أصحاب الأصول الأجنبية كانوا في أشد الانتظار لمثل هذا الحوار المجتمعي، شكرًا أوزيل لفتحك الباب لنا للحديث عن العنصرية.
«علي شان»، مواطن ألماني ذو أصول تركية.

قد نتجادل كثيرًا حول مدى نجاح النموذج الديموقراطي في ألمانيا، لكن من المُرجح أن يصب النقاش أخيرًا في صالح الديموقراطية الألمانية. ولا يسير الأمر على نفس المنوال فيما يتعلق بحقوق الإنسان. فرغم جهود الحكومة الألمانية المستمرة في هذا المجال على الصعيد الدولي، فإن بصمة العنصرية فيها لا تزال واضحة، وما زال المجتمع الألماني يرفض فكرة المساواة المطلقة.

فلطالما سمعنا عن مواقف عنصرية وحوادث وهجمات عنيفة وجهتها الجماعات اليمينية المتطرفة ضد الغرباء من طالبي اللجوء أو العمال المهاجرين أو المسلمين أو ممن ينحدرون من أصول أفريقية أو آسيوية، حتى وإن كانوا أصحاب فضل على الدولة الألمانية.

والعنصرية في ألمانيا صورها لا تقتصر على العنف فقط، بل قد تتبدى في كلمة أو نظرة أو تغريدة. وقد تبرز في حرمان من فرصة سكن أو عمل أو تعليم أو نبذ واشمئزاز من قبل من يحيطونهم من الألمان، فيجد المهاجرون أنفسهم غير مرغوب فيهم ولا مرحب بهم. فعلى غرار الحملة التي بدأت إثر حديث بعض ممثلات هوليوود عن تجاربهن اللاتي تعرضن فيها إلى تحرش جنسي، دشن «على شان» هاشتاج «مي تو» #MeTwo على موقع تويتر، الذي شهد تفاعلاً بلغ 3500 تدوينة خلال يومين من تدشينه، تحدث فيه الألمان ذوي الأصول الأجنبية واللاجئين عن تجاربهم مع العنصرية في ألمانيا، وحجم المعاناة التي تواجههم من أجل التعايش فيها.


هل الألمان مرضى نفسيون؟

هل العنصرية مرض نفسي؟ سؤال كان ولا يزال يثير اهتمامات الباحثين في علم النفس الاجتماعي. فسياسات هتلر لم تكن وحدها مصدر العنصرية الألمانية بل وتصرفات وتوجهات وأفكار شعبه كذلك.

فمع اقتراب الحرب العالمية الأولى، كان المنظِّرون يراقبون عن كثب سياسات ألمانيا ويكتبون الدراسات عن طابعها القومي في محاولة منهم لتحليل أسباب تفشي ظاهرة التحيز العنصري فيها، اعتمادًا على كتاب «غرائر القطيع في السلام والحرب 1916» لجراح الأعصاب البريطاني «ويلفريد تروتر»، إذ درس تروتر وعي الجماعة الألمانية من منظور علم النفس، وتوصل إلى أن حجم الكراهية التي يكنها الألمان إلى الإنجليز هي بالأصل ناجمة عن «مرض بيولوجي».

ظلت الدراسات على هذا المنوال حتى استقر، في منتصف ثلاثينات القرن العشرين، في عقلية علماء النفس أن الألمان مرضى ومصابين بالعنصرية والتنكر لمن ليسوا من عرقهم.

وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ازدهرت دراسة علم النفس الاجتماعي في الولايات المتحدة، حتى ظهرت نظرية «متلازمة الاستبداد»، بعد بحث ودراسة دعمتها اللجنة الأمريكية اليهودية، وقد خرجت تلك الدراسة بأن نموذج الشخصية التسلطية قد يرجع ظهورها إلى أسلوب التربية القائم على السيطرة والسلطوية. إذ خلال التجربة أظهر الأشخاص ذوو الشخصية السلطوية عدم قدرتهم على التحكم في دوافعهم العدوانية، بل وتطوريهم لآليات دفاع لتجنب مواجهتهم من قبل الآخرين، كما أن السلطويين يميلون إلى التعبير عن تحاملهم ضد مجموعة متنوعة من الأقليات حتى يظهروا مدى تميزهم عنهم.

كانت تلك الدراسات والجهود البحثية تستهدف علاج الألمان من مرض جنون العظمة بعد انتهاء الحرب حتى يتخلصوا من الشخصية الهتلرية، التي وضع هتلر بصمتها في كل مواطن ألماني. وبالرغم من تلك الجهود والبرامج التي وضعت من أجل تعليم الأطفال الألمان قيم التسامح حتى لا يكونوا مثل آبائهم، فإن العنصرية لا تزال متجذرة في قيم الشعب الألماني حتى الآن ولو بدرجات أقل.

