محتوى مترجم
المصدر
Eurasianist Archive
التاريخ
2016/10/01
الكاتب
ألكساندر دوجين، ترجمة: جيف أرنولد

هذه ترجمة الفصل الخامس من كتاب «أسس الجيوسياسة» للمفكر والسياسي الروسي «ألكساندر دوجين»، وقد حظي هذا الكتاب وصاحبه باهتمام هائل منذ مطلع الألفية، نظرًا للتأثير المفترض لدوجين على السياسة الروسية من جهة، ولتسليطه الضوء على فكر «اليمين الجديد» الذي يمثل تطورًا جذريًا لأفكار اليمين التقليدي مطعّمة بأفكار اليسار، وهي المدرسة التي بدأت تحوز اهتمامًا خاصًا في السنوات الأخيرة بعد إهمال استمر لعقود.


آلان دي بنوا: أوروبا بمئات الأعلام

آلان دي بنوا
المفكر الفرنسي آلان دي بنوا

يعد «اليمين الجديد» واحدًا من مدارس الجيوسياسة الأوروبية التي حافظت على صلات وروابط غير منقطعة مع أفكار الألمان ذوي النزعة القارية في حقبة ما قبل الحرب. ظهر هذا الاتجاه في فرنسا في أواخر الستينيات، وارتبط بالفيلسوف والمفكر آلان دي بنوا الذي يعتبر رائدًا لذلك التوجه.

يختلف «اليمين الجديد» بشكل حاد في كل الأمور تقريبًا عن اليمين الفرنسي التقليدي الذي يضم الملكيين والكاثوليكيين وكارهي الألمان والشوفينيين ومعارضي الشيوعية والمحافظين، إلخ. حيث يضم «اليمين الجديد» هؤلاء الذين يدعون إلى «الديمقراطية الاستبدادبة» والوثنيين ومحبي الألمان والاشتراكيين والحداثيين، إلخ. في البداية، كان معسكر اليسار التقليدي تمامًا مؤثرًا للغاية في فرنسا إلى درجة تبني أدواته من قبل اليمين كمناورة تكتيكية؛ ولكن بمرور الوقت ظهر ثقل هذا التطور أمام الجميع.

فواحد من المبادئ الأساسية لليمين الجديد التي ظهرت نظائرها قريبًا في بلدان أوروبية أخرى، هو مبدأ «جيوسياسة القارة»، وذلك على عكس اليمين التقليدي والقوميين الكلاسيكيين، حيث يرى دي بنوا أن مركزية فكرة الدولة القومية قد تم استهلاكها تاريخيًا وأن المستقبل يتمثل في «الكيانات العظمى». وأساس هذه الكيانات العظمى ليس أن تكون هناك ارتباطات كثيرة بين دول مختلفة في كتلة سياسية براجماتية، بل هو تكتل تتساوى فيه المجموعات العرقية المختلفة في «إمبراطورية فيدرالية» من المفترض أن تكون موحدة إستراتيجيًا ولكن متباينة عرقيًا. وعلاوة على ذلك، فإن تلك الوحدة الإستراتيجية سوف تكون مرتكزة على وحدة «الأساس الثقافي».

«الكيان الكبير» الذي اهتم به دي بنوا كان هو أوروبا، حيث يؤمن اليمين الجديد بأن الشعب الأوروبي يتشارك ميراثًا هندو-أوروبيًا وأصلاً واحدًا، وكذلك ماضيًا مُشتركًا. إن ظروف العصر الحديث التي تعد فيها اتجاهات التكامل الإستراتيجي والاقتصادي ضرورية بشكل فاعل لامتلاك أي سيادة جيوسياسية حقيقية، تُملي ضرورة الاتحاد بالمعنى العملي البحت. وبذلك، فإن شعوب أوروبا متجهة إلى «مستقبل مشترك». هنا، يستخلص دي بنوا أن أطروحة «أوروبا بمئات الأعلام» يجب أن تصبح المعيار الجيوسياسي الأساسي للأوروبيين. ويتضح من مثل هذا المنظور، كما هو الحال في جميع مفاهيم اليمين الجديد، الجمع بين العناصر «المحافظة» و«الحداثية»، وبين ما هو «يمين» وما هو «يسار». وفي السنوات الأخيرة، رفض اليمين الجديد تلك التسمية لأنه يعتبر نفسه يمينًا بقدر ما هو يسار.

