محاولة أخرى لهوليوود بالدفع بالسردية الإسرائيلية لحرب أكتوبر 1973م، من خلال فيلم «جولدا Golda» للمخرج الإسرائيلي «جاي ناتيف»، والسيناريست البريطاني «نيكولاس مارتن»، وبطولة «هيلين ميرين» التي تُجسد شخصية «جولدا مَئير»، خلال أيام الحرب أكتوبر.

ولكن ماذا حدث في غرفة القيادة، التي كانت «جولدا» المرأة الوحيدة بها!

خمسة أشهر قبل يوم كيبور (يوم الغفران)

تعتبر حرب أكتوبر الحرب الخامسة خلال سبعة وعشرين عامًا من قيام دولة الاحتلال، اندلعت الحرب يوم 6 أكتوبر، ولكن لا بد أن نعود إلى ما قبل هذا التاريخ، لنرى الصورة واضحة.

 شهر مايو 1973م وصلت معلومات لجولدا تؤكد تعزيز القوات المصرية والسورية على الحدود، وعرض موقع أرشيف الدولة وأرشيف جيش الاحتلال الإسرائيلي شهادات قادة إسرائيل بعد الهزيمة وهى شهادات سُجلت أثناء لجنة التحقيقات التي عقدت بعد عام من الهزيمة وتُسمى «אגרנט – أجرانات[1]»، التي اُفرج عنها كيان الاحتلال عام 2013م، كما سنجد جزءًا منها كتبته «جولدا مَئير» في كتابها «حياتي».

في شهر مايو أكد رجال مخابرات إمكانية اندلاع الحرب، فالتقت «جولدا» وزير الدفاع ورئيس الأركان «دافيد إليعازر» المعروف باسم «دادو»، واستعرضت معهما درجة استعداد القوات الاسرائيلية، واقتنعت «جولدا» بأن الجيش مستعد لكافة الطوارئ بما في ذلك الحرب الشاملة، تلقوا معلومات عن احتشاد القوات السورية في مرتفعات «الجولان»، وفي اليوم الثالث عشر من هذا الشهر وقعت معركة جوية تم فيها إسقاط 13 طائرة سورية من طراز ميج، ورغم ذلك أكد لها رجال المخابرات أنهم لا يتوقعون أن يقوم السوريون برد فعل كبير، ولكن يمكن لهذا التوتر أن يمتد للمصريين.

وظل هذا التقدير مستمرًا، ليوم 1 أكتوبر، كانت جولدا وقتها مسافرة إلى «أوروبا» حين اتصل بها «يسرائيل جاليالي» في «استراسبورج»، مبلغًا إياها بما دار بينه وبين «موشيه دايان» من نقاش حول الموقف في الجولان، وعقدت «جولدا» الاجتماع عندما عادت من أوروبا.

 3 أكتوبر صباحًا

عُقد الاجتماع مع ديان وإلون وجاليلي وقائد سلاح الطيران ورئيس الأركان ورئيس الأبحاث العسكرية في المخابرات؛ تلاه رئيس الأبحاث العسكرية وقدم عرضًا مُفصلًا على الجبهتين.

وكانت هناك أمور كثيرة تثير قلق «جولدا» ولكن تلخص الموقف العسكري حينها، بأن إسرائيل لا تواجه خطر هجوم مصري سوري، والأكثر من ذلك ألا يبدو حتى إن سوريا ستهاجم بمفردها.

أما تفسيرهم لتحرك حشود القوات المصرية وتحركاتها في الجنوب فهي على الأرجح المناورات التي تجري في مثل هذا الوقت من العام، وبقي نفس التفسير لتحرك القوات السورية في الشمال، وفُسر نقل الوحدات السورية في الشمال من الحدود السورية الأردنية لحسن نياتها اتجاه الأردن، ولم يجد أحد من المجتمعين ضرورة لاستدعاء الاحتياطي، ولم يفكر أحد في أن الحرب وشيكة.

يوم الجمعة 5 أكتوبر

تلقت القيادة الإسرائيلية تقريرًا يفيد بأن عائلات المستشارين الروس في سوريا، تحزم أمتعتها وترحل على عجل، تساءلت وقتها جولدا، لماذا العجلة؟ وهل هي عملية إخلاء؟ سألت «جولدا» كُلًا من وزير الدفاع ورئيس المخابرات عما إذا كانت هذه المعلومة تعتبر مهمة، فوجدت أنها لم تغير من تقديرهما للموقف، وكما أن هناك تعزيزات قد تم إرسالها إلى الجبهات لصد أي عمليات عند اللزوم، وتم اتخاذ اللازم فوضع الجيش في أقصى حالات التأهب وبخاصة الطيران والمدرعات.

