مع أول لحظات شروق يوم حار جديد من أيام يوليو وقبل أن يزداد الصيف ازدحامًا، رحل عن عالمنا حرّيف السينما المصرية و صانع حكايات الشوارع، المصري بروحه وضحكته قبل أن يكون بأوراق هوية منحت له منذ عامين فقط؛ المخرج المبدع «محمد خان». ونحن هنا، وأسوة بتترات البداية في أفلام خان التي بدأها دومًا بإهداء من نوع خاص، نهدي ما نكتب إلى ضحكة محمد خان المصرية، تلك الضحكة البسيطة المميزة للغاية والمألوفه جدًا والتي صبغت أعماله بنفس البساطه والتميز والألفه التي جعلت من أفلام محمد خان إحدى العلامات المميزة لكل ما هو جميل في مصر.

كان أحد روّاد جيل الواقعية الجديدة في الثمانينات مع «دواود عبد السيد» و«عاطف الطيب» و«خيري بشارة»، ولكن واقعيته كانت من نوع خاص، نوع يحتفي بالأحلام وفي نفس الوقت يصور الواقع بلقطات قريبة ويعيد صياغه أبسط التفاصيل في حياة المصريين، نوع من السينما يبحث فيه أبطال حكاياته عن السعادة والتحرر من القيود، نوع استحق في النهاية أن نصف معه خان بأنه رائد مدرسة الواقعية الرومانسية في السينما المصرية.


راوي حواديت الشوارع

فيه ناس بتلعب كورة في الشارع، وناس بتمشي تغني تاخد صورة في الشارع. في ناس بتشتم بعض، تضرب بعض، تقتل بعض في الشارع. في ناس تنام ع الأرض في الشارع، وناس تبيع العرض في الشارع. في الشارع أخطاء كتير صبحت صحيحة، لكن صحيح هتكون فضيحة، لو يوم نسينا وبوسنا بعض في الشارع.

في فيلم «الحريف» اختار خان أن يروي حكاية حقيقية لعامل تحوّل لأسطورة في لعب الكرة في شوارع القاهرة، نصف حياة لصانع أحذية ونصف حياة لبطل في رهانات الحواري، فارس كما اختار خان أن يسمي بطله وبطل المصريين البسطاء، لا تشفع له موهبته في النهاية في تحسين مستوى معيشته ولكنها تظل سبيله في التعبير عن أنه ما زال حيًا. لم يتحطم ولم يخضع في النهاية رغم كل شيء، لتنتهي الحكاية بهدف أخير من فارس الذي اختار أن يلعب بجوار الفريق المهزوم بدلًا من المنتصر و بتحية من أحد الفاشلين إلى كل الناجحين.

يروي الناقد الكبير «محمود عبد الشكور» أنه أخبر خان أنه ربما يكرر اختيار اسم فارس في أعماله لتمجيد ابطاله؛ لأن خان ككل أبناء الجيل الذي نشأ في زمن ناصر، ظل البحث عن فارس يلازمهم حتى بين الغلابة. أعجب خان بالمعني كثيرًا، ضحك كثيرًا ولم يعلق.
كانت لديه هذه القدرة على قول الكثير دون كلام، لدرجة جعلت الكثير من مشاهده الأكثر صدقًا وفي نفس الوقت شعبية لدى جمهوره بلا حوار تقريبًا. حتى أن الكادر الأكثر استخدامًا بين محبيه للتعبير عن رثائهم له يوم وفاته كان مشهدًا يخبر فيه فارس “بطل الحريف” والده بوفاة والدته التي هجرها منذ فترة، ليكون الحوار:
-أمي ماتت يابا.
كلنا هنموت يا فارس، هات سيجارة.

هكذا وفقط؛ لنصبح أمام واحدة من أكثر لحظات الحزن صدقًا وشاعرية في تاريخ السينما المصرية.


عراف أحلام النساء

من فيلم فتاة المصنع

إذا عدنا إلى النظرية القائلة بأن كل الأفلام التي يصنعها المخرج في حياته ما هي في الحقيقية إلا فيلم واحد تم تصويره من زوايا مختلفه، ففي حالة محمد خان بطل هذا الفيلم سيكون وبلا أدنى شك امرأة، ربما يكون محمد خان وبلا منازع هو عراف أحلام النساء في السينما المصرية.

نساء خان جميلات، حالمات، وباحثات عن الحب. لعدسته سحر خاص فلن ترى «غادة عادل» بهذا القدر من السحر والملائكية كما رأيتها في «شقة مصر الجديدة» التحفه السينمائية الرومانسية الأبرز من وجه نظر كثيرين في سينما خان، ولن ترى «ياسمين رئيس» بهذا القدر من الجمال الطاغي والرغبة في التحدي ورفض الانكسار كما نراها في مشهد نهاية «فتاة المصنع»، حينما تقرر الرقص وهي مرفوعة الرأس في فرح الشاب الذي أغراها بالحب ثم تخلى عنها.

وإذا أردنا أن نحدد فيلمًا واحدًا لنتحدث عن نساء خان فسنتحدث وبلا شك عن «أحلام هند وكامليا» الذي قامت ببطولته ببراعة مفاجئه «نجلاء فتحي» و«عايدة رياض»، هنا نرى النموذج الأصدق لكفاح النساء في الواقع المصري، رغبتهن في التحرر، الثمن الذي يدفعنه في سبيل الاستقلال، لمعة عيونهن في لحظات الحب الذي لا يهتز إيمانهن به مهما حدث، دموعهن وانكساراتهن.

وسط مجتمع تعيش فيه النساء جحيمًا يوميًا ويفرض عليهن بؤس بالوراثة، وضحكاتهن المختلسه وسط كل هذا.

ودائمًا وأبدًا ورغم كل تفاصيل الواقع المؤلم التي ينقلها لنا خان يأبى إلا أن تنتهي أحزان النساء بضحكه. إما بتجدد الإيمان في الحب في ترديد «نجوى» لرقم تليفون «يحيى» أثناء مغادرة القطار في نهاية فيلم «في شقة مصر الجديدة»، أو في لهو «هند وكامليا» مع طفلتهما الصغيرة أحلام على شاطئ البحر في «أحلام هند وكامليا»، أو في رقصة الختام في «فتاة المصنع».


عن مصر الجميلة في أفلام خان

من فيلم فتاة المصنع

تحدثنا سريعًا عما تركه لنا مخرج عظيم يمكننا أن نصفه في ثلاث جمل بأنه رائد مدرسة الواقعية الرومانسية في السينما المصرية، راوي حواديت الشوارع والمهمشين والبسطاء، وعراف أحلام نساء مصر. ويمكننا أن نصفه ببساطة على طريقته بأنه رجل صاحب ضحكة لم تفارقه مهما زادت المحن، ضحكة انعكست على أعماله فعرضت مصر بصورة حقيقية وبسيطة ولكنها اعتصرت ما تبقى من لحظات جميلة في واقع صعب، ضحكة هونت علينا كثيرًا وستبقى معنا في كل مرة نشاهد فيها لقطاته القريبة لوجوه المصريين، لقطاته البعيدة لميادين مصر، وعلى وجه الخصوص لقطاته الخضراء الملونة والسعيدة لريف مصر.