إن أطروحات دي بنوا الجيوسياسية مبنية على المصير الأوروبي ككيان قاري؛ وبهذا الصدد فإنه يتمسك بمفاهيم مدرسة هاشوفر، ومن هنا ينبثق التقارب المميز لليمين الجديد بين أوروبا والغرب. فبالنسبة لهم فإن أوروبا عبارة عن كيان قاري جيوسياسي يتكون من مجموعة من الإثنيات لهم أصل هندو-أوروبي مشترك ويملكون جذورًا ثقافية مشتركة؛ وهذا تصور تقليدي. على النقيض، يمثل «الغرب» مفهومًا جيوسياسيًا وتاريخيًا للعالم الحديث الذي لا يعترف بالتقاليد العرقية والإثنية، وبدلاً من ذلك، يطرح معايير كمية ومادية للوجود؛ أي حضارة برجوازية نفعية وعقلانية بالأساس. ويُفهم من ذلك أن الولايات المتحدة هي التجسد الأكثر اكتمالاً للغرب وحضارته.

يظهر المشروع الملموس لليمين الجديد من ذلك المنظور، وهو أن تتكامل أوروبا في «إمبراطورية فيدرالية» في مواجهة الولايات المتحدة والغرب. وعلاوة على ذلك، يجب تشجيع النزعات الإقليمية بشكل خاص، حيث تحتفظ المناطق والأقليات العرقية بسمات تقليدية أكثر من المدن الكبرى والمراكز الثقافية المتأثرة بروح الغرب. ومن هذه الملاحظة، فإن فرنسا من المفترض أن تتجة إلى ألمانيا وأوروبا الوسطى؛ لذلك يتهم اليمين الجديد بديجول وفريدريش ناومن. وعلى المستوى العملي، نادى اليمين الأوروبي بالحياد الإستراتيجي لأوروبا، والانسحاب من الناتو، وتطوير إمكانيات أوروبية نووية مستقلة.

تطور موقف اليمين الجديد فيما يتعلق بالاتحاد السوفييتي (روسيا فيما بعد) بدءًا من مقاربة «لا الغرب ولا الشرق، ولكن فقط أوروبا»، إلى مقاربة «أوروبا فوق الكل، ولكن مع الشرق أفضل عن الغرب». وعلى المستوى العملي، تم استبدال الاهتمام بالصين ومشروع التحالف الإستراتيجي بين الصين وأوروبا في مواجهة الإمبريالية الأمريكية والسوفييتية بمفهوم «السوفيتوفليا» (الميل إلى السوفييت)، وأفكار عن التحالف بين روسيا وأوروبا.

تعارض جيوسياسة اليمين الجديد بالأساس وبشكل راديكالي أي توجه أطلنطي أو عولمي، فهم يرون أن مصير أوروبا ليس أطلنطيًا أو عولميًا، وبالتالي لديه خصومة مع أي مفهوم متعلق بالثلاسوقراطية أو مفهوم «العالم الواحد».

يجب أن نلاحظ أن الموقف الجيوسياسي لدي بنوا (المتماسك نظريًا ومنطقيًا) لم يكن لديه في سياق السيطرة الإستراتيجية السياسية التامة للأطلسية على أوروبا في الحرب الباردة أي فرصة للانتشار، وذلك لكونه متناقضًا مع «قواعد الفكر السياسي» آنذاك. كان هذا الفكر بشكل ما نوعًا من الانشقاق، ومثل أي «انشقاق» أو «عدم امتثال»، كان له طابع هامشي. وحتى يومنا هذا، يتم تجاهل المستوى الفكري لليمين الجديد، والجودة العالية لمنشوراته، وحتى عدد أتباعه في الأوساط الأكاديمية الأوروبية، من قبل السلطات والمؤسسات التحليلية التي تمنح السلطة للمشاريع الجيوسياسية.