أرادت وقتها جولدا عقد اجتماع مع الوزراء الذين سيمضون عطلة «يوم كيبور» في تل أبيب على الأقل، ولكن لم تجد منهم إلا القليل، ترددت في عقد اجتماع مع وزيري الحزب القومي الديني اللذين يقيمان في القدس، وعقدوا الاجتماع بالفعل في مكتبها في تل أبيب واشترك فيه إضافة إلى الوزراء، ورئيس الأركان ورئيس المخابرات، واستعرضوا كافة التقارير التي وصلتهم، بما فيها تلك المعلومة عن الرحيل العاجل لأسر الخبراء الروس من سوريا.

اقترحت «جولدا» أن تتصل بالأمريكان؛ لكي يبلغوا الروس بوضوح أن الولايات المتحدة ليست في حالة تسمح لها بقبول المتاعب، وانتهى الاجتماع، ولكنها ظلت في مكتبها، في حالة قلق رغم تأكيد رئيس الأركان السابقين موشيه دايان وحاييم بارليف الذي كان رئيس المخابرات وقتها، كلهم يؤكدون أن الحرب بعيدة! وهم جنرالات ذوو خبرة عالية، ومن الرجال الذين قادوا الآخرين في معارك وانتصارات ولكل منهم سجل عسكري حافل، أما المخابرات فمعروف عنها أنها من بين أحسن المخابرات في العالم (على لسان جولدا في كتابها حياتي) وليس هذا فحسب، بل إن المصادر الأجنبية التي كانوا على اتصال بها[2] وافقت على التقديرات التي أقرها الخبراء في وزارة جولدا.

المرأة الوحيدة بالغرفة

يوم كيبور[3] – يوم الغفران السادس من أكتوبر، أرّخ لنا البروفسور «ميرون ميدزيني» وهو أستاذ الدراسات الآسيوية في الجامعة العبرية بالقدس، في كتابه «Golda Meir: A Political Biography» وكتاب أخر «Golda Meir: A Reference Guide to Her Life and Works»، يوم بداية الحرب بصورة واضحة جلية، وكيف اتخذت «جولدا» قرارات حاسمة من وجهة نظره، وتأثير تلك الحرب والهزيمة على كل إسرائيل.

في الرابعة صباحًا يوم 6 أكتوبر أيقظها «ليئور» سكرتيرها العسكري بمكالمة هاتفية، يقول فيها: «جولدا، الحرب ستندلع اليوم»، وأن المصريين والسوريين سوف يشنون هجومًا مشتركًا في وقت متأخر من بعد ظهر اليوم، طلبت من ليئور أن يعقد اجتماعًا مع «ديان – دادو – جاليلي»، أن يكونوا في مكتبها قبل الساعة السابعة صباحًا.

بدأ الاجتماع في الساعة الثامنة صباحًا، وكان كل اهتمام «ديان ودادو» موجهًا نحو حجم الاستنفار، فأوصى رئيس الأركان كل سلاح الطيران وأربع فرق وقال: إنه إذا تم الاستدعاء فورًا فسيكون بإمكان هذه القوات أن تتحرك وتعمل في صباح اليوم التالي، أي الأحد أما ديان فكان يحبذ من ناحية أخرى، استدعاء سلاح الطيران وفرقتين (أحداهما للشمال والأخرى للجنوب).

برر ذلك بأننا لو أعلنّا حالة التعبئة العامة قبل إطلاق رصاصة واحدة، فسوف نعطي العالم الحجة لاتهامنا بأننا معتدون، وكان يرى إلى جانب ذلك، أن سلاح الطيران وفرقتين في مقدورها معالجة الموقف، فإذا ما ساء الموقف في المساء فإن بإمكاننا استدعاء مزيد خلال ساعات، وكان على جولدا أن تقرر ما هو صواب من بين تلك المقترحين.

استدعت جولدا سفير أمريكا «كيث كينيج» وأبلغته أمرين، أنه طبقًا لتقارير المخابرات فإن الهجوم سوف يبدأ في ساعة متأخرة من بعد الظهر، وإننا لن نبدأ الضربة الأولى.

بدء صفارات الحرب

خلال اجتماع مائير مع السفير الأمريكي دفع السكرتير العسكري باب غرفة الاجتماع حاملًا الأنباء، بأن الضرب قد بدأ وسمعوا في نفس اللحظة تقريبًا نعيق صفارات الإنذار في تل أبيب وبدأت الحرب.

