لم تكن قضية موت الإنسان الفلسفية كما تناولها هيدجر وفوكو أمراً رمزياً ومعنوياً وحسب، فعندما نتأمل في إحصاءات ظاهرة الانتحار في العالم خلال القرن العشرين، وخلال العقد الفائت أيضاً من قرننا الراهن، سندرك أن الحياة بالنسبة للكثيرين في الزمن الحديث أضحت مسألة مؤلمة في حد ذاتها، حيث قدرت حالات الانتحار في العالم في تلك الفترة المشار إليها ما بين 800 ألف إلى مليون كل عام تقريبًا، ذلك فضلاً عن محاولات الانتحار الفاشلة التي تبلغ على الأرجح أضعاف هذه النسبة.

كل هذا في ظل انتشار واسع للأمراض والاضطرابات النفسية التي تزايدت بشكل هائل وغير مسبوق خلال القرن الماضي كما تظهر العديد من الإحصاءات العالمية.

في هذا الإطار لعلنا لا نبتعد عن الحقيقة كثيراً بنهاية المطاف، عندما نقول، إنه وبالرغم من كل الآلام والصعوبات التي امتلأ بها عالم الإنسان التقليدي في الماضي، فإنه رغم ذلك كان عالماً ينبض بالحياة مقارنة بعالم اليوم،ولعل هذا هو السبب الحقيقي بالفعل لميل معظم البشر فى زمننا الراهن إلى الحنين إلى الماضي، الذي يتمثل في ظاهرة النوستالجيا واسعة الانتشار، والقياسية بلا شك في عموم التجربة الإنسانية.

حيث انتقلت تلك الظاهرة إلى حيز الوجود بمعناها المعروف اليوم مع دخول أوروبا في الأزمنة الحديثة تحديداً، حيث كانت في السابق تطلق على الحنين إلى الموطن والبيئة التي نشأ فيها الإنسان، ثم تحولت في تزامن لافت مع بدايات الحداثة الغربية، من مشاعر ترتبط بالمكان إلى حنين جارف إلى الأزمنة القديمة.


العنف الناعم والخفي

أطلق إميل دوركهايم على الإطار الذي يغلف تلك الظواهر النفسية الحديثة التي تناولناها آنفاً، كانتشار الأمراض النفسية وزيادة نسبة الانتحار، مصطلح «انعدام المعايير – Anomie»، ورأى أن ذلك هو أهم سبب للانتحار تحديداً الذي لاحظ من خلال أبحاثه الاجتماعية أنه يزداد إحصائيا كلما زاد التصنيع ومن ثم التحديث، وكان دوركهايم في هذا الإطار يشير بمسألة انعدام النظام إلى تلف كل الروابط الاجتماعية التقليدية، الناجم عن تحول كل نظام اجتماعي حقيقي إلى شيء ثانوي بالنسبة إلى الدولة، مما أدى إلى فناء الحياة الاجتماعية الحقيقية، في مقابل سيادة رابط جمعي صوري [فروم، ص181].

قدم أيضاً عالم الاجتماع الألماني فرديناند تونيز كذلك تحليلاً مشابهًا أيضاً للمجتمعات الحديثة، ميز من خلاله بين الاجتماع التقليدي والمجتمع الحديث الذي زالت فيه الروابط الحقيقية التي تجمع بين البشر.

ربما يعجز الكثير من غير المهتمين بالعلوم الاجتماعية، في ظل المسلمات التي تربوا عليها، عن فهم فكرة «انعدام المعايير» لدوركهايم بسبب مستوى حضور الدولة الكثيف والطاغي والمسلم به كأنه أمر بدهي. الذي غطى تماماً على الحضور التاريخي القديم للتكوينات الاجتماعية الحقيقية كالعائلة والعشيرة، الذي كان في الماضي أقوى بمراحل في حياة الأفراد من حضور فكرة الدولة بذلك المستوى الراهن فى الأزمنة الحديثة.