فوفق استتطلاع رأي أعدته «ألمانيا تريندست» في أغسطس/آب 2018، فإن أكثر من نصف الألمان الذين شملهم الاستطلاع ينظرون إلى العنصرية باعتبارها مرضًا اجتماعيًا كبيرًا. إذ قال 64 % إن العنصرية مشكلة كبيرة جدًا، بينما اعتبر حوالي 35% أن العنصرية مشكلة ثانوية، وأن هناك قضايا أجدر بالسؤال عنها غير مشاكل اللاجئين.


تغلغل اليمين المتطرف

وصلت العنصرية في ألمانيا إلى قمة ذروتها في الثمانينات والتسعينات، إذ عمد اليمينيون المتطرفون إلى القيام بعمليات حرق لمساكن اللاجئين، الأمر الذي أسفر عنه مقتل العديد من الأجانب، ومنذ ذلك الحين تزايدت حالات العنف في ألمانيا وأصبحت أكثر دموية.

حقيقة الأمر، ألمانيا تعي جيدًا ضعف مجهوداتها وتأثيرها المحدود في محاربة العنصرية، وقد اعترفت بذلك خلال الاستعراض الدوري الشامل الذي أجرته مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في شهر مايو/آيار الماضي. فرغم ما تتمتع به ألمانيا من سمعة إيجابية في مجال حقوق الإنسان، فإنها منذ أزمة اللاجئين في عام 2015، ارتفع العنف العرقي فيها بشكل كبير، إذ سجلت السلطات الألمانية منذ ذلك الحين 5700 هجوم على اللاجئين ومراكز تواجدهم.

فممثلو اليمين المتطرف والنازيون الجدد تمكنوا من التوغل في العديد من الأحزاب اليمينية، ونجحوا في جني بعض المقاعد في البرلمان، الأمر الذي يرجع إلى نجاحهم في تنظيم أنفسهم في المناطق الفقيرة التي تعاني من ارتفاع نسب البطالة، وتجنيدهم للمراهقين والشباب صغير السن من أجل حمل لواء أفكارهم وقضيتهم، إذ استغلوا حالة الفقر كتربة خصبة لتوليد حالة استياء عام ضد الأجانب وضد السياسات الانفتاحية للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل نحو اللاجئين. ووفق تقديرات أحد أجهزة الاستخبارات الألمانية، تضم البلاد حوالي 25 ألف يميني متطرف، وبلغت نسبة المتعاطفين مع اليمين المتطرف وأفكاره العنصرية نحو 2-3% من السكان.


دوائر التمييز والعنصرية

صور ودوائر العنصرية في ألمانيا لا تقتصر على شكل معين أو فئة واحدة بعينها. فكل من هو أجنبي حتى وإن ولد في ألمانيا وحصل على الجنسية الألمانية يُعد غريبًا ولا يتقبله المجتمع بسهولة.

فوفق دراسة ألمانية صادرة عن مجلس خبراء المؤسسات الألمانية للاندماج والهجرة على موقع الصحيفة البرلينية «مورغن بوست»، فإن «كل مهاجر في ألمانيا، أو ألماني من أصول مهاجرة ليست بشرته بيضاء، أو يرتدي الحجاب بالنسبة للنساء، ولديه ملامح غير ألمانية أو يتحدث الألمانية بلكنة أجنبية، كل هؤلاء يكونون أكثر عرضة للتمييز في ألمانيا من غيرهم».اعتمدت الدراسة في نتائجها على بيانات 5365 مُهاجر ، إذ طُرحت عليهم أسئلة حول عدة مواضيع متعلقة بالاندماج والتجارب في العمل والبحث عن السكن.

التمييز الديني

وفق تصنيف الصحيفة البرلينية «مورغن بوست»، فإن 55% من المسلمين المهاجرين أو من أصول مهاجرة أشاروا إلى أنهم تعرضوا للتمييز، مقابل 29% من المهاجرين المسيحيين و32% دون انتماء ديني.

ولا عجب، فاليمين المتطرف والنازيون الجدد لا يدخرون جهدًا في الدوائر المنتشرين فيها على بث أفكار من شأنها معاداة السامية وكراهية الإسلام. فكراهية الإسلام (الإسلاموفوبيا) من أبرز صور العنصرية في ألمانيا. فعلى الرغم من عدم شهود ألمانيا حدثًا إرهابيًا ضخمًا بعد أحداث 11 سبتمبر، فإن الهجمات الإرهابية المنتشرة حول العالم وضعت المسلمين في ألمانيا تحت رقابة متزايدة. فأصبح الألمان ينظرون إلى كل من هو مسلم بعين الريبة والشك. ذلك لأن كثيرًا من الألمان يربطون الإسلام بالأصولية والعنف، فلطالما أثارت مطالبات الجمعيات الإسلامية بإقامة مساجد في بعض المدن الألمانية الكبرى نقاشات ساخنة ورفضًا ومقاومة من قبل الألمان.

كما يعيش نحو 100 ألف يهودي في ألمانيا حياة غير طبيعية بسبب حالة الذعر المبرر بكل تأكيد من قبل الجماعات اليمينية المتطرفة. إذ كثيرًا ما يتعرض اليهود في ألمانيا إلى تهديدات وإهانات لفظية بل وإلى هجمات عنيفة من قبل معاديي السامية، لدرجة أن عددًا من زعماء اليهود في ألمانيا قد نصحوا اليهود بعدم ارتداء القلنسوة الخاصة بهم في الشوارع.

