منذ نحو خمسين عاماً، عندما ركبت الطائرة للمرة الأولى، كنا نحن (راكبي الطائرات) نمثل نسبة ضئيلة للغاية من سكان العالم، كنا أرستقراطية بمعنى الكلمة، وعلى شركات الطيران أن يعاملونا بصفتنا أرستقراطية العالم…. مرت السنوات، تغيرت الأمور تدريجياً حتى وجدت نفسي واقفاً ذات يوم في صف طويل من العمال المصريين ننتظر ركوب الطائرة…. هكذا، لم نعد نحن راكبي الطائرة أرستقراطية العالم، بل أصبحنا جماهير غفيرة تعج بهم الطائرات والمطارات كل يوم.
الكاتب والمفكر الراحل «جلال أمين»

بهذه القصة البسيطة يوضح المفكر الراحل أستاذ الاقتصاد بالجامعة الأمريكية جلال أمين،في كتابه «عصر الجماهير الغفيرة» التغييرات الاجتماعية العميقة التي أصابت حياة الإنسان في مصر والعالم أجمع في القرن العشرين عموماً، والنصف الثاني منه خصوصاً.

وبينما ركز المؤلف في كتاب سابق له (ماذا حدث للمصريين؟) على الحراك الاجتماعي في مصر نتيجة الطموحات من بعض الطبقات والإحباطات من طبقات أخرى، فهذا الكتاب (عصر الجماهير الغفيرة) ركز على الآثار المترتبة على زيادة حجم السكان، وبالتحديد الجزء المؤثر منهم والذي سماه «الحجم الفعال للسكان».


مسيرة الجماهير نحو النعيم

ارتبطت ظاهرة الجماهير الغفيرة بتزايد الكثافة السكانية في العالم أجمع، وزيادة عدد السكان من 2.5 مليار نسمة خلال القرن الـ20 إلى 6 مليارات نسمة مع بداية القرن الـ21. لم تكن هذه الزيادة المطلقة في الحجم بالأمر المهم، ولكن ما يهم حقاً ذلك الحجم الفعال من السكان، والذي يمكنه التأثير والتحكم في نمط الحياة السائد.

حيث يوضح الكاتب، أن حجم السكان يمكن أن يزيد بمعدل كبير في دولة ما، ويظل أغلبهم متوارين عن الأنظار، لا يمتلكون القدرة للتعبير عن أنفسهم، ومن ثم يبقون عاجزين عن إحداث أي أثر يذكر في نمط الحياة. ويمكن أن يظل الحجم ثابتاً ومع ذلك تزداد النسبة الفعالة من السكان.

ما حدث خلال الخمسين عاماً الماضية، هو أن زاد الاثنان معاً: زاد الحجم المطلق للسكان، وزادت النسبة الفعالة منهم، وهو ما أنتج «عصر الجماهير الغفيرة»، والذي تميز بتحسن أوضاع هذه الجماهير اقتصادياً واجتماعياً، فأصبحت لديها القدرة على تلبية احتياجاتها الاجتماعية، وحصلت على الكثير من الحقوق التي كانت محرومة منها.

كان السياق العالمي آنذاك هو المحفز لظهور تلك الجماهير الغفيرة المؤثرة. ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية، انتشر في الدول الغربية والدول الصناعية بصفة عامة مصطلح «دولة الرفاهية». بدأت الدولة تنهض بمسئوليات لم تكن تقم بها من قبل، وفرت الخدمات الأساسية ومختلف أنواع الرعاية الاجتماعية، مما أدى إلى ظهور الشرائح الاجتماعية المحرومة والمهمشة وتمتعها بالكثير من الحقوق.

ساهم في ذلك أيضاً انتشار النظام الاشتراكي في مختلف دول العالم. فبعد انتصار الاتحاد السوفيتي بالحرب العالمية الثانية، بدأ يحدث دوياً كبيراً بدول أوروبا الشرقية، وامتد تدريجياً إلى دول العالم الثالث، التي اقتبست الكثير من ملامحه الاشتراكية، فانعكس ذلك في زيادة نسبة الجماهير المُنعمة.


مجتمع الـ0.5%

في مصر، استطاعت هذه الجماهير أن تتحرر وتحصل على ما كانت محرومة منه من حقوق، لتُلقِن صفوة المجتمع درساً في التزام الحدود، فما كان مقصوراً على القلة أصبح الآن في متناول الكثير. وقد ساعدها في ذلك الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية التي اتخذتها الدولة بعد يوليو/تموز 1952. فسياسات إعادة توزيع الثروة ورفع معدلات التعليم والنمو الاقتصادي أدت إلى زيادة الحجم الفعال للسكان، واكتسابه مهارات لم تكن له من قبل.