وهو الحضور الذي ترافق معه تذرر غير مسبوق للجنس البشرى، أضحى عموم الناس من خلاله مجرد أفراد معزولين محدودي القيمة، دون أطر اجتماعية تجمعهم، أمام تلك الدولة ذات الطابع المتخيل من الأساس، الشبيه بالمصفوفة الوهمية فى سلسلة أفلام (The Matrix) الشهيرة.

تقول الكاتبة والوزيرة الفرنسية السابقة سيمون فيل في إطار علاقة الدولة الحديثة بهذا العنف المستتر، إن عنف الدولة الحديثة في جوهره، يتمثل بشكل رئيسي، في مسألة قلع جذور الإنسان في ما قبل الحداثة، وإحداث قطيعة تاريخية مع ماضيه وعالمه القديم وبناه الاجتماعية، حيث كانت الحروب العالمية، والاعتقالات والإبادات الجماعية، رغم بشاعتها أقل خطراً بالنهاية من نظام الدولة الحديث، وذلك لأن «عبادة الدولة» على حد تعبيرها، فرضت مستوى ودرجة من الارتباط بتلك الأخيرة، حجبت سائر الارتباطات الإنسانية الأخرى كالأرض والأسرة والتقاليد [إدوارد سعيد 2003].

على مستوى آخر، يمكننا فقط أن ننظر متأملين في جزء من أخبار الحوادث الجنائية التي تعرضها صفحات الجرائد اليومية على المستوى العالم، حتى نعرف جانباً من حقيقة العالم الذي نعيش فيه اليوم. ولعل العديد منا لا يستطيع أن يحتمل قراءة ذلك النوع من الأخبار من الإساس لفرط قسوة وعنف الجرائم التي تعرضها، ولكن رغم ذلك العجز عن التعاطي التحليلي اليومي لتلك المساحات الإخبارية، التي تحظى به في المقابل ملفات وقضايا السياسة، تظل بالنهاية تلك المساحات،للمفارقة، هي النافذة الأكثر تعبيراً عن حقيقة الوجه الخفي للحياة الاجتماعية الحديثة.

بينما هذا هو حال البشرية اليوم، تبدو في المقابل حياة الإنسان في القرون الوسطى التي توصف بالعصور المظلمة شيئاً مختلفاً تماماً، حيث كان الإنسان خلالها على سبيل المثال، يستطيع أن يتحرك بين أقطار الأرض، ولاسيما في العالم الإسلامي بأمان وحرية كبيرة لا تقارن بقيود عالم اليوم، وكان بإمكانه أثناء سفره هذا أن يطرق أي باب، حيث كانت قواعد الضيافة في عالم البشر التقليدي المندثر تلزم إكرامه وإطعامه والسماح له بالبيات، وكان يستطيع الإنسان أيضاً في ذلك العالم الذي ذهب مع الريح أن يشارك الركب مع أصحاب الدواب إذا توفر له مكان واتحدت بينهما وجهة الطريق، وهو أمر غنيّ عن الذكر أنه شيء نادر الحدوث جداً في زمننا الراهن، حيث لا يأمن الناس بعضهم بعضاً بصورة لافتة.

وقد كانت المنازل في الماضي في هذا الإطار، مشرعة الأبواب لا تُغلق إلا فيما ندر، ولم تكن هناك مفاتيح تقريباً للبيوت كما يخبرنا الأسلاف، بل ربما كانت مداخل بعض البيوت أحياناً بلا أبواب من الأساس، بينما الآن لا يأمن الفرد ولديه باب خشبي واحد، بل يضع البعض أحياناً أبوابًا حديدية خارجية، وسلاسل معدنية ومغاليق عدة، وهذا يدفعنا للتساؤل، ما الذي تغير وجعل البشر يشعرون اليوم بكل هذا الإحساس من انعدام الأمان، وأدى إلى فقدان الثقة بين البشر بعضهم البعض بهذا الشكل؟

لعل الإجابة على ذلك تكمن في أن الاجتماع الإنساني التقليدي، كان يصنع على الأرجح اتساقاً بين كل من، سلطة الضمير على النفس والمعايير الأخلاقية السائدة والأعراف الاجتماعية المستقرة والقوانين المطبقة، بشكل ينسجم خلاله كل ما سبق فى نسق واحد متصل،من خلال الأديان والشرائع الدينية السائدة في الماضي التي كانت تنظم كل ذلك في إطار شبه واحد.

