«أنا أقسم عليك بمكة ألا تلمسه؟ اللعنة على مكة»، وانهالت الصفعة على وجهها متبوعةً بعدة لكمات على رأسها.

على مدى ستة أشهر أجرى صحافي فرنسي من قسم التحقيقات بشبكة الجزيرة تحقيقًا استقصائيًّا مدعومًا بالفيديوهات والصور والأسماء والبيانات الكاملة لقيادات أكبر تجمع يميني متطرف في فرنسا وأوروبا كلها، بل يعتبر أعضاء الحركة أنفسهم بحسب محللين «مدافعين صليبيين في مواجهة الغزو الإسلامي لأوروبا»، وقد أثار التحقيق ضجة سياسية غير مسبوقة في فرنسا، فهو يثبت تورط أكبر الأحزاب اليمينية الفرنسية في أعمال عنف عنصرية، بل تخطيط لإحداث مذابح بحق المسلمين والعرب المهاجرين في فرنسا، وسنستعرض معًا كيف كشف التقرير أسرار «القلعة».


بدايات مخفية وانتشار واسع

بعد ظهيرة أحد الأيام وفي مدينة ليل شمالي فرنسا، حيث يقبع مقر «القلعة»، وهو مقر حركة «هوية الجيل» Generation Identity استقبل أوريان فيرهاسيل، القائد الفعلي للحركة في مدينة ليل، والذي ينحدر انتماؤه إلى مجموعة تشجيعية لنادي LOSC الفرنسي، عرفت باسم LOSC Army سبق أن تورط بعض أعضائها في الكثير من أعمال الشغب والعنف.

ومن داخل القلعة يمكننا التعرف على المكان كما يصفه رواده بأنه نادٍ اجتماعي متكامل، فهو ليس مقرًّا للتجمع وحسب، بل به مشرب للخمر ومكتبة وقاعة عرض سينمائي، ببساطة، مكان يمكنك أن تجد بداخله بيئة اجتماعية تساعدك على بناء فكرتك وتدعيمها.

استيقظ سكان برلين الألمانية ذات يوم على لافتة إعلانية معلقة على أحد جدران محطة المترو الألمانية، تحمل دعوة لحملة «إعادة الهجرة» وهي حملة أطلقتها حركة «هوية الجيل» بغرض إعادة المهاجرين العرب والمسلمين إلى بلدانهم مرة أخرى، حتى لو تحملت الحكومات الأوروبية تكاليف المراكب الشراعية أو الطائرات التي ستقل المهاجرين إلى بلدانهم مرة أخرى.

ها هي المفاجأة تداهم الجماهير، فاللافتة مصدرها الرئيسي ليست ألمانيا، وإنما المقر الرئيسي للحركة ونشاطها الأكبر في فرنسا، وهو انعكاس لأكثر من شق مجتمعي، فالجالية المسلمة في فرنسا من أكبر الجاليات في أوروبا، إن لم تكن أكبرها، كما أن الغطاء السياسي الذي تحصل عليه الحركة في فرنسا ليس موجودًا في كثير من البلدان الأوروبية، لاسيما وإن كان الداعم هو ثاني أكبر حزب سياسي في فرنسا، وقد استطاع في 2014 أن يستحوذ على أغلبية تمثيل فرنسا في البرلمان الأوروبي.

صباح الـ 28 من نوفمبر/تشرين الثاني خرجت الصحف البريطانية بفيديو صادم بعد انتشاره عبر منصات التواصل الاجتماعي، يظهر طالبًا سوريًّا في الخامسة عشرة من عمره، في مدرسة بمدينة هدرسفيلد البريطانية، يتعرض للضرب ولإغراق وجهه بالماء من زميله البريطاني وهو يصرخ في وجهه «سأغرقك». وبعدها بيوم واحد يخرج فيديو آخر لأخت الطالب السوري نفسه، وهي تتعرض للضرب، ولمحاولات نزع الحجاب عن رأسها في المدرسة ذاتها، من زملائها البريطانيين.