على هذا النحو، بدأت فكرة مجتمع «النصف بالمائة» تتلاشى تدريجياً. فكثيراً ما وصف الرئيس الراحل جمال عبدالناصر المجتمع المصري قبل يوليو/تموز 1952 بأنه مجتمع «النصف بالمائة»، وكان يقصد بهذا أنه في الأمور السياسية والاقتصادية والحياة الاجتماعية كانت نسبة المصريين الذين يتخذون القرارات ويتمتعون بمزاياها، لا تزيد على هذه النسبة، بينما كان البقية مهمشين ومحرومين.

كان ذلك صحيحاً بالفعل، ولكن الوضع تغير شيئاً فشيئاً، فالآن ازدادت نسبة الجماهير الغفيرة، صارت عاملاً مهماً فيما يُتخذ من قرارات وما يُطبق من سياسات، تمكنت من أن تطبع الحياة الاجتماعية بطابع مختلف عما كان سائداً قبل الحرب، كما أصبحت إحدى السمات الأساسية لتطور مصر بعد 1952.


الطبقى الوسطى «ترمومتر» المجتمع

انعكس التطور في حجم وقوة الجماهير الغفيرة، في مختلف جوانب الحياة الاجتماعية والثقافية في مصر. وظهر الطابع المميز لها في المجالات المختلفة كالصحافة والإعلام، والثقافة والاقتصاد، حيث تغيرت هذه المجالات تدريجياً لتواكب وتتماشى مع أذواق هذه الجماهير.

1. الصحافة:

كان عالم الصحافة أبرز الأمثلة على هذا تغير الحياة الاجتماعية في مصر. فنظرة سريعة على هذا العالم، حتى منتصف القرن الـ20، تظهر مدى الرصانة التي تمتع بها، حيث لم تكن الصحف تنشر من الأخبار إلا ما كان من الملائم نشره، كما حرصت على أن تمتلئ صفحاتها بمقالات كبار الكتاب والروائيين العظام.

إلا أنه مع النصف الثاني من القرن الـ20، وانتشار القراءة والكتابة، زاد إقبال الجماهير على الصحف، وازدادت معها القوة الشرائية، مما دفع الكثير من الصحف – بهدف الربح- إلى تلبية هذا الطلب عبر مخاطبة الجماهير بالطريقة التي تحب أن تخاطب بها.

فإذا كانت الجماهير تُفضل الجرائد ذات العناوين المثيرة، فلتركز الصحف على تلك العناوين والقصص المثيرة، وخاصة ما يتعلق منها بأسرار الناس. وإذا كانت تُفضل الصور أكثر من الكلام، فليتم التركيز عليها حتى لو جاء ذلك على حساب المضمون. وإذا كانت تحب أن تكون المقالات العلمية بسيطة فليكن الأمر كذلك، أما إذا كان المقال في السياسة فيُفضل أن يكون مثيراً وحماسياً.

بهذه الطريقة تحولت الصحافة من صحافة رصينة إلى صحافة صفراء تركز على كل ما هو مثير وسهل، مالت إلى التبسيط، وانخفض مستوى ما تنشره لغةً ومضموناً، كما قلت المساحة المخصصة لكبار الكتاب، ليتماشى الأمر مع ثقافة الأفواج الغفيرة بمستوى تعليمها وتطلعاتها ولتصبح هي المحدد لنمط الثقافة السائد وخصائص الصحف الرائجة.

2. التلفزيون:

لم يستطع التلفزيون في البداية الانتشار، حيث كانت الإذاعة والسينما إحدى أهم الوسائل الإعلامية السائدة، فعليها اعتمد ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية في إثارة حماسة الإنجليز في حربهم ضد الألمان، وبها غزت أمريكا العالم عبر أفلام هوليوود.

واجه التلفزيون في البداية بعض المقاومة من بعض الشرائح العليا الذين رأوه أقرب إلى أذواق الطبقة الوسطى، وبقي إلى أواخر الخمسينيات محصوراً في الطبقة الوسطى. ولكن هذا الحال لم يستمر طويلاً، إذ لم تأت السبعينيات إلا وكان التلفزيون قد أصبح قطعة أساسية من أثاث أي بيت.

