كَانَ صَرْحاً مِنْ خَيَالٍ فَهَوَى اِسْقِني واشْرَبْ عَلَى أَطْلاَلِهِ وارْوِ عَنِّي طَالَمَا الدَّمْعُ رَوَى كَيْفَ ذَاكَ الحُبُّ أَمْسَى خَبَراً وَحَدِيْثاً مِنْ أَحَادِيْثِ الجَوَى وَبِسَاطاً مِنْ نَدَامَى حُلُمٍ هم تَوَارَوا أَبَداً وَهُوَ انْطَوَى
«إبراهيم ناجي» من قصيدة «الأطلال»

صرح من خيال

بين عالم يموت وعالم جديد في طور الميلاد؛ تناول العملان الفنيان «Good Bye Lenin» والمسلسل الدرامي المصري «رحلة أبو العلا البشري»، تحولات الواقع الاقتصادي والاجتماعي في مصر وألمانيا الشرقية التي اندمجت مع جارتها الغربية بعد سقوط «جدار برلين»، الحائط المنيع الذي كان يرمز للستار الحديدي الذي تقبع وراءه الكتلة الاشتراكية، وهي ثيمة أساسية تكررت كثيرًا في أعمال مؤلف الدراما المصري وكاتب المسلسل المشار إليه أعلاه أسامة أنور عكاشة، وفي السينما والدراما المصرية بوجه عام في مرحلة ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي ولاسيما في أفلام المخرج المصري الراحل عاطف الطيب، وفي العديد من الأفلام الروائية في روسيا وأوروبا الشرقية أيضًا.

يروي فيلم «Good Bye Lenin» قصة أم لشاب وفتاة، تسقط في نهاية الحقبة الاشتراكية في ألمانيا الشرقية في غيبوبة طويلة تستمر عدة شهور بسبب حالة مرضية ألمت بها، وتستيقظ بعد اندماج ألمانيا الشرقية مع جارتها الغربية.

خوفًا على الأم الضعيفة التي كانت في مرحلة النقاهة من غيبوبتها الطويلة من الصدمة، أخفى أبناؤها أخبار التحول الدراماتيكي الذي جرى وقضى على المجتمع الاشتراكي الذي اعتادت على الحياة في كنفه، وقاموا بالعديد من الأشياء حتى لا تشعر بالواقع الجديد، منها عرض أخبار مسجلة على التلفاز على أنها بث جديد، وأشياء أخرى أقنعوا من خلالها الأم بأن شيئًا لم يتغير.

في المقابل يروي مسلسل «رحلة أبو العلا البشري» الذي تم إنتاجه في عام 1986، قصة مهندس ري مصري على أعتاب سن المعاش، عكف في عزلة طويلة بعيدًا عن صخب القاهرة لمدة 8 سنوات في قرية من قرى محافظة كفر الشيخ كان يعمل بها مفتشًا للري.

يفاجأ البشري عند عودته لزيارة أقاربه في العاصمة المصرية بعد هذا الغياب الطويل، بواقع جديد وقيم جديدة وسلوكيات وأخلاق وحياة اجتماعية تختلف بشكل جذري عن الحياة الاجتماعية المصرية في ظل الحكم الاشتراكي خلال عهد الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر.

رمزية عبد الناصر، كونه من بنى السد العالي، تبدو حاضرة في مهندس الري أبو العلا حامد البشري، الذي استقال من العمل الحكومي وتفرغ لهموم ومشاكل عائلته، في بناء درامي رمزي لعله يشير لواقع تحول عبد الناصر والناصرية بعد أن نحى الموت الأخير إلى فكرة ومثال، واجه من خلالها كاتب الدراما المخضرم أسامة أنور عكاشة، ذو الميول الناصرية الواضحة، تحولات الواقع الجديد التي رفضها هو والكثير من المثقفين المصريين الذين تغلب عليهم الميول اليسارية منذ ذلك الوقت وحتى الآن.


ماذا حدث للمصريين؟

أدى تشابه الظروف التي مرت بها مجتمعات الكتلة الاشتراكية وبعض دول العالم الثالث التي مرت بتحولات هيكلية من الاقتصاد الموجه إلى اقتصاديات السوق؛ إلى مرور تلك البلدان بتحولات اجتماعية متشابهة على العديد من الأصعدة، كنشوء طبقة من الأغنياء الجدد، وانهيار الطبقة الوسطى، وسيادة قيم جديدة في تلك المجتمعات.

يؤرخ الكاتب والاقتصادي المصري د.جلال أمين في العديد من كتبه ككتاب «ماذا حدث للمصريين؟» وكتاب «عصر الجماهير الغفيرة»، وكتاب «وصف مصر في نهاية القرن العشرين»؛ لمظاهر تلك التحولات وشكل الحراك الاجتماعي في تلك المرحلة من التاريخ المصري المعاصر.

فالاقتصاديون بحسب أمين يشكون من اختلال الهيكل الإنتاجي لصالح القطاعات غير الإنتاجية، والاختلال المستديم في ميزان المدفوعات، وشدة الاعتماد على استيراد الغذاء، واختلال توزيع الدخل واتساع الفجوة بين الطبقات، وانخفاض معدل الادخار والاستثمار، وانتشار أنماط الاستهلاك، واختلال هيكل العمالة لصالح القطاعات غير الإنتاجية.

