في كندا، ذلك البلد الهادئ، يعيش أكاديمي يستدعي اسمه كثيرًا من الحماس والسخط والجدل الذي لا ينتهي. هذا هو جوردن بيترسون أستاذ علم النفس بجامعة تورنتو، والمُحاضر الشهير للغاية على اليوتيوب بما يقارب المليوني متابع في قناته على الموقع.

في أي قائمة للمثقفين الأكثر تأثيرًا في الغرب اليوم، سيكون بيترسون في المقدمة إن لم يحتل القمة. فالأسلوب الجاد والحكمة الحاسمة في لهجته تمنح كثيرًا من المترددين شيئًا متماسكًا يواجهون به سيولة العالم المعاصر، فهو يناقش كل شيء تقريبًا من علم النفس والميثولوجيا وصولًا لفلسفة الأخلاق والسياسة، بنبرة صارمة توحي بامتلاك حقيقة مطلقة ما، يبرزها بوجه خصومه المتمثلين في «سفسطائيي» ما بعد الحداثة (أو «الماركسيين المتنكرين» كما يصفهم)، واستبداديي الصوابية السياسية (كما يصفهم أيضًا)، والثقافة الليبرالية المعاصرة، وفوضى الحركة النسوية، بحيث يخوض معركة «نظام الرجل» ضد «فوضى الأنثى» كما يراها.

كما يحاول بيترسون تفسير فظائع الأنظمة الاستبدادية للقرن العشرين، وبناء نسق أخلاقي مستند إلى الأساطير التوراتية/المسيحية التي يؤمن بعالميتها عبر الثقاقات، وديمومتها عبر العصور.


علاج للفوضى

ربما شكّل خطاب بيترسون الأخلاقي أهم أسباب شهرته، فهو يمنح متابعيه نصائح عملية لمساعدتهم ذاتيًا؛ نصائح تمس حياتهم اليومية وتمنحهم «قيمة» ما. يستدعي بيترسون تقليدًا فلسفيًا يتحدث فيه عن/إلى الإنسان مباشرة، دون التعمق في البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وتعقيداتها. لقد شبع الناس كما يقول من خطاب «الحقوق» العام للغاية، ومن هنا ينطلق لشحذ المسئولية في النفوس، مؤمنًا بانعدام التمييز بين الفوضى الذاتية والعائلية والاجتماعية، انطلاقًا من أن «الحقائق الصغرى (طريقة العيش) هي ما تعكس حقائق الناس، وليس الشعارات الكبرى أو واجباتهم الأخلاقية المُبالغ فيها».

يُقر بيترسون بأن المعاناة هي الحقيقة الثابتة للحياة، وبأن الألم هو الحقيقة الوجودية الأساسية، مؤكدًا على كون «المعنى» الناتج عن «المسئولية» كفيلًا بالتكيف مع تلك الحياة القاسية، وليس «العدمية» (هنا يقتبس عن نيتشه مرارًا). لذا يمثل المعنى غريزة تعطي مؤشرات على الطريق الصحيح لحياة الفرد، بينما لا تمثل العدمية (على عكس الشائع) فقدانًا تامًا للمعنى، وإنما تحمل في طياتها إيمانًا بمعنى الحياة السلبي، وهو يظن أنه يمتلك الحل السحري والمتمثل في معنى الحياة الإيجابي، أي «المسئولية» النابعة من الصدق ضد الكذب الذي هو تشويه لعلاقة الإنسان بالواقع، وبالتالي لحالة الإنسان النفسية. الحياة صعبة، عنيدة لا تعترف بالضعفاء، وفوضوية، بينما يفضل البعض مواجهتها بالعدمية الساخرة التي «تدمر السعادة لكنها لا تدمر المأساة».

تحمل مسألتا الفوضى والنظام مكانة مركزية في أفكار بيترسون، بحيث كان عنوان كتابه الثاني «12 قاعدة للحياة: علاج للفوضى»، وهو مزيج من التربية النفسية بهدف تطوير الشخصية والأداء (بطريقة قريبة من التنمية البشرية) وفلسفة الأخلاق غير المرتبة، يستند فيه بترسون كليًا إلى تصوراته حول المسئولية، ونموذجه التفسيري للعالم كساحة للعمل (وصف بترسون هذا النموذج في كتابه الأول المعقد «خرائط المعنى»).

كما يستند بترسون إلى ثالوثه المكوّن من الأب والأم والابن، بحيث يمثل الأب الروح وحكمة الأسلاف والثقافة (حيث تتربع الأسطورة على القمة)، بينما تمثل الأم الأرض غير المكتشفة للطبيعة الإنسانية الخلّاقة والمُدمّرة، أما الابن فهو المتوسط بين الأب والأم: البطولة الإلهية الحاضرة في إبداع الكلمة وغريزة التدمير.