أظهر التقرير انتشار الحركة في العديد من البدان الأوروبية مثل بريطانيا وألمانيا والنمسا وإيطاليا، وقدرة الحركة على استقطاب العديد من الشباب، حيث تضاعفت الأعداد خلال الشهور الماضية بشكل كبير، لكن الحاضنة الكبرى ظلت في فرنسا، فبعد أن تولت ماري لوبان رئاسة حزب «الحركة الوطنية» في 2011 ونزعت أباها خارجًا رفقة كل من لا يتفقون وسياساتها، فرضت سيطرة كاملة على أركان الحزب.


جماعة الأنقياء!

يستعرض الجزء الأول من التقرير الشروط الصارمة التي تفرضها القلعة من أجل الانتماء للحركة، أو الدخول إلى القلعة والبقاء داخلها، فعلى الرغم من أن «فيرهاسيل» قائد الحركة في ليل كان واحد من LOSC Army وشارك في أعمال عنف وشغب خلال إحدى مباريات الفريق في 2016، وقع بعدها 41 من أعضاء الرابطة في الاعتقال، إلا أنه أصبح يرفض وجود أي منهم داخل القلعة، أو انضمام أي منهم إلى الحركة، فهم بحسب قوله «متهورون ولا يمكن الثقة في تصرفاتهم».

كما أن الحركة ترى أنه لا يكفي أن يكون المتقدم للانضمام كارهًا للعرب أو المسلمين حتى ينضم للحركة، فهذا وحده لا يخدم القضية، بجانب ما قاله فيرهاسيل في أحد التسجيلات عن رفضه 7 من كل 10 متقدمين. كما أن النازيين الجدد غير مرحب بهم في الحركة، أو المتهورون منهم «أولئك الذين يلوحون بإشارة هتلر في الشوارع وأمام الناس، فهذا يلفت النظر ويضع الحركة محل شكوك، في حين أن فيرهاسيل يطرد كل فترة من يشك في مخالفتهم للصورة الإعلامية التي ترسمها الحركة لنفسها، خاصة أن قيادات الحركة دائمًا ما يعلنون أنهم لا ينتهجون العنف أو العنصرية».

واحدة من أهم القواعد المفروضة على الموجودين داخل القلعة هي عدم التقاط الصور، أو استخدام الهواتف الذكية دون إذن، فهذا يُهدد بشكل كبير أمن الحركة، ويعرضها لتسريب الصور إلى الصحافة.

تنتقل بنا الكاميرا سريعًا إلى أحد الميادين في مدينة ليل، حيث ريمي فاليز، رفقة بعضٍ من أعضاء الحركة، وهم يهاجمون شابًّا، فتتصدى فتاة ذات لكنة عربية بعض الشيء لهم بألا يضربوه، قائلة: «أنا أقسم عليك بمكة ألا تضربه؟»، فكان رد ريمي: «اللعنة على مكة»، وانهال بالصفع على وجه الفتاة، ثم أتبعه بلكمات ثقيلة على جمجمتها، أظهره الفيديو بعد ذلك وهو سعيد بتوجيهها، مضيفاً أنه لا فارق لديه إن كانت فتاة أم رجلًا، فهي عربية في النهاية، تستحق ذلك.


معًا نحو الحرب الأهلية

ينتقل بنا التقرير إلى النقطة الأخطر، وهي تخطيط حزب الحركة الوطنية إلى إشعال حرب أهلية في حال فوز الحزب بالسلطة، والهدف الأكبر من الحرب هو القضاء على العرب والمسلمين، وظهر ذلك في تواصلهم مع مسئولين سياسيين داخل القلعة للحصول على أسلحة.

وبالطبع فكر الحرب الأهلية والمواجهات العنيفة ليس غريباً عن الحركة، فريمي فاليز الذي صفع الفتاة في ليل هو ذاته من تحدث مع رفاقه داخل القلعة عن رغبته في حمل السلاح والذهاب إلى السوق الشعبي لإحداث مذبحة، حيث إن معظم رواد السوق من المسلمين والعرب.

كما أظهر التسجيل أحد قادة حزب الحركة الوطنية في مظاهرة معظم أعضائها من الحركة، وهم يهددون بقتل المسلمين بالرصاص.

بمرور الوقت داخل الجزء الأول سنجد أنفسنا في مواجهة كشف كامل لحلف حقيقي بين الحركة وبين حزب ماري لوبان، حيث يمكن لمن يرغب من الحركة في الحصول على وظيفة في الحزب، استخدام علاقات فيرهاسيل للحصول على وظيفة في الحزب، لكن أعضاء الحزب لا يمكنهم أن يعلنوا ولاءهم للحركة علانية أمام العامة، فهذا يشكل كارثة على الحزب والحركة في نفس الوقت.

أصيب أعضاء الحركة بالإحباط والغضب الشديد بعد خسارة لوبان في الانتخابات الرئاسية أمام ماكرون، على الرغم من حصول حزب لوبان في الانتخابات على 7 ملايين صوت، بجانب حديث فيرهاسيل عن الحاضنة الشعبية التي تدعم استخدامهم العنف، ويروي ذلك حيث إنه ذات مرة قابل سيدة مسنة وأعطاها منشورًا خاصًّا بالحركة، فشكرته وقالت له: «قوموا بحمايتنا يا رجال».

بالوصول إلى نهايات الجزء الأول ظهرت واحدة من أهم الأدلة القاطعة على تورط لوبان في نشاط الحركة، بحديث فيرهاسيل عن دعوة «سيباستيان شينو» المتحدث الرسمي باسم حزب لوبان لزيارته، وقد خشي فيرهاسيل في البداية من هذه الزيارة وقرر اصطحاب شخصٍ آخر معه، بسبب ما اشتُهر به شينو من مثلية جنسية، وهو ما جعل فيرهاسيل يتردد قليلًا في قبول دعوة الزيارة.

لينتقل بنا التقرير إلى مشاورات داخلية بين أحد قيادات الحزب وبين أعضاء الحركة داخل القلعة في حال فوز حزب لوبان وتشكيل الحزب للحكومة، وكيف سيكون دور الحركة حينها، ليمتد النقاش من جديد حول مسألة الحرب الأهلية، وكيف يمكن لأعضاء الحركة إطلاق النار بشكل عشوائي من النوافذ. وظهر في الجلسة ذاتها ديفيد هوبي عضو الحزب، الذي أشار إلى أن الكلاشينكوف هو أفضل ما يمكن استخدامه في هذه المهمة، وأنه سيكون فعالًّا للغاية.


كارثة مجتمعية وشيكة

جيل الكراهية
أحد مشاهد الفيلم «جيل الكراهية».

بالانتقال إلى الجزء الثاني من التحقيق تبدأ الكارثة المجتمعية والحزبية في التكشف بصورة أكبر، فالحركة ترى أنها تستند إلى حاضنة اجتماعية كبيرة، والأهم من ذلك أن تلك الحاضنة لا ترى أية مشكلة في استخدام العنف المسلح، وأن المشهد برمته لن يُحل إلا باستخدام القوة المسلحة، ثم ظهر فيرهاسيل داخل مقر الحركة وهو يحمل سلاحًا ثقيلًا.

كريستيل لوشوفاليير، عضو البرلمان الأوروبي وممثلة حزب الجبهة الوطنية، ظهرت داخل القلعة كواحدة من أهم القيادات الحزبية وحلقات الوصل بين الحزب وبين الحركة، وأظهر التحقيق مدى اهتمامها بحركة إعادة الهجرة التي تقوم بالكلية على طرد كل ما هو عربي مسلم خارج فرنسا، بل خارج أوروبا بأكملها، وقد كان من بين حديثها، ما دار حول مدى سرية انتماء أعضاء حزب لوبان لحركة هوية الجيل، ومدى التشديد الذي تفرضه لوبان بخصوص ذلك الشأن، فهي (أي لوبان) وبحسب ما قالته كريستيل:

ليس لديها أي مشكلة بخصوص الحركة، ولا تختلف معهم أو مع معتقداتهم، لكنها تهتم أكثر بالحفاظ على الصورة الإعلامية للحزب، وخصوصًا بعد التشوه الذي شاب اسم الحركة في الأوساط الفرنسية، بعدما اقتحمت الحركة أحد المساجد في فرنسا عام 2012 وصعدوا فوقه رافعين راية الحركة ومهللين بالهتافات… تلا ذلك خروج 100 ناشط من الحركة على الحدود بين فرنسا وإيطاليا، لمنع المهاجرين المتوافدين عبر هذه النقاط الحدودية إلى الداخل الفرنسي، وطالبوا حينها بإغلاق الحدود في 2014.

ثم انتقلت الأفكار إلى نقطة تكوين مجموعات مسلحة للقيام بأعمال عدائية بشكل متفرق في مدن عدة على غرار مجموعات SA التي استخدمها هتلر في الوصول إلى الحكم، بكل الطرق الممكنة.

لم تكتفِ الحركة بالعمل وحدها، بل حدث العديد من الاتصالات والاتفاقات بينهم وبين حركة متطرفة أخرى تدعى Group Union Defense أو GUD، وقد انتاب الحركة الكثير من المخاوف بشأن أي تسريبات للصحافة فيما يخص العلاقة بينهم.

جيل الكراهية
أحد مشاهد الفيلم «جيل الكراهية».

وبالوصول إلى نهاية التحقيق ظهر العديد من المسئولين الكبار في حزب الحركة الوطنية داخل القلعة، منهم فيردريك شاتيلون، وهو أحد مسئولي الحملة الرئاسية لماريان لوبان، والمسئول الشخصي عن العمليات المالية الخاصة بماريان نيكولاس كروشيه، وهو يتحدث عن منعه من العمل في الحزب، لكنه مستمر في دوره مع ماريان، ثم أضاف بعدها أنه وفي حال فوز الحزب بالسلطة سيعمل على إخراج العرب والمسلمين من فرنسا، سواء كان ذلك بصورة سياسية أو بالعنف.

وبعد أن أُذيعت الحلقة الأولى من التحقيق أعلن إريك ديلين وسيلفيا جوردن استقالتهما من الحزب، بعد ظهورهما داخل القلعة في التسجيلات، وفتح المدعي العام في مدينة ليل تحقيقًا موسعًا في الأمر، وصدر قرار بعد إذاعة الحلقة الثانية بإغلاق مقر «القلعة» بأمرٍ قضائي.

والآن وبعد كل القرارات المتخذة، ما زال مستقبل الأمر غامضًا وغير مُفسر، فمن غير المنطقي التفكير في أن إغلاق مقر الحركة يكفي لإنهاء نشاط الحركة، خاصةً أن الغطاء السياسي متوفر وبشدة، في ظل التوترات التي تشهدها فرنسا، كما أنه من الواضح أن الاستراتيجية الفكرية قد عبرت السواحل الأوروبية، ووصلت إلى الولايات المتحدة بصورة غير مباشرة، وقد شاهد الجميع ذلك في بنسلفانيا، حيث قامت فتاة بضرب طالبة مسلمة في أحد الحمامات الخاصة بالمدرسة بعد أن طلبت منها الفتاة ألا تدخن هنا، وبعد أن ضربتها الفتاة الأمريكية، نشرت الفيديو على صفحتها الشخصية مُعقبةً:

لقد ضربت مسلمة اليوم.
https://twitter.com/MuslimIQ/status/1074870291678068736?fbclid=IwAR1w3yXZbEdyFXvXjJUmd2r5pzb38ZJKIuWg3KypLcfSj7ElpOagrS1eHIg