بنهاية المطاف أدى تقويض المرجعية الدينية للاجتماع البشري في الدول الحديثة بصورة أساسية، بجانب الأساس الخاوي أخلاقيا لتلك الدولة القائمة على فكرة احتكار العنف والقدرة على تنظيمه، إلى تفكك الأطر العامة الناظمة للسلوك الإنساني في الأخير، بحيث فقدت الأخلاق وحدتها المعيارية، وتضاربت مرجعية الضمير الشخصي الذي ظل متعلقًا بصورة كبيرة بالدين، مع مرجعية النظام القانوني الذي أضحى في اتجاه آخر يعبر بشكل أساسي عن المصالح التعاقدية وعلاقات القوة في المجتمع، وهو ما أضعف بالنهاية من سلطة القانون، وأوهن في الوقت نفسه من سلطة الأخلاق، مما أدى في الأخير إلى حدوث شرخ عميق فى النفس البشرية يصعب رأبه.


تفكك الإنسان والاجتماع التقليدي

في سياق أدبي وإن كان مختلفاً ولكنه لا يبتعد فى الحقيقة كثيراً عن حديثنا هنا، يكتب الناقد الأمريكي والاس مارتن [حموده 1998، ص58] ويقول:

كان هناك وقت اشترك فيه الله والإنسان والطبيعة واللغة كل في الآخر، وكانت القصيدة تجسد الأشياء التي تسميها،ثم حدث انشطار في الوحدة الثقافية للإنسان والله والطبيعة واللغة، وفي ذلك الانشطار يكمن السبب في الإخفاق المعاصر في فهم المعاني الرمزية لعالم العصور الوسطى المندثر، حيث تحول بالنهاية ذلك الانفصام المعاصر الذي نتج عن الحداثة وبعض مدارسها كالبنيوية وما بعد البنيوية، بين الكلمات والأشياء، وبين الدال والمدلول، وبين الذات والموضوع، إلى صندوق باندورا خرج منه كل اتجاهات الذاتية والعدمية والنسبية التاريخية الراهنة.

انعكس كل هذا الانشطار بين اللغة والمعاني وبين الدين والقانون وبين الأخلاق والسياسة. في الأخير، على المعنى الكلي للحياة، الذي انحسر عنها وأصبحت معه حياة البشر ككل غير ذات معنى أو غاية واضحة.

لهذا السبب شهد القرن العشرين العديد من الكتابات النقدية التي تعبر عن حالة التوتر، وزيادة مساحات الاضطراب في التركيبة النفسية للإنسان، حيث ضربت الجذور العميقة للقلق امتداداتها في البنية النفسية لكل فرد الآن تقريبًا، كما يقول رينيه ديبو، الذي ذهب إلى أن أكبر مشكلة يواجهها الإنسان المعاصر، هو شعور هذا الأخير أن الحياة فقدت معناها، وأن أنماط الحياة المستحدثة غير التقليدية التي يعيشها معظم الناس الآن، تخنق وتعطل السيرورات الحيوية والضرورية لسلامة الإنسان النفسية والعقلية [نويري 2005].

من أهم الكتابات كذلك في هذا السياق الذي يتناول تداعيات وآثار تلك الأزمات المرتبطة بنتائج العنف الخفي للدولة الحديثة، الذي يمثل انعكاساً للأساس الذي تقوم عليه، والقائم بدوره على العنف، وليس الدين أو الأخلاق على سبيل المثال، أعمال أندريه مارلو مثل «غواية الغرب» و«مصير البشر»، وكتاب الفيلسوف الأمريكي تشارلز فرنكل «أزمة الإنسان الحديث»، ومؤلفات الكاتب الإنجليزي كولون ولسون الشهيرة كـ«اللامنتمي» و«رحلة نحو البداية» و«سقوط الحضارة» [نويري 2005].