يرى بيترسون أن الحضارة الغربية تأسست على «أخلاق الفرد» الذي يمتلك قيمة جوهرية تكمن في الاعتراف بقدرته على «توليد النظام» من الفوضى. هذه القيمة مغروسة في الميثولوجيا المؤسسة للغرب، أي في التراث اليهودي-المسيحي. هنا يُظهر بيترسون تأثره بكارل يونغ، المحلل النفسي «الغنوصي» الذي آمن بالأساطير القديمة القابعة في أعماق العالم الحديث وعدّها بمثابة الأساس النفسي للأخلاق.

يستند بيترسون إذًا إلى تصور يونغ عن «النماذج الأولى» أو «المُثل» بلغة أفلاطون، التي تمثل نماذج فطرية عالمية للأفكار والقيم، ويمكن التعامل معها باعتبارها «أجهزة نفسية» تتحكم في عمل الدوافع وتشكيل الداخل الأخلاقي العميق للفرد، حيث الأسطورة على قمة هرم النماذج وبالتالي على قمة هرم الأخلاق، حيث «الفضيلة» أو «الاستقامة» أو «الفاعلية» تعني أن هناك احتمالية ضئيلة لانخراط الفرد في أفعال شريرة، كما تعني أيضًا سعي الإنسان لشيء متعال/مُفارق أيًا يكن.

يتمثل علاج بيترسون المقترح في نقطتين أساسيتين:

1. وجود بنية هيكلية للتفاوض والمناقشة بين البشر على أساس قواعد، والقدرة على توقع المشكلات، والروتين (وبالتالي المسئولية) الذي يحكم حياة الفرد.

2. القدرة على مواجهة المستجدات والإمساك بزمام الأمور بحسم عبر تغيير القواعد بمرونة.

وهو يهاجم النسبية الأخلاقية على أساس إمكانية تبديل القواعد لكن ليس إلغاؤها. هناك «ضروة للقواعد» يعدّها بيترسون بمثابة «قضية كل إنسان في كل زمان».

يمتد أثر الأسطورة إلى أفكار بيترسون حول فظائع القرن العشرين الستالينية والنازية (حيث يساوي بين الشمولية النازية والشيوعية). هناك «قابيل»، الفرد الغاضب الناقم لعدم تحمل مسئولية وجوده الخاص ولومه على من حوله. اعتقد قابيل أن الأمور غير عادلة في جوهرها، وهكذا لم يجد صعوبة في معاملة من حوله بلا إنصاف أو تعاطف. بالنسبة لبيترسون، فإن قابيل بطريقة ما يمثل سلفًا لهتلر وستالين، حيث قادهما نفس العداء إلى ارتكاب الفظائغ مستخدمين اليوتوبيا كغطاء، يحركهما مبدأ «إذا كنت تعتقد أن الأمور غير عادلة في جوهرها، فلماذا ستعامل أي أحد بشفقة أو عدالة».

ملخص الأخلاق عند بيترسون أنه لا بد من الإيمان بمثالٍ متعالٍ، والاقتناع بأن كل إنسان يعرف على الأقل ما هو «غير جيد»، وبأن «الرجل الأبيض العقلاني» رمز النظام، في مقابل «فوضى الأنثى»، وأنه لابد من بعث روح الذكورة لبعث النظام داخل المجتمع.


الحرب على «الفوضى»

يعتقد بيترسون بوجود آلة تعمل على «تقويض البناء الحضاري الغربي»، تحتل الجامعات وكل مجال العلوم الإنسانية، لتعلن حربها على الفرد. كان ذلك منذ أن أعلن جان فرانسوا ليوتار في بداية الثمانينيات نهاية السرديات الكبرى للتاريخ، واكتشف جاك دريدا «التفكيك» والطرق اللانهائية لتأويل النصوص، وحوّل المثقفون الفرنسيون الدفة من «الترهات» الاقتصادية للماركسية المنهزمة منذ نهاية السبعينيات، حيث لم يعد أحد «عاقل» يجرأ على وصف نفسه بأنه «ماركسي»، إلى «ترهات» أخرى تمثلت في «السياسة الحيوية» و«سياسات الهوية».

بالنسبة لبيترسون، فقد تنكر الماركسيون القدامى في صورة ما بعد الحداثة. وبرغم اتفاقه مع دريدا حول أطروحة «التأويل اللانهائي للنصوص» فإنه يعارض كليًا تفسير الاضطهاد على أسس ثقافية، ليقدم تفسيره الخاص للمعاناة (الذي لا يصعب وصفه بالسذاجة والميتافيزيقية الهائمة فيما وراء التاريخ والمجتمع) والمتمثل في «الصعوبة الجنونية للحياة».