التمييز العرقي

الدين ليس فقط سببًا للعنصرية في ألمانيا، فذوو الأعراق الأجنبية ينالون نصيبهم من تلك العنصرية، إذ يشعر غالبية السود في ألمانيا أنهم لا يتمتعون بحق المواطنة الكاملة كباقي المواطنين. فتشير «سرايا جوميس»، وهي امرأة ألمانية من أب سنغالي وأم ألمانية ومتطوعة في إدارة التعليم في برلين ومناهضة للعنصرية، إلى أن الأشخاص ذوي الأصول المهاجرة كثيرًا ما يواجهون مواقف عنصرية إذا ما أرادوا دخول مطاعم على سبيل المثال، كما أنهم أكثر عرضة للرفض عند بحثهم عن سكن أو وظيفة أكثر من غيرهم.

مضيفة أن الشكاوى التي يتلقاها المكتب الاتحادي لمكافحة التمييز يوضح أن الأقليات العرقية في ألمانيا بحاجة إلى تطوير شكلها حتى لا تتعرض لذلك التقييم على أساس الشكل ولون البشرة. ففي إحدى الحالات التي تحدثت عنها سرايا، كان هناك شخص أسمر اللون يبلغ من العمر 19 سنة، كان مسافرًا بالحافلة من مدينة برلين إلى مدينة لايبزيغ في سلام إلى أن باغته سائق الحافلة قائلاً «لن أذهب إلى جنوب أفريقيا»! وفي حالة أخرى، رفضت شركة تأمين تدريب امرأة ذات بشرة سمراء،الأمر الذي دفع تلك المرأة إلى الاتصال بمكتب مكافحة التمييز بعد أن بررت شركة التأمين سبب رفضها أن الزبائن سيخافون منها.


قصص العنصرية في حياة المهاجرين واللاجئين

تعرض الكثير من اللاجئين إلى اعتداءات عنصرية من قبل من يعرفون بـ«النازيين الجدد»، تراوحت قصصهم بين مضايقات وتعطيل أوراق وضرب وصولاً إلى القتل. إذ تحكي لاجئة سورية تدعى آيات ذات (27 عاماً) أنها وبعد ستة أشهر من الانتظار من أجل تقديم أوراقها للجوء في برلين، تفاجأت بأن مسئولة المخيم الموجودة فيه، وهي امرأة ذات أصول نازية، قصدت إتلاف أوراقها. لم تكن آيات وحدها من تعرض لتلك الحيلة، فاللاجئ السوري عمار كذلك تعرض إلى إتلاف أوراقه على يد ذات المسئولة، ولم تثمر شكوتهما إلى السلطات سوى بنقل تلك المسئولة وسط تساهل شديد معها.

أما أحمد (30 عامًا)، فقال إنه بينما كان يسير في أحد شوارع مدينة ميونيخ الألمانية فاجأته امرأة كبيرة في السن بالتوجه نحوه بسرعة شديدة وصفعته بحقيبتها على وجهه، مضيفًا:

لم أعرف كيف أتصرف أو ماذا أقول، فقد كانت طاعنة في السن، وربما أخافها شكلي العربي أو حتى ذقني، ومن الواضح أنها لم تتمكن من إخفاء كرهها للاجئين.

بينما تحكي رشا، إحدى اللاجئات السوريات في العاصمة برلين، أن أحد أقربائها فقد حياته في جريمة غامضة، إذ وجدوه معلقاً من رقبته على شجرة في إحدى حدائق العاصمة، وعلى حسب وصفها تم التمثيل بجثته بطريقة بشعة. مضيفة أنه لم يكن له أي أعداء وأن الشرطة لم تبلغهم بالحادثة إلا بعد مرور ثلاثة أيام وقيدت الحادثة ضد مجهول، بينما أصرت عائلته على اتهام النازيين.

وروت ميريام في تدوينة لها على هاشتاج «مي تو»، التي كانت التدوينة الأكثر تفاعلاً على الهاشتاج، أنها بالرغم من حصولها على أعلى الدرجات حين كانت بالصف الدراسي الرابع، حاول مدرسها نهيها عن الانضمام لفصول المتميزين دراسيًا، إذ قال لها إنها يجب أن تنضم للفصول الأقل حيث الطلاب المشابهين لها. إلا أنها لم تلتفت إلى كلامه، وتابعت تطورها بنجاح بفصول المتفوقين بغض النظر عما قاله المعلم.

فيما ذكر حسنين كاظم،صحفي من أصل باكستاني يعيش بالنمسا حاليًا، أن والده الذي كان يعمل قبطانًا بإحدى سفن الشحن في ألمانيا، وكان قد صدر قرار بترحيله، حيث ذكرت المحكمة أن «موطن البحار البحر لا ألمانيا»!