وفيما يتعلق بمسألة السلطة والعنف، تختلف الدولة الحديثة عن الدول التقليدية تاريخياً في أن تلك الأخيرة لم تحتكر وحدها عموماً مسألة استخدام القوة، حيث كانت تسمح إلى حد ما بوجود تكوينات اجتماعية مسلحة، وفي إطار توازن معين للقوى كانت تلك التكوينات الفرعية تقدم ولاءتها للسلطة مقابل تحقيق قدر من الاستقلال النسبي لها، ولم تعمل الدول القديمة في هذا الإطار كما يُلاحظ على تعطيل أو إلغاء التكوينات الاجتماعية التقليدية كالعشائر والقبائل ومختلف أشكال القيادات الاجتماعية المحلية التقليدية.

ولكن الدولة الحديثة في المقابل هي بمجرد التعريف تمثل فكرة احتكار استخدام القوة في المجال العام، وهو ما كان يعنى ضمناً تأميم ذلك الأخير لصالحها حصراً بعد تهميش دور تكوينات الاجتماع الديني وتذويب المكونات الاجتماعية التقليدية تلقائياً وبالتدريج، وهذا ما كان يعنى أيضاً إغلاق الباب مستقبلاً أمام فكرة إمكانية نشوء إدارة ذاتية للشئون العامة من قبل تجمعات مدنية حديثة كالنقابات والتعاونيات وجمعيات العمل الطوعي الأهلي.

وهو ما كان سيقدم بالنهاية حلولاً أكثر تنوعاً وفاعلية، من الرؤى الحزبية والبيروقراطية الضيقة، التي تعاطت في معظم الأحيان بشكل قاصر ومخل مع الكثير من المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في عالم اليوم.

ولعلنا بالنهاية من خلال هذا التناول التاريخي الذي يقرن نشأة الدولة الحديثة بالتوحش والعنف التي أرست هياكلها من خلاله، يمدنا في الأخير بمنظور مختلف تماماً عما تعطينا به الانطباع في المقابل، التناولات الكلاسيكية المستلهمة من الرؤى الفلسفية المتعالية وغير التاريخية، التي تنظر إلى الدولة الحديثة بحسبها دولة مصدرها ومعيارها العقل والمنطق، كدولة العقد الاجتماعي لجان جاك روسو وأطروحات جون لوك ومونتسكيو، التي تحمل كلها بشكل عام، طابعاً مثالياً يبتعد عن المنظور الحقيقي الذي تمدنا به الأطروحات الأكثر تأثيرًا في السياسة الواقعية، والمحايثة تاريخياً كذلك لنشأتها ككتاب «الليفاثيان» لتوماس هوبز، ومن قبله كتاب «الأمير» لمكيافيللي.

المراجع
  1. إريك فروم، تشريح التدميرية البشرية، الجزء الأول، ترجمة: محمود منقذ الهاشمي، منشورات وزارة الثقافة بالجمهورية العربية السورية، 2006.
  2. إدوارد سعيد، من القدس وبيروت إلى سياتل ونيويورك . تأملات في المنفى، ترجمة: ثائر ديب، جريدة الحياة، العدد 14800 المنشور بتاريخ 1/10/2003.
  3. د. عبد العزيز حمودة، المرايا المحدبة – من البنيوية إلى التفكيك، عالم المعرفة، العدد 232، الكويت، أبريل 1998.
  4. د. إبراهيم نويرى، الحضارة الغربية بين النزعة المركزية وتزييف التاريخ، مجلة العربى، الكويت العدد 684، نوفمبر 2015.
  5. المصدر نفسه