جان تيريارت: أوروبا من فلاديفوستوك إلى دوبلين

جان تيريارت
جان تيريارت

تطورت مجموعة أخرى من الأعمال الجيوسياسية القارية على يد «المنشق» البلجيكي جان تيريارت. منذ بداية الستينات فصاعدًا، كان تيريات قائدًا للحركة الأكثر تطرفًا في أوروبا وهي «أوروبا الشابة».

اعتبر تيريارت أن الجيوسياسة هي التخصص الأهم في العلوم السياسية والتي من المستحيل بدونها بناء سياسة عقلانية وإستراتيجية بعيدة المدى للدولة. وكتابع لهاشوفر ونينيكيس، اعتبر نفسه «أوروبيًا قوميًا بلشفيًا» وباني «الإمبراطورية الأوروبية»، كانت أفكاره هي التي أسست لمشاريع أكثر تطورًا من اليمين الجديد.

بَنى جان تيريارت نظريته السياسية على مبدأ «السيادة المطلقة للكيانات العظمى». وُضعِت هذه النظرية في منتصف القرن التاسع عشر من قِبَل الاقتصادي الألماني فريدريش ليست، وتؤكد تلك النظرية أن أي تنمية اقتصادية وإستراتيجية للدولة تكون ممكنة إذا كان لديها نطاق جيوسياسي كافٍ ومزايا إقليمية أكبر. وطبق تيريارت هذا المفهوم على الوضع الحالي في أوروبا ووصل إلى استنتاج أن القيمة العالمية لدول أوروبا قد تضيع إذا لم إذا لم تتحد في إمبراطورية موحدة في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية. علاوة على ذلك، اعتقد تيريارت أن تلك الإمبراطورية لن تكون فيدرالية أو ذات توجهات إقليمية، ولكن في نهاية المطاف سوف تكون وحدة «اتحادية» مركزية، وستصبح دولة قارية قوية مثل النموذج اليعقوبي. وهنا يكمن الإختلاف بين وجهات نظر دي بينسوا وتيريارت.

وفي نهاية السبعينيات، خضعت آراء تيريارت لبعض التعديلات. حيث قاده تحليل الوضع الجيوسياسي الحالي لأوروبا بأنه غير كافٍ للتحرر من التالاسوقراطية الأمريكية. وعليه، فقد كان الشرط الرئيسي «لتحرير أوروبا» يتمثل في الاتحاد بين أوروبا والاتحاد السوفييتي، حيث انتقل من مخطط جيوسياسي يضم ثلاث مناطق رئيسية (الغرب، أوروبا، وروسيا) إلى واحد يضم اثنين فقط (الغرب، والقارة الأوراسية). وعلاوة على ذلك توصل تيريارت إلى استنتاج راديكالي وهو أن أوروبا عليها أن تختار الاشتراكية السوفييتية على الرأسمالية الأنجلوساكسونية.

من هنا، ظهر مشروع الإمبراطورية الأوروسوفييتية من فلاديفوستوك إلى دوبلين. ووضع هذا الاقتراح تقريبًا الأسباب التي قد تؤدي إلى انهيار الاتحاد السوفييتي إذا لم يتخذ سياسات جيوسياسية نحو أوروبا والجنوب. واعتقد تيريارت أن أفكار هاشوفر المتعلقة بالكتلة القارية (موسكو-برلين-طوكيو) كانت متصلة بمدى زمني طويل حتى يومنا هذا. إنه لأمرٌ جدير بالاهتمام أن أطروحات تيريارت تلك قد تم تقديمها من قبل 15 عامًا من انهيار الاتحاد السوفييتي وبشكل دقيق تنبأت بالأسباب وراء الأزمة.

حاول تيريارت تقديم وجهات نظره للزعماء السوفييت دون جدوى، حتى أنه قد التقى شخصيًا مع ناصر وتشو إنلاي وكبار المسؤولين اليوغوسلافيين في الستينيات. وقد كان من الواضح أن موسكو رفضت اقتراحه بخصوص التنظيم السري المعروف بـ «ألوية تحرير أوروبا» الذي من المفترض أن يشن هجمات على من سماهم بالعملاء الأطلنطيين بأوروبا.

تدعم أفكار جان تيريارت الحركة النشطة المتمردة المعروفة بـ «البلاشفة الأوروبيين القوميين»، وتتماشى تمامًا مع المشاريع المعاصرة لروسيا.


جوردي فون لوهوزن: التفكير بشأن القارات

جوردي فون لوهوزن
الجنرال النمساوي جوردي فون لوهوزن

كان تيريارت على درجة كبيرة من القرب مع الجنرال النمساوي جوردي فون لوهوزن، والذي كان على عكس تيريارت ودي بينسوا من حيث عدم المشاركة في أي نشاط سياسي بشكل مباشر أو حتى أسس مشاريع اجتماعية ملموسة. فبدلاً من ذلك، تمسك لوهوزن بمنهج علمي صارم، ألزم نفسه بتقديم تحليل جيوسياسي دقيق. وعلى الرغم من كونه ذا توجه قاري وتابع لهوشوفار فقد كان واحدًا من البلشفيين الأوروبيين القوميين واليمين الجديد.

رأى لوهوزن أن السلطة السياسية تكون قوية ومستدامة إذا كان توجه سياساتها «قاريًا» و«ألفيًا» أكثر من كونها قصيرة المدى زمنيًا وعلى مستوى محلي. وقد كان أبرز أعماله «قوة الغزو: التفكير بشأن القارات».

كان لوهوزن يرى أن العملية الإقليمية والحضارية والثقافية والاجتماعية لا يمكن فهمها إلا إذا تم فحصها من منظور «بعيد النظر» على عكس ما وصفه بـ «قصر النظر» التاريخي. وفي المجتمع البشري، يجب أن تسترشد السلطة، التي يقع عليها اختيار المسار التاريخي وأهم القرارات، بأكثر المخططات العامة التي تسمح لهذه الدولة أو تلك أو الناس أن يدركوا موقعهم في منظور تاريخي واسع. لذلك فإن التخصص الأساسي اللازم لتحديد إستراتيجيات السلطة الجيوسياسية بالمعنى التقليدي لها من حيث العمل مع الأطراف الدولية. ومما لا شك فيه أن الأيديولوجيات الحديثة وأحدث التحولات التكنولوجية والحضارية تغير تضاريس العالم، لكنها لا تستطيع إلغاء القوانين الأساسية المرتبطة بالدورات الطبيعية والثقافية التي تقاس بآلاف السنين.

وتتكون هذه الفئات العالمية من المساحة واللغة والإثنيات والموارد وما إلى ذلك. ويفترض لوهوزن هذه المعادلة للسلطة: القوة = السيطرة × الموقع. ويشرح لوهوزن: «طالما أن السيطرة مضروبة في الموقع، فإن الموقع الجغرافي الملائم هو الوحيد الذي يتيح الفرصة لتطوير قوى داخلية مكتملة». وهكذا، ترتبط السلطة (السياسية، والفكرية، وإلخ) ارتباطًا مباشرًا بالمساحة.

فصل لوهوزن مصير أوروبا عن مصير الغرب حيث اعتبر أوروبا تشكيلاً قاريًا تحت سيطرة الثلاسوقراطية بشكل مؤقت. ووفقًا لذلك، يتطلب التحرير الجيوسياسي لأوروبا حدًا أدنى (مكانيًا) لا يمكن تحقيقه إلا من خلال وحدة ألمانيا، والتكامل في أوروبا الوسطى، واستعادة الوضع السليم إقليميًا لبروسيا (الممزقة بين بولندا، والاتحاد السوفييتي، وجمهورية ألمانيا الديمقراطية)، وتجمع الدول الأوروبية في كتلة جديدة مستقلة ذاتيًا عن الثلاسوقراطية الأطلسية. وفي هذا المخطط، من المهم الإشارة إلى دور بروسيا الذي اعتبره لوهوزن بعد (نيكيش وسبنجلر) الجزء الأكثر «أوراسية» في ألمانيا. وإذا كانت كونيسبرج عاصمة ألمانيا بدلاً من برلين، لكان التاريخ الأوروبي قد ذهب في اتجاه أكثر صوابًا، مع التركيز على التحالف الأوروبي الروسي ضد التلاسيموقراطية الأنجلوساكسونية.

اعتبر لوهوزن أن مستقبل أوروبا لا يمكن تصوره بدون روسيا، والعكس صحيح، فروسيا (الاتحاد السوفييتي) بحاجة إلى أوروبا، وبدونها، ستكون روسيا غير مكتملة جيوسياسيًا وعُرضة لأمريكا، والتي هي موقعها أكثر فائدةً، وبالتالي فإن قوتها يمكن أن تتفوق على الاتحاد السوفييتي عاجلاً أم آجلاً. وقد أكد لوهوزن أن الاتحاد السوفييتي أمام أربعة سيناريوهات للتعامل مع أوروبا؛ «أوروبا العدو»، «أوروبا التابع»، «أوروبا المدمر»، «أوروبا الحليف». وستكون المتغيرات الثلاثة الأولى حتمية إذا واصل الاتحاد السوفييتي سياساته الأوروبية التي أدت إلى هزيمته في الحرب الباردة. إن السعي إلى جعل أوروبا «حليفًا وصديقًا» بأي ثمن كان بإمكانه أن يسترد الوضع الجيوسياسي القوي للاتحاد السوفييتي، وينقله إلى مرحلة جديدة في التاريخ الجيوسياسي، وهي المرحلة الأوراسية.

حَصَرَ لوهوزن أفكاره بشكل مقصود على الملاحظات الجيوسياسية البحتة، وتجاهل أي قضايا أيديولوجية. وعلى سبيل المثال، كان يرى البويار الروسي، وروسيا القيصرية، والاتحاد السوفييتي، عبارة عن عملية مستمرة ومستقلة عن التغيرات في النظام الحاكم أو الأيديولوجيا. ومن الناحية الجيوسياسية، فقد كانت روسيا «المعقل الإستراتيجي» وقد كان يتم تحديد مصيرها من خلال أرضها، بصرف النظر عن طبيعة النظام الحاكم.

وعلى نفس الخط مع تيريارت، توقع لوهوزن الانهيار الجيوسياسي للاتحاد السوفييتي باعتباره أمرًا حتميًا إذا ما استمر في اتباع المسار التقليدي والمعتاد. ومع ذلك، ما اعتبره الجيوسياسيون الأطلسيون بمثابة انتصار، رآه لوهوزن قبل أي شيء هزيمة للقارة الأوروبية. مع هذا، كان هناك فارق بسيط، حيث يمكن أن يؤدي انهيار النظام السوفييتي إلى فتح فرص جديدة لخلق نقطة مرجعية إيجابية لإنشاء كتلة أوراسية مستقلة بعد التحرر من القيود مثل تلك التي تفرضها الأيديولوجيا الماركسية.


جان بارفاليسكو وإمبراطورية النهاية الأوراسية

الكاتب الفرنسي جان بارفاليسكو

قام الكاتب الفرنسي الشهير جان بارفاليسكو بوضع أُطروحة جيوسياسية أكثر رومانسية حيث ظهرت أعمال أدبية سابقة في كتابات جورج أورويل الديستوبية عن عام 1984، التي وصف فيها مستقبلاً ينقسم فيه العالم إلى ثلاث كتل قارية هائلة: أوراسيا، أستاسيا، وأوقيانوسيا. ويمكن التعرض لنماذج مماثلة في أعمال آرثر كيستلر وألدوس هكسلي وريموند أبيليو، إلخ.

جعل جان بارفوليسكو المواضيع الجيوسياسية محورية في جميع أعماله وكتاباته، وبالتالي أنشأ نوعاً جديداً من «الخيال الجيوسياسي».

ويمكن تلخيص مفاهيم بارفوليسكو باختصار بما يلي: وهو أن تاريخ البشرية ما هو إلا تاريخ القوة والسلطة، حيث تسعى العديد من المنظمات شبه السرية إلى الوصول إلى أدوار ومناصب مركزية في الحضارة والتاريخ، والتي تتجاوز دورات وجودها مدة الأيديولوجيات السياسية التقليدية أو السلالات الحاكمة أو المؤسسات الدينية أو الدول أو الأمم. ومن وجهة نظر بارفوليسكو، فإن المنظمتين اللتين قامتا بالتفاعل مع التاريخ وكانتا على صراع خلاله؛ هما «النظام الأطلسي» و«النظام الأوراسي». وبين هاتين القوتين يحتدم صراع عمره قرون شاركت فيه شخصيات مختلفة مثل البابا والبطاركة والملوك والدبلوماسيين، والممولين والثوريين والصوفيين والجنرالات والعلماء والفنانين وما إلى ذلك. ووفقًا لذلك، تتلخص جميع المظاهر السوسيوثقافية في البدايات الجيوسياسية البدائية، وإن كانت معقدة للغاية.

وقد كان هو الخط الجيوسياسي الذي تم دفعه إلى الحد المنطقي، والذي تم تتبع جذوره بوضوح من قبل مؤسسي الجيوسياسة العقلانيين إلى حد ما على هذا النحو، والذين كانوا غرباء على هذا النوع من التصوف أو الغموضية.

وفي أعمال بارفيلسكو، يلعب الجنرال ديجول والهياكل الجيوسياسية التي أسسها، والتي استمرت كظل له بعد رئاسته تلعب دورًا رئيسيًا. ويصف بارفيلسكو هذه الشمولية الجيوسياسية بأنها النظير الفرنسي «للتوجه القاري لمدرسة هاشوفر».

وكانت المهمة الرئيسية لمؤيدي هذا الخط، هي تنظيم الكتلة الأوروبية القارية (باريس – برلين – موسكو)، وفي هذا الجانب تتداخل نظريات بارفيلسكو مع أطروحات اليمين الجديد والبلاشفة القوميين.

وأكد بارفيلسكو على أن المرحلة التاريخية الحالية هي عبارة عن ذروة قرون من المواجهة الجيوسياسية التي سيصل فيها التاريخ بشكل مأساوي لمواجهة قارية-حضارية. وتوقع الظهور الوشيك للبناء القاري العملاق على نطاق «إمبراطورية النهاية الأوراسية» والمواجهة النهائية مع «إمبراطورية المحيط الأطلسي». وقد وصف بارفيلسكو هذا اللقاء الأخروي بلهجة نهاية العالم بأنه «المعركة النهائية» (Endkampf). ومن المثير للاهتمام أن الشخصيات الخيالية في أعمال بارفيلسكو تعمل جنبًا إلى جنب مع شخصيات تاريخية حقيقية، ومن بينهم سياسيون من الدائرة الداخلية لديجول، ودبلوماسيون إنجليز وأمريكيون، والشاعر عزرا باوند، والفيلسوف يوليوس إيفولا، والسياسي والكاتب ريموند أبيليو، والنحات إرنو بريكر، ومختلف أعضاء المنظمات الخفية.

وعلى الرغم من الطابع الخيالي لأعمال بارفيلسكو، فهي في الواقع لها قيمة جيوسياسية هائلة نسبيًا، حيث وصف عدد من مقالاته التي نشرت في أواخر السبعينيات بشكل غريب بما فيه الكفاية الموقف بدقة في منتصف التسعينات.


روبرت ستاكرز: المحيط الهندي والطريق للسيطرة على العالم

كان الكاتب والخبير الجيوسياسي البلجيكي روبرت ستاكرز على النقيض التام مع «الخيال الجيوسياسي» لبارفيلسكو، وهو الكاتب في المجلتين المرموقتين «أورينتيشن» و«فولوار». حيث تناول ستاكرز الجيوسياسة من خلال منهج علمي عقلاني بحت، وسعى لتحرير التخصص مما سماه «بغرابة الأطوار». ومع اتباعه لمقاربات اليمين الجديد في التوجه الأكاديمي، فقد توصل إلى استنتاجات قريبة بشكل مثير للاهتمام من تنبؤات بارفليسكو.

رأى ستاكرز أن المشاريع السوسيوسياسية والدبلوماسية لمختلف الدول والتكتلات، بغض النظر عن الرداء الأيديولوجي الذي ترتديه، أنها تمثل التعبيرات غير المباشرة مؤقتًا للمشاريع الجيوسياسية العالمية. وفي هذه الظاهرة، يرى أن تأثير «الأرض» على الإنسان يتمثل في كون الإنسان مخلوقًا من «الأرض»، وبالتالي فإن الأرض والفضاء قد حددا بشكل مسبق مصير الإنسان، وكانت هذه النظرية بمثابة مقدمة للـ «جيوتاريخ».

وبالنسبة لستاكرز، فإن الوحدة القارية كانت على رأس الأولويات، حيث إنه اعتبر أن الأطلنطيين أعداء لأوروبا وأن مصير أوروبا ورخاءها مرتبط بألمانيا. وكذلك أيد ستاكرز التعاون الأوروبي مع بلاد العالم الثالث، وبشكل خاص العالم العربي.

وإلى جانب ذلك، أكد على الأهمية الهائلة للمحيط الهندي للهيكل الجيوسياسي المستقبلي للكوكب، حيث عرف المحيط الهندي بـ «المحيط الأوسط» الذي يقع بين المحيط الأطلنطي والمحيط الهادئ، تحديدًا في المنتصف بين الساحل الشرقي لأفريقيا ومنطقة المحيط الهادئ التي تقع فيها نيوزيلاندا وأستراليا وماليزيا وإندونيسيا والفلبين والهند الصينية. وأعتبر أن السيطرة البحرية على المحيط الهندي بمثابة المفتاح الجيوسياسي على المناطق الأكبر في العالم: أفريقيا، وريملاند جنوب أوراسيا، ومنطقة المحيط الهادئ. ومن هنا تأتي الأهمية الإستراتيجية للعديد من الجزر الصغيرة في المحيط الهادئ، وخاصة دييجو جارسيا التي تتساوي في جميع المناطق الساحلية.

وأكد ستاكرز أن المحيط الهندي هو المنطقة التي يجب ترتكز عليها الإستراتيجية الأوروبية بقدر ما يمكن من خلالها أن تؤثر أوروبا على الولايات المتحدة الأمريكية وأوراسيا واليابان في آن واحد. ومن وجهة نظره، يرى أن المواجهة الجيوسياسية الحاسمة في القرن الواحد والعشرين سوف تتكشف في هذا المكان بالتحديد.

انخرط ستاكرز بشدة في تاريخ الجيوسياسة، وهو مؤلف المقال عن «جيوسياسة النسخة الجديدة من موسوعة بروكسل».


كارلو تيراشيانو: روسيا + الإسلام = خلاص أوروبا

جان بارفاليسكو
جان بارفاليسكو
كارلو تيراشيانو
المفكر الإيطالي كارلو تيراشيانو

يمكن العثور على نشاط الجيوسياسة القارية في إيطاليا أيضًا. بعد الحرب العالمية الثانية، كانت أفكار كارل شميت أكثر انتشارًا في إيطاليا منها في أي بلد أوروبي آخر. وبفضل هذا أصبحت العقلية الجيوسياسية شائعة جدًا هناك. وبالإضافة إلى هذا، كانت حركة «أوروبا الشابة» التي أسسها جان تيريارت والأفكار البلشفية القومية أكثر تطورًا في إيطاليا.

ومن بين كل المجلات ومراكز الدراسات السياسية والاجتماعية العديدة لليمين الجديد التي تتعامل مع الجيوسياسة، تعد مجلة «أوريون» في ميلان، وهي التي تنشر التحليلات الجيوسياسية للدكتور كارلو تيراشيانو بشكل منتظم على مدار عشر سنوات، ذات أهمية خاصة. وقد أظهر تيراشيانو النسخة الأكثر تطرفًا للقارية الأوروبية، وهي التي تتوافق بشكل فوري مع الأوراسية.

قبِل تيراشيانو بالكامل خريطة ماكيندر وماهان التي تتفق مع الازدواجية الحضارية والجيوسياسية الصارمة التي ميّزتهما. علاوة على ذلك، وقف تيراشيانو بوضوح في صف أرض «القلب» اعتقادًا منه بأن مصير أوروبا يعتمد كليًا على مصير روسيا، وأوراسيا، والشرق. فبالنسبة له، الشرق القاري إيجابي والغرب الأطلسي سلبي. والمقاربات الراديكالية هي استثناءات بين الأوروبيين، حتى بين الجيوسياسيين قاريي التوجه، ولا يضع تيراشيانو أي تأكيد على الوضع الخاص لأوروبا، وإنما يعتقد عوضًا عن ذلك بأنها مجرد نقطة ثانوية في ضوء المواجهات الكوكبية بين الثلاسوقراطية و التليوروقراطية. وقد انضم تيراشيانو كليًا إلى فكرة إقامة دولة أوراسية موحدة، «إمبراطورية أوروبية سوفييتية» من فيلاديفوستوك إلى دوبلين، وهو ما يضعه على نفس الخط مع تيريارت. ومع ذلك لا يشارك تيريارت ميوله المتأصلة في فكره نحو «اليعقوبية» أو «العولمة»، ويؤكد على التمايز العرقي والإقليمي والثقافي، مما يضعه على نفس خط دي بنوا.

ويؤكد تيراشيانو على مركزية العامل الروسي الذي يدمجه مع نقطة أخرى مثيرة للاهتمام. فهو يعتقد أن الدور الأكثر أهمية في الحرب على الأطلسي يخص العالم الإسلامي، وخاصة الأنظمة المعادية لأمريكا مثل ليبيا والعراق وإيران، إلخ. وقد أدى هذا به إلى استنتاج مفاده أن العالم الإسلامي، إلى حد كبير، من دعاة المصالح الجيوسياسية القارية، حتى أنه اعتبر النسخة «الأصولية» للإسلام إيجابية في هذا الصدد.

والصيغة النهائية التي تلخص الآراء الجيوسياسية لدكتور تيرشيانو هي كما يلي: روسيا (القلب) + الإسلام في مقابل الولايات المتحدة.

ورأى تيرشيانو أوروبا كرأس جسر لكتلة روسية إسلامية معادية للعولمية. وفي رأيه، فقط في مثل هذه المقاربة الجذرية يمكن أن تحدث نهضة أوروبية حقيقية.

يتقاسم وجهات نظر تيراشيانو شركاء آخرون في «أوريون» والمركز الفكري العامل في قاعدتها (بما في ذلك الأستاذ كلاوديو موتي وموريزيو موريلي وعالم الاجتماع أليساندرا كولا وماركو باتارا وغيرها). وقد انجذب عدد من الدوائر اليسارية والاجتماعية الديمقراطية والشيوعية والأناركية في إيطاليا وصحيفة «أومانيتا» ومجلة «نوفو أنجولازوني»، في هذا الاتجاه الوطني البلشفي (ممثلا في تيراشيانو).