منذ ذلك الحين بدأ انحسار دور السينما أمام التلفزيون، تأثرت برامجه بالجماهير الغفيرة، فتمت مخاطبة البسطاء ببرامج وأفلام تتحدث عن العنف والفضائح الجنسية، وأُعطيت الأولوية للبرامج الجاذبة المثيرة على حساب البرامج المفيدة، فأثر ذلك سلبياً على الثقافة المعروضة، كما أثّرت الإعلانات على سياسة التلفزيون، فأصبحت القنوات تبيع المشاهد ولا تبيع الأخبار مثلما حدث في الجرائد والصحافة.

3. الأزياء:

يشير الكاتب إلى أن الملابس والأزياء كانت إحدى الوسائل التي يمكن بها تصنيف الشخص سواء بالانتماء إلى الطبقة العليا أو الوسطى أو الدنيا. إلا أنه من انتشار العولمة والشركات متعددة الجنسية، أصبح من الصعب الاعتماد عليها في هذا التصنيف.

فالملابس المميزة لكل طبقة بدأت تختفي تدريجياً، وساهمت العولمة في انتشار أنماط معينة من الملابس بين مختلف الطبقات، وبين النساء والرجال على السواء بما يمحو أي أثر للتميز، حتى سادت ثقافة العامة وأصبح أي شخص متمسكاً بهويته شخصاً غريباً بالمجتمع.

4. أعياد الميلاد:

كانت هذه الأعياد محصورة في البداية في فئة صغيرة جداً من المجتمع المصري، إلا أنه في عصر الجماهير الغفيرة وزيادة عدد الطبقة الوسطى ودورها الفاعل، بدأ انتشار هذه العادة، وأصبحت تعبيراً عن المستوى الاجتماعي. فكلما ازدادت فخامة أعياد الميلاد هذه، كان ذلك تعبيراً عن انتماء الشخص إلى الطبقات العليا.

5. الثقافة:

وضّح الكاتب أن أهم ما يحدد سمات الثقافة السائدة في مجتمع معين هو سمات الطبقة الوسطى، فهذه الطبقة هي المنتجة للثقافة وهي أيضاً المستهلكة لها. أما الطبقة العليا فحجمها المنخفض يحول دون إنتاجها لهذه الثقافة، كما أنها ليست لديها الدافع لذلك.

أشار الكاتب كذلك إلى أن المناخ الثقافي في مجتمع معين يزدهر إذا كان أبناء الطبقة الوسطى يعتمدون في دخلهم وتكوين ثرواتهم على مصادر منتجة ومشروعة، أما إذا اعتمدوا على مصادر غير مشروعة فهذا المناخ يميل في الغالب إلى الانحطاط.

على هذا النحو، تراوح المناخ الثقافي في مصر بين الازدهار والانحطاط، وكان هذا مرتبطاً بمصادر دخل الطبقات المتوسطة وحالة الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي النسبي. فخلال العشرينات والثلاثينات ازدهر المناخ الثقافي، إلا أنه خلال الفترة بين قيام الحرب العالمية الثانية وقيام ثورة يوليو/تموز (1939-1952) سادت مرحلة من الانحطاط الثقافي، حيث اعتمد عدد كبير من أبناء الطبقة الوسطى على مصادر غير منتجة في الدخل كالمضاربة وأعمال الوساطة مستغلين حالة الحرب.

عادت مرحلة الازدهار الثقافي مرة أخرى بعد يوليو/تموز 1952، نتيجة التوسع في التعليم وزيادة فرص الصعود الاجتماعي المعتمد على مصادر منتجة ومشروعة، وكان أبرز علامات التطور الثقافي آنذاك ظهور الأعمال المرموقة لنجيب محفوظ ويوسف إدريس وغيرهما. إلا أن ما حدث خلال الثلاثين عاماً اللاحقة (1970-2000) أن تدهور المناخ الثقافي مرة أخرى، نتيجة زيادة معدلات التضخم ونمو الثروات نتيجة أعمال المضاربة والوساطة وتجارة العملات.

وبصفة عامة، أشار الكاتب إلى أن الثقافة في مصر سارت في اتجاهين: اتجاه يخدم مصالح السوق السائدة، واتجاه يبحث عن ثقافة رفيعة تستطيع الصمود في وجه التيار الكاسح للثقافة الرديئة.

ختاماً، يمكن القول إن المفكر الراحل جلال أمين استطاع عبر هذا الكتاب أن يرسم صورة حقيقية للمجتمع المصري خلال القرن العشرين، ويقدم من خلالها تفسيرات حقيقية لما آلت إليه أوضاع المصريين اجتماعياً وثقافياً منذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا.