بين بداية عام 1948 ونهايته كانت أرض فلسطين تشهد انقلابًا تاريخيًّا في تركيبتها السكانية والثقافية والسياسية، بل في كل مناحي الحياة عليها.

مع بداية العام كان العرب يشكلون ما يزيد على ثلثي عدد السكان، وكانوا يمثلون أغلبية في 15 مقاطعة من إجمالي 16 مقاطعة تتكون منها فلسطين، وكانوا (العرب) يملكون ما يقرب من 90٪ من الأرض الفلسطينية التاريخية الموحدة.

وخلال شهور الحرب التي استمرت حتى أوائل عام 1949 كان نصف الفلسطينيين أو يزيد قد طُرِدُوا أو فرُّوا من أراضيهم.

تفوَّقت القوات الإسرائيلية على الجيوش العربية مجتمعة من حيث العدد والسلاح والتدريب، في القتال الذي اندلع بشكل غير نظامي في بدايات 1948 وربما منذ صيف 1947، ثم بشكل نظامي مع دخول الجيوش العربية في مايو من نفس العام.

التقديرات متفاوتة لعدد القوات، ولكن الأكيد أن أكبر الجيوش العربية عددًا كان الجيش المصري بحوالي 10 آلاف مقاتل، ويليه الجيش الأردني بحوالي 4 آلاف و500 مقاتل فقط، إضافة إلى قوات أقل من سوريا والعراق ولبنان والسعودية، بجانب مئات الفدائيين والقوات غير النظامية، التي ربما كان أهمها المجموعة التي قادها الضابط المصري (البطل) أحمد عبد العزيز، الذي يحمل اسمَه الآن واحد من أشهر شوارع حي المهندسين بالجيزة.

كانت القوات العربية مجتمعة في بداية الحرب لا تصل إلى 30 ألف مقاتل، وربما زادت ببضعة آلاف بعد ذلك نتيجة الإمدادات، أما القوات الإسرائيلية فتراوح عددها بين 60 ألفًا إلى أكثر من 100 ألف، وحصلت على تسليح وتدريب أعلى بكثير مما حصلت عليه القوات العربية.

ناهيك عن النزاعات السياسية بين الدول العربية، وعدم وجود قيادة موحدة، الأمر الذي جعل أغلب التقارير العسكرية وقتها توصي الملوك العرب، وعلى رأسهم فاروق ملك مصر، بعدم خوض الحرب خوفًا من هزيمة ساحقة، إلا أنهم أصروا على خوضها وكانت هزيمتهم الساحقة.

كانت القوات الصهيونية تتمركز في وسط وشمالي فلسطين، ولم يكن لهم نفس التواجد القوي في الجنوب، وخاصة فيما عرفت بمنطقة لواء غزة.

أدى ذلك إلى موجة لجوء فلسطينية واسعة إلى غزة، ما صنع تكدسًا سكانيًّا كبيرًا، حوَّل القطاع فيما بعد إلى قنبلة في وجه الاحتلال، حيث صار مركزًا للمقاومة الفلسطينية، تنطلق منه هجماتها.

كيف كان قطاع غزة قبيل حرب 1948 جغرافيًّا وسكانيًّا وسياسيًّا، وكيف صار بفعل الحرب والحكم المصري له؟ هذا ما نوضحه فيما يلي.

الملك فاروق يحكم غزة

كان الجيش المصري قد اخترق فلسطين من الجنوب، وتركزت مهامه في السيطرة على جنوب فلسطين الملاصق للحدود المصرية، وضرب أي أهداف صهيونية في طريقه، إلى أن يلتقي بالجيوش العربية القادمة من الحدود الأردنية والسورية واللبنانية في وسط فلسطين.

لم يكن وقتها يوجد ما يسمى بـ «قطاع غزة»، وإنما كان هناك ما يعرف بـ «لواء غزة»، الذي كان يضم بداخله تقسيمين إداريين مهمين هما: قضاء بئر السبع، وقضاء غزة الذي يضم في داخله مدينة غزة.

سيطرت إسرائيل على بئر السبع، وظل الصراع قائمًا في قضاء غزة، وفشل الجيش المصري الهزيل عددًا وتسليحًا أمام الجيوش الإسرائيلية الأكثر عددًا والأعلى تدريبًا وتسليحًا.

وفي المقابل كان الجيش الأردني قد سيطر على القدس والضفة الغربية لنهر الأردن.

كان الموقف العسكري المصري، قد تدهور خاصة بعد حصار حوالي ثلث الجيش المصري بفلسطين في منطقة الفالوجة (داخل لواء غزة)، حد أن القوات الإسرائيلية اخترقت الحدود المصرية نفسها.

الأمر الذي استدعى تدخل بريطانيا (كانت تحتل مصر وقتها) والولايات المتحدة لصالح مصر بزعامة الملك فاروق الذي طلب النجدة، وبدأت مفاوضات ثنائية بين مصر وإسرائيل في 13 يناير 1949، عبر وسيط من الأمم المتحدة في جزيرة رودس اليونانية.

أدت المفاوضات لتوقيع هدنة في 24 فبراير، وهو نفس الأمر الذي فعلته نفس الدول العربية المشتركة في الحرب.

وفقًا للمفاوضات وافقت إسرائيل على إدارة مصر لقطاع غزة، وفك الحصار عن القوات المصرية المحاصرة في الفالوجة.

وكان الحُكم المصري لقطاع غزة من الأمور التي اعتبرها الملك فاروق الأول مكسبًا سياسيًّا له، حيث كان يخشى أن يستولي على إدارته ملك الأردن عبد الله بن الحسين، وكانت بين الملكين منافسة سياسية كبيرة، أدت إلى اتهام عبد الله بالتآمر على الجيوش العربية لصالح إسرائيل، هو وقائد جيشه الإنجليزي جلوب باشا.

وكان الجيش الأردني وقتها رغم ضعف عدده أعلى تسليحًا وتدريبًا من الجيش المصري، وكانت أغلب قياداته غير عربية، ويرأس قيادته العامة الإنجليزي جلوب باشا.

قطاع غزة يتآكل: أراضٍ اقتطعتها إسرائيل من الملك فاروق

قبل الإدارة المصرية لم يكن هناك ما يسمى «قطاع غزة»، بل «لواء غزة»، وظهر مصطلح «القطاع» بعد تسلم مصر لمساحة جغرافية محددة من اللواء، وفق ما سنبين.

كان الوجود المصري في لواء غزة بمثابة تنازل من إسرائيل ذات التفوق العسكري في العدد والتسليح على سائر الجيوش التي حاربتها، كما شرحنا، وبالتالي لم تكن مصر قادرة على حماية القطاع أو أهله من الأطماع أو الاعتداءات الإسرائيلية التي كانت تنال الجيش المصري نفسه من حين لآخر.

وانعكس ذلك على اتفاقية الهدنة التي وقعت بين مصر وإسرائيل في رودس، وبمقتضاها احتلت إسرائيل حوالي 5 آلاف كيلومتر جنوبي فلسطين، رغم أنها لم يكن لها تواجد يذكر في تلك الأراضي قبل عام 1948.

تسلم الجيش المصري ما تبقى من لواء غزة، بمساحة قُدرت بحوالي 555 كيلومترًا مربعًا، بعد أن احتلت إسرائيل منه 45 قرية، هي:

أسدود، بربرة، برقة، بربر، البطاني الشرقي، البطاني الغربي، بعلين، بيت جرجا، بيت دارس، بيت طيما، بيت عفا، تل الترمس، جسير، الجلدية، الجورة، جولس، الجية، حنا، حليقات، حمامة، الخصاص، دمرة، دير سنيد، سمسم، السوافير الشرقية، السوافير الشمالية، السوافير الغربية، صميل، عبدس، عراق سويدان، عراق المنشية، عرب صقرير، الفالوجة، قسطينة، كرتيا، كوفخة، كوكبا، المحرقة، المسمية الصغيرة، المسمية الكبيرة، نجد، نعليا، هربيا، هوج، ياصور.

كل سكان هذه القرى لجئوا إلى المساحة التي عرفت فيما بعد بقطاع غزة، هم وآخرون جاءوا من لواء اللد ومناطق فلسطينية أخرى.

كانت المنطقة المعروفة بقطاع غزة اليوم يسكنها حوالي 80 ألف نسمة قبيل قيام الحرب، ولجأ إليها أكثر من ضعفي عدد سكانها، حيث استقبلت حوالي 200 ألف فلسطيني مهجرين من أراضيهم.

نصت اتفاقيات الهدنة على أن الحدود الفاصلة بين الفلسطينيين أو مناطق الإدارة العربية وبين وإسرائيل لا تعد حدودًا قانونية بين دولتين، وإنما تحدد هذه الحدود بعد ذلك وفقًا لمعاهدة نهائية مع إسرائيل.

كان اللاجئون الذين أتوا إلى قطاع غزة من مناطق أخرى، يترددون على قراهم ومدنهم لإحضار ذويهم أو شيء من أملاكهم، أو رعاية أراضيهم الزراعية ومواشيهم، فأدى ذلك إلى احتكاكات مع قوات الاحتلال، خلال التنقل بين القرى.

وكان الفلسطينيون يحملون الأسلحة أحيانًا ويشتبكون مع قوات الاحتلال التي ربما تصادفهم في الطريق أو تزرع لهم لغمًا هنا أو تقصفهم هناك، ويغتال الفلسطينيون جنديًّا هنا، أو يصيب جنديًّا هناك، وهكذا.

نتيجة لهذه الاحتكاكات اشتكى الإسرائيليون مما وصفوه بتسلل الفلسطينيين إلى أراضيهم والاعتداء عليهم، واقترحوا إنشاء خط جديد داخل قطاع غزة سمي بـ “خط التعايش”، وهو ما وافقت عليه الإدارة المصرية ولجنة الهدنة المعينة من قبل الأمم المتحدة، فيما عرف باتفاقية الهدنة وذلك في فبراير 1950، بموافقة الملك فاروق.

وقعت الاتفاقية بشكل سري في العوجا، وبمقتضاها اتفق الجانب المصري مع الإسرائيلي على إقامة منطقة منزوعة السلاح داخل خط الهدنة، على حدوده الخارجية، وقدرت مساحة هذه المنطقة بما يقرب من 200 ألف كيلومتر مربع.

 وبهذه المساحة المستقطعة تقلصت مساحة قطاع غزة الذي اتفق عليه في اتفاقية الهدنة من 555 كيلومترًا، إلى حوالي 362 كيلومترًا، وهي المساحة القائمة للقطاع تقريبًا حتى كتابة هذه السطور.

لم تكن حوادث الاحتكاك بين الفلسطينيين والإسرائيليين هي السبب الوحيد في تلك الاتفاقية، وإنما كان السبب الأهم هو اكتشاف مياه جوفيه بجودة عالية وبكميات كبيرة في منطقة وادي الحسي، فأرادت إسرائيل السيطرة عليها، وهو ما حدث وفقًا للاتفاقية التي انتزعت 200 كم من قطاع غزة.

نزع السلاح من المنطقة المذكورة جعل إسرائيل تحتلها فيما بعد للاستفادة بالمياه الجوفية، وتعرضت القيادة المصرية فيها إلى خداع، بحسب وصف الصحفي الإسرائيلي عكيفة إلدار، الذي كتب مقالًا عن هذه الواقعة في صحيفة «هاآرتس» بعنوان «كيف ضحكنا على المصريين»، وذلك في 27 سبتمبر عام 2005.

حيث لم تكن القيادة العسكرية المصرية ممثلة في محمود رياض، أو القيادة السياسية في القاهرة، تعلم أي شيء عن الدراسات التي تتحدث عن المياه الجوفية.

داخل القطاع.. كيف عاش اللاجئون؟

في بداية دخول اللاجئين البالغ عددهم 200 ألف نسمة إلى القطاع، استقبلهم السكان الأصليون للقطاع في المساجد والمدارس والبيوت، وفي كل مكان يصلح أن يئوي إنسانًا، حتى نصبوا الخيام في العراء.

بعد ذلك اتفقت الإدارة المصرية مع الأمم المتحدة ولجنة خدمة الأصدقاء الأمريكيين (AFSC) التابعة لجمعية “الكويكرز” على إنشاء 8 مخيمات للاجئين، فكانت مخيمات: جباليا، الشاطئ، النصيرات، البريج، المغازي، دير البلح، خان يونس، رفح.

وهذه المسميات كانت هي نفسها أسماء مدن وبلدات مجاورة للمخيمات التي أقيمت من قبل جمعية AFSC، والتي تولت الإشراف عليها فيما بعد وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأوسط «أونروا»، التي تشكلت بقرار أممي في ديسمبر 1949، وبدأت ممارسة أعمالها في مايو 1950.

في البداية كانت هذه المخيمات عبارة عن خيام بدوية، وفي صيف 1950 بدأت أونروا في تحويل هذه المخيمات إلى أبنية من الطوب، وكانت مساحة كل مبنى حوالي 150 مترًا، وجرى بناء حوالي 48 ألف مبنى في المخيمات الثمانية.

ولعل سكان هذه المخيمات، كانوا وما زالوا هم الأكثر شراسة في مواجهة الاحتلال، نتيجة معاناتهم وقهرهم، وتشهد على ذلك معارك كبيرة مع قوات الاحتلال جرت داخل هذه المخيمات أو حولها.

وتوسعت الخدمات التي قدمتها أونروا داخل هذه المخيمات، ببناء المدارس والمستشفيات والبنية التحتية وإقراض اللاجئين لإنشاء مشاريع تدر لهم دخلًا. وتدير المنظمة الأممية هذه المخيمات بنفسها عن طريق مدير تعينه على رأس كل مخيم.

كما مثلت مباني أونروا ملاذًا آمنًا في أوقات كثيرة للسكان ضد ممارسات الاحتلال، باعتبارها منظمة أممية، واتضح ذلك بشكل كبير في انتفاضة الأقصى عام 2000، إلا أن المعارك التي وقعت في أكتوبر 2023 عقب عملية طوفان الأقصى التي قامت بها حركة حماس، أثبتت أن إسرائيل لا تحترم أونروا، بعد أن قصفت ودمرت منشآت تابعة للمنظمة الأممية التي لم تعد قادرة على حماية الفلسطينيين.

حكومة عموم فلسطين: محاولة فاشلة لإنشاء دولة

في سبتمبر 1948 اتفقت الأطراف العربية على إقامة دولة فلسطينية، وتشكيل ما يعرف بـ «حكومة عموم فلسطين»، برئاسة الحاج أمين الحسيني، مفتي القدس، ورئاسة وزراء أحمد حلمي باشا، الاقتصادي الفلسطيني الشهير، الذي لُقب بـ «طلعت حرب فلسطين».

وبدأ انعقاد المجلس الوطني لعموم فلسطين في غزة في سبتمبر 1948 برئاسة الحسيني، وأصدر مجموعة قرارات، كان أهمها ما صدر في أول أكتوبر 1948 بإعلان قيام دولة فلسطين على كامل أراضي فلسطين التاريخية، وعاصمتها القدس.

وأقر المجلس عَلَم الثورة العربية رمزًا للدولة، والذي كان يستخدمه القوميون العرب منذ عام 1917م، وتقرر إنشاء جيش للدولة الوليدة، كما اعترفت جامعة الدول العربية بالدولة الوليدة وحكومتها وقبلت عضويتها.

اعترف العرب بالدولة الوليدة فيما عدا ملك الأردن عبد الله بن الحسين، وبالتالي لم يكن لـ «حكومة عموم فلسطين» سلطة على سكان القدس والضفة الغربية حيث يسيطر الجيش الأردني، وبالطبع لا سلطة لها على أي من الأراضي التي احتلها الصهاينة.

والنتيجة أن ولايتها صارت على غزة فقط، وصارت الأوراق الرسمية والهويات الوطنية لسكان غزة تحمل شعار هذه الحكومة، وكان ذلك هو أقصى نفوذ لهذه الحكومة التي كانت مجرد اسم بلا نفوذ يذكر على أرض غزة التي يسيطر عليها الجيش المصري بالتعاون مع الأمم المتحدة.

كانت مصر هي التي تدفع أيضًا ميزانية تلك الحكومة وتدعمها، بل نقلت مقرها إلى القاهرة، ما جعل أهميتها تتراجع تدريجيًّا، رغم إنشاء مجلس تشريعي كبرلمان لـ «حكومة عموم فلسطين» وذلك عام 1957.

وبعد اتحاد مصر وسوريا وقيام «الجمهورية العربية المتحدة» عام 1958، تقرر إلغاء حكومة عموم فلسطين، بعد اندماجها في الجمهورية الوليدة، التي سرعان ما تفككت بانفصال سوريا عام 1961.

باختصار كانت مصر هي الحاكم الفعلي لقطاع غزة منذ عام 1949 حتى حرب يونيو 1967 التي انتهت باحتلال إسرائيل لسيناء وبالطبع قطاع غزة. فخضع لسيطرة تل أبيب حتى نفذ أرئيل شارون خطة «فك الارتباط» مع القطاع في 2004.

المراجع
  1. «حرب فلسطين: إعادة كتابة تاريخ 1948»، لمجموعة مؤلفين، تحرير إيوجين روحان، وترجمة ناصر عفيفي
  2. «الفلسطينيون وحرب 1948: الأسباب الكامنة وراء الهزيمة»، لرشيد الخالدي.
  3. «مصر وحرب 1948: الصراع الداخلي والطموح الإقليمي»، لفواز جرجس
  4. – «كي لا ننسى: قرى فلسطين التي دمرتها إسرائيل سنة 1948 وأسماء شهدائها»، وليد الخالدي
  5. «كيف قضمت إسرائيل قطاع غزة في اتفاقية سرية؟»، لسلمان أبو ستة
  6. «قطاع غزة، 1948-1967: تطورات اقتصادية وسياسية واجتماعية وعسكرية»، لحسين أبو النمل
  7. «اللاجئون الفلسطينيون في قطاع غزة، 1948-1967: إعادة التشكيل السياسي والاجتماعي لفضاء فلسطيني مضيّق عليه»، لتيسير محيسن
  8. «الاستيطان اليهودي في فلسطين من الاستعمار إلى الإمبريالية»، لغازي حسين