يوجه إلى ما بعد الحداثيين تهمة «تقويض الفرد» الذي يمثل أساس الحضارة الغربية، وبالتالي تقويض المجتمع الغربي القائم على «الألوهية الفردية» التي تعمل قوة مناهضة «لاستبداد الثفافة ورعب الطبيعة»، «إنهم لا يعيرون اهتمامًا بمن أنت ولكن لأي مجموعة تنتمي».

يحاجج بترسون بالخطورة الناتجة عن الطريقة التي يمكن بها تصنيف عدد لا نهائي من المجموعات الهوياتية والتلاعب بها، «المجموعات الهوياتية يمكنها أن تتضاعف دون حدود». يصف بيترسون ذلك بالخطأ القاتل الذي يهدد بالقضاء على اليسار وعلى السياسة بأكملها إذا استمر الضغط على الانتماءات الهوياتية بطريقة تقوّض المجال السياسي.

عبر تشويه مفهوم الهوية ما بعد الحداثي، يحاجج بيترسون بأن «ربط تفكير أحدهم بهويته (كما تفعل ما بعد الحداثة في رأيه) هو العنصرية بذاتها». كما يقارن بين الخط الأحمر الموضوع من قبل الإعلام للمحافظين، والمتمثل في خطاب «التفوق العنصري»، وبين انعدام الخطوط الحمراء لدى هؤلاء اليساريين والليبراليين الراديكاليين (ما بعد الحداثيين)، حيث يحدد مسألة «المساواة في الدخل» كخط أحمر ينبغي وضعه أمامهم.

يصف بيترسون نفسه بأنه «ليبرالي بريطاني كلاسيكي» و«فرداني» (Individualist)، يؤمن بوجود فوارق طبيعية بين البشر، منتقدًا التسامح الليبرالي المعاصر (الذي يراه متأثرًا بما بعد الحداثة) الذي يلغي «المسئولية الفردية» عندما يساوي بين الجميع مهما تصرفوا بطرق مختلفة فيما بينهم؛ التسامح الذي وصل حدوده القصوى مع انتشار «الصوابية السياسية».

منذ نهاية السبعينيات، تصاعدت دعوات «الصوابية السياسية» النسوية/ما بعد الحداثية التي تهدف لإنتاج خطاب (أيًا كان نوعه) يتجنب الإساءة أو التهميش أو الاستبعاد أو الإهانة لأي مجموعة هوياتية ما، خاصة تلك المجموعات القائمة على العرق أو الميول الجنسية. امتد تأثير الصوابية إلى علم النفس، وتم تبني بعض مطالبها من قبل عدة حكومات غربية عبر القرن الحالي في مقدمتها الحكومة الكندية.

عارض بيترسون كتيبًا إرشاديًا كنديًا مختصًا بالعلاج النفسي للأطفال والرجال، يستهدف هذا الكتيب تحجيم الثقافة الذكورية لدى الطفل أو الرجل، في حين يرى بيترسون أن الذكورية التقليدية غير مؤذية، وحجته في ذلك أن العامل المسبب لخطر السلوك الاجتماعي المنحرف أو الإجرامي لدى الأطفال يزداد في حالة عدم وجود أب.

في 2016، خاض بيترسون معركة إعلامية حول القانون الكندي لعدم التمييز Bill C-16 الذي يحظر التمييز على أساس الهوية الجنسية. أتاح القانون حرية استعمال/استحداث ضمائر الإشارة اللغوية غير المرتبطة بالثانئية الذكورية/الأنثوية، واحترام حق الفرد في إقرار أي الضمائر (حتى المحايد منها) يمكن أن ينادى به/بها، واعتبار مخالفة ذلك إهانة/تمييز موجه ضده/ها.

في لقاء جماهيري، وجّه رئيس الوزراء جاستن ترودو إحدى الشابات بقول «People kind» بدلًا من «Man kind». يرى بيترسون أن ذلك النوع من الرقابة قمعي في جوهره، ويهدد حرية التعبير في مقتل؛ إنها برأيه العدمية التي تنكر الانقسام الطبيعي البيولوجي بين الرجل والمرأة (حيث يعتبر الفوارق طبيعية بيولوجية قبل أن تكون حتى سيكولوجية) لصالح نظرية «النوع الاجتماعي» التي تقول باختصار بتعددية الميول الجنسية وبالنشأة الاجتماعية غير البيولوجية لتلك الميول.

كما يرى بيترسون أن هنالك رغبة من أتباع ما بعد الحداثة السياسية والنسوية في التحكم في اللغة بالقوة والخوف، وليس بشكل طبيعي تنتجه اللغة ذاتها التي تتطور بمرور الوقت. ويعتقد أن «خطاب الكراهية» يجب أن يظل حرًا لأن المشكلة في رأيه تظل في من يصفه بالكراهية.