نظريًا، كان هناك تفوق ساحق على الجيش الإسرائيلي من حيث الأسلحة والدبابات والطائرات والرجال، ولم تكن الصدمة في الطريقة التي بدأت بها الحرب، ولكن أيضًا في حقيقة أن عددًا من افتراضات الخبراء الإسرائيليين قد ثبت خطؤها!

في عصر اليوم التالي من بداية الحرب، عاد «ياني» من إحدى الجولات في الجبهة، وطلب مقابلة جولدا، وعندما قابلته أبلغها أن الموقف في الجنوب قد وصل إلى درجة من السوء إلى حد أننا يجب أن نقوم بالانسحاب الجذري، ونقيم خطًا جديدًا لدفاع، شكلوا اجتماعًا مع كل أعضاء الحكومة، وحصلت جولدا على الموافقة منهم بهجوم مضاد يوم 8 أكتوبر على المصريين.

وخلال يوم 8 أكتوبر، عبر المصريون القناة، وتحطمت كل القوات الإسرائيلية، وتغلل السوريون في عمق مرتفعات الجولان. على صعيد آخر كان هناك تساؤل مُلح، هل تُعلن جولدا للمواطنين ما يحدث؟!

هنا قالت جولدا إنها كانت من أشق المهام، فهي لا يمكن أن تقول ما يحدث، وصرّحت ببيان لها وقتها: «بأنهم يقومون بالتعبئة الاحتياطي ويدفعون إلى معركة وإنه ليس هناك شك في إننا سوف ننتصر، وإننا فعلنا كل ما يجب من أجل منع اندلاع الحرب، لكن الهجوم المصري السوري بدأ».

واستمر الوضع هكذا وإضافة إلى نقص في الطائرات الحربية الإسرائيلية، وبعد طلب جولدا من الرئيس نيكسون بإرسال الإمداد العسكري اللازم، في حين أن شحنات الأسلحة الروسية مستمرة في الوصول لمصر وسوريا بمعدل كبير.

في اليوم التاسع من الحرب أرسل نيكسون طائرات جالكسي ووصلت أول دفعة إلى مطار اللد، وقد احضرت طائرات الجالكسي الدبابات والذخائر والملابس والامدادات الطبية وصواريخ الجو.

لا يُمكن أن أسامح نفسي

«لقد عانيت، ولكني أعطيت الأوامر كما يعطيها الرجال»، هكذا صرّحت جولدا في محاورة لها مع الصحفية الإيطالية «أورينا فالاسي» والتي كانت من ضمن محاورات أخرى مع رؤساء بلاد مختلفين ضمتها في كتاب باسم «Interview with History»، وهذا بعد حرب أكتوبر بعام واحد.

وتقول جولدا في كتابها «حياتي»: كان في صباح الجمعة هذا كان يجب أن أستمع إلى إنذار قلبي وأستدعي كل جيوش الاحتياط والأمر بالتعبئة أن هذه الحقيقة (بالنسبة لي) لا يمكن أن تنمحي، ليس هناك أي عزاء فيما قد يقوله أحد أو في التهدئة والتحجج بالعقل حول زملائي تهدئني له، وليس المهم ما يمليه المنطق، وأنا التي تعودت على اتخاذ القرارات والتي أصدرتها فعلًا خلال الحرب، قد فشلت في اتخاذ هذا القرار، ليست المسألة شعورًا بالذنب، فنظرًا لرأي خبرائنا والرجال العسكريين كان لا يمكن أن أصدر قرار التعبئة، ولكنني أعلم أنه كان عليَّ أن أفعل ذلك، وسوف أحيا بهذا الحلم المفزع بقية حياتي، ولن أعود مرة أخرى ذلك الشخص الذي كنته قبل حرب يوم كيبور.

المراجع
  1. אגרנט: نسبة إلى اسم القاضي الإسرائيلي الذي ترأس الجلسات، وهو شمعون أجرانات.
  2. تم شطب اسم المصادر من قبل الرقابة العسكرية السرية، مثلها مثل العديد من السطور من الشهادة الخاصة بجولدا مئير، وغيرها من قيادات تلك الفترة.
  3. يعد يوم كيبور أو الغفران أهم الأعياد اليهودية على الإطلاق ويحل في العاشر من تشري (السابع في التقويم العبري) وهو يوم يطلب به اليهودي الغفران من الرب والعفو عن الخطايا والآثام، مطلوب من اليهودي، طبقًا للتوراة، أن يعذّب/يجعل نفسه تعاني فيه وقد فسّر الحكماء معاناة النفس هذه بخمسة ممنوعات؛ الطعام والشراب، التطيّب، الاغتسال، انتعال النعل، وكل شيء.