أما علماء الاجتماع كما يقول أمين فهم يشكون من شيوع الفساد، وازدياد حوادث العنف، وظهور أنواع جديدة من الجرائم، ومن تفكك روابط الأسرة، ومن انتشار قيم المادية والرغبة في الكسب السريع، وضعف روح التعاون والتضامن الاجتماعي، وتدهور أنماط المعيشة على مستوى الريف والمدينة على حد سواء، حيث تزداد المدن ازدحامًا وتلوثا وضوضاءً وقبحًا، بينما تتحول القرى بعد أن كانت مكانًا منتجًا إلى قرية مستهلكة، تزحف المباني السكنية على رقعتها الزراعية.

في تلك الأثناء بحسب أمين كان التغريب يزداد في الحياة الاجتماعية، وفي اللغة المحكية، وسادت حالة من اللا مبالاة بالقضايا القومية الكبرى، وازداد تدهور اللغة العربية، وتدهور محتوى التعليم الأساسي والجامعي، وشاعت ثقافة هابطة تتمحور حول الجنس وتستجيب للغرائز الدنيا، وازدادت في المجمل التبعية السياسية للغرب مع تخاذل مطرد أمام إسرائيل.

في كل هذا تقريبًا اعتمد أمين على مفهوم «الحراك الاجتماعي» كمفهوم أساسي في تحليله لأسباب تلك التحولات، حيث يستحيل بحسبه فهم ما حدث للمجتمع المصري من تطورات خلال نصف القرن الماضي إلا من خلال تأمل ما حدث من تغير في المركز النسبي للطبقات والشرائح الاجتماعية، وما أحدثه ذلك من تبدلات طرأت على سلوكها وفق هذا التغيير.


فرط الحراك والتغير الاجتماعي في مصر

في كتابه ماذا حدث للمصريين؟ الذي كتبه في عام 1997، يقول أمين إن الخمسين سنة الأخيرة شهدت حراكًا اجتماعيًا هو الأعلى في تاريخ مصر، وتحولات عاتية، أثارت دومًا نقاشًا عامًا ودائمًا عن محنة مزمنة في الاقتصاد المصري لا يتعافى منها أبدًا، وعن تدهور متنامٍ في الأخلاق والقيم، وانحطاط متواصل للثقافة المصرية.

فأهم ما مر به المجتمع المصري من تحولات في العقود الأخيرة وفق أطروحة أمين لا يمكن رده مباشرة إلى تغير فوقي في السياسات الاقتصادية والخارجية العامة وحسب، وإنما عبر فهم ما أدت إليه من ارتفاع مذهل في معدل الحراك الاجتماعي بين الطبقات، وتأثير ذلك الأخير على البنيان الاجتماعي والطبقي العام في مصر ككل.

في كتابه «عصر الجماهير الغفيرة» يستكمل جلال أمين ما بدأه في كتاب ماذا حدث للمصريين، إلا أنه عوضًا عن التركيز على فكرة الحراك الاجتماعي، وتحولات التركيب الطبقي، ينتقل أمين إلى التركيز على فكرة الآثار المترتبة على زيادة الحجم المؤثر من السكان، أو الحجم الفعال من السكان بحسب تعبيره، بصرف النظر عن التغيرات التي لحقت المركز النسبي لهذه الطبقة أو تلك.

يربط جلال أمين في كتابه الأخير ارتباط ظاهرة الزيادة في حجم الشرائح المؤثرة من السكان، ببزوغ ظاهرة أخرى، ليس في مصر وحدها بل على نطاق العالم بأسره، هي ما أسماه بـ«العصر الأمريكي» الذي يربط بينه وبين ما سماه بعصر وزمن «الجماهير الغفيرة» الذي يشكل المغزى التاريخي بحسبه لحركة ضباط 23 يوليو.

فقبل الـ 23 من يوليو \ تموز 1952 كان واضعو السياسة الاقتصادية لا يأخذون معظم السكان بعين الحسبان، فكانت المنافع والامتيازات تكاد تكون محصورة بين نسبة ضئيلة جدًا من سكان البلاد، وهو ما مثل حاجزًا حديديًا يمنع ما لا يقل عن سبعين أو ثمانين في المائة من المصريين الذين كانت أوضاع الكثير منهم أشبه بالأقنان، عن أي دور حقيقي في الحياة العامة وعن التمتع بطيبات الحياة بدءًا من التعليم انتهاءً بالذهاب إلى المصايف.

في هذا الإطار كان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر كثيرًا ما يصف المجتمع المصري قبل ثورة يوليو بمجتمع «النصف في المائة»، وكان إحداث النقلة في تلك الظروف هو إحدى السمات الرئيسية للظرف العالمي في النصف الثاني من القرن العشرين بحسب أمين، سواء كان ذلك في الشرق أو في الغرب، وهو الأمر الذي لعب دوره في تحديد خيارات نظام يوليو، ودفعهم للبلاد في مسارات كان يصعب تجنبها بحسب أمين، وقد كان