذلك لأن مصر كانت لا تزال محتفظة بأرصدتها الإسترلينية المستحقة على بريطانيا.

إلا أن صورة ميزان المدفوعات المصري ومديونية مصر الخارجية قد تغيرت تغيرًا شاملاً خلال السنوات السبع التالية من 1959-1965، والتي تُوصف بسنوات التنمية «بالغة الطموح». ففي هذه الفترة ارتفع معدل الاستثمار من 12.5% إلى 17.8%، كما ارتفع مستوى الدخل الحقيقي للفرد لأكثر من 3% سنويًا، وزاد نصيب الصناعة والكهرباء من 17% في1958 إلى 23% عام 1965.

وبالرغم من ذلك، فقد قفز إجمالي الواردات السلعية من 558 مليون دولار إلى 824 مليون دولار، فلم تستطع إيرادات مصر من العملات الأجنبية أن تواجه الزيادة الكبيرة في الاستيراد. فزاد عجز ميزان المعاملات الجارية ثلاثة أضعاف ما كانت عليه في الفترة 1952-1958. ومن ثَمَّ كان لا مفر لمصر من اللجوء إلى الاقتراض بقيمة بلغت 800 مليون جنيه مصري؛ منها 300 مليون مساعدات غذائية من الولايات المتحدة، و500 مليون من الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية والمؤسسات الدولية.

وبدايةً من عام 1964/ 1965 لجأ عبد الناصر إلى الاقتراض قصير الأجل بأسعار فائدة باهظة، قالت عنها إحدى الدراسات:

وبوقوع حرب 1967، انتكس الاقتصاد المصري، ليس فقط بسبب توقف المعونات الأمريكية وتضاؤل المعونات الغربية في ذلك الحين، بل والمناخ العام الذي ساده الإحباط واليأس بعد الهزيمة. علاوة على الانخفاض الشديد في موارد مصر من العملات الأجنبية؛ فقد كان المصدر الأساسي للمعونات التي قُدمت لمصر في السنوات التي تلت الحرب هو البلاد العربية، إذ حصلت مصر على 286 مليون دولار بناء على اتفاقية الخرطوم الموقعة عام 1968 من السعودية والكويت وليبيا.

واستمرت حالة الركود الاقتصادي تلك إلى منتصف السبعينات، الأمر الذي تسبب في انخفاض شديد في معدل التنمية من 6% سنويًا إلى 3% في السنوات الثماني التالية 1965-1973. وبوفاة عبد الناصر، وصلت ديون مصر إلى حوالي 1.7 مليار دولار، وهو ما مثل نسبة لا تزيد على ربع الناتج القومي الإجمالي حينئذ.


السادات والسنوات العجاف

خلال الأحد عشر عامًا التي تولى فيها أنور السادات حكم مصر من 1970-1981، تضاعفت ديون مصر الخارجية أكثر من 8 مرات، فزادت من 1.7 مليار دولار إلى 14.3 مليار دولار، وهو الأمر العائد إلى:

  1. إطلاق حرية الاستيراد في كثير من السلع الضرورية وغير الضرورية، وخاصة في أعقاب حرب 1973. فتضاعفت الواردات من 89 مليونًا في 1973 إلى 260 مليونًا في 1975.
  2. الالتجاء المفرط إلى تمويل جزء كبير من العجز في ميزان المعاملات الجارية، بالاقتراض قصير الأجل باهظ التكلفة من البنوك التجارية، التي تجاوز سعر فائدتها في بعض الأحيان 15%.

لهذا سعى السادات إلى زيادة حجم المعونات العربية المقدمة لمصر عام 1975 و1976 لكن دون طائل، وذلك لأن حكومات دول النفط لم تكن قد تلقت بعد إيماءة الموافقة من الولايات المتحدة وهيئات المعونات الدولية بزيادة حجم معوناتها لمصر، الأمر الذي اضطر السادات إلى تشجيع الاستثمار الأجنبي وخفض القيود على الاستثمار، وتقديم أكبر تنازل سياسي بزيارته للقدس في نوفمبر/تشرين الثاني 1977.

ويُذكر أنه في ذات العام (1977)، أعلنت الحكومة السعودية قبولها المساهمة بنسبة 40% في رأس المال لتنمية مصر والبالغ قدره 2 مليار دولار. ومنذ ذلك الوقت، شهد الاقتصاد المصري فترة جديدة من الانتعاش استمرت حتى نهاية عصر السادات؛ إذ بلغ معدل النمو في الناتج المحلي الاجمالي في الأربعة أعوام من 1977-1981 ما بين 8% و9% سنويًا، وهو ما لم تحقق مصر مثله منذ الحرب العالمية الأولى.


مبارك وعهد الانكماش الاقتصادي

كان من شأنها أن تصيب بالدهشة الخديو إسماعيل نفسه.

في السنوات الأربع الأولى لحكم مبارك (1982-1986) انخفضت إيرادات البترول بنسبة 36%، وأصاب الركود مصادر الدخل الأخرى، كما انخفضت تحويلات المصريين العاملين في الخارج. لذلك، اختار مبارك الحل الأسهل وهو الاستمرار في السياسة الاقتصادية السابقة للسادات، الأمر الذي تسبب في زيادة قيمة الديون الخارجية طويلة ومتوسطة الأجل إلى 24.3 مليار دولار (بعد أن كانت 14.3 مليار).

واستمرت الديون في الزيادة في السنوات الثلاثة التالية بنسبة 21%، نتيجة انخفاض أسعار البترول. وفي ذلك التوقيت ارتفعت عدد الأقساط مستحقة الدفع والتي لم تكن مصر تمتلك أي موارد للوفاء بها، حتى قدمت ثاني أكبر تنازل سياسي، وهو الوقوف إلى جانب الولايات المتحدة ضد صدام حسين عام 1990. وبالفعل أعُفيت مصر من 50% من الديون على مراحل بشرط تنفيذ مصر توصيات صندوق النقد والبنك الدولي بما يسمى ببرنامج «الإصلاح الاقتصادي».

تأقلمت مصر على فكرة الديون، حتى أنه بعد ربع قرن من تولي مبارك لحكم مبارك لم تعد الديون مشكلة مطروحة على الإطلاق، مثلما كان في بداية عهده. فحجم الدين الخارجي عام 2004 لم يمثل أكتر من 31.2% من الناتج المحلي الإجمالي. وقد ظل حجم الاستثمارات الأجنبية في مصر خلال العشرين عامًا (1986-2004) ضئيلًا جدًا، حتى ارتفع فجأة ابتداءً من 2005 وقفز إلى ضعف ما كان عليه في العام السابق.

جاء ذلك بعد توقيع مصر لاتفاقية الكويز مع إسرائيل والولايات المتحدة في ديسمبر/كانون الأول 2004، فسعت الحكومة إلى تشجيع مزيد من الاستثمارات والخصخصة وتقليل تدخل الدولة في الاقتصاد أكثر من اللازم. وفي خريف عام 2008، أخذت الحكومة المصرية تهنئ نفسها لارتفاع معدل الناتج القومي خلال 2007-2008 إلى أكثر من 7% سنويًا، وارتفاع حجم الاستثمارات الأجنبية إلى 11 مليار دولار، وتسارع معدل الخصخصة حتى جلب 8.2 مليار دولار في العام الأخير. لكن مع وقوع الأزمة المالية العالمية عام 2009، تأثر الاقتصاد المصري كثيرًا، إذ انخفض حجم الاستثمارات الأجنبية الخاصة وحجم الصادرات السلعية وغير السلعية.

الاستنتاج الرئيسي الذي نخرج به من دراسة الاقتصاد المصري خلال قرنين من الزمن (1805-2009) هو:

حال الاقتصاد المصري كان انعكاسًا للتغيرات في الظروف السياسية والاقتصادية التي شهدها العالم الخارجي في تلك الفترة؛ إما من خلال خلق فرص أوسع أو أضيق للاستيراد والتصدير، أو الحصول على رؤوس أموال أجنبية قروضًا كانت أو استثمارا. بالإضافة إلى تغير النظام الاقتصادي في مصر من نظام تُحكم فيه الدولة سيطرتها على الاقتصاد إلى نظام أضعف دورها. ومن نظام رفض مطلقًا الحصول على قروض مشروطة إلى نظام أقبل على القروض بكل عزم.
المراجع
  1. جلال أمين، قصة الاقتصاد المصري: من عهد محمد علي إلى عهد مبارك، دار الشروق، الطبعة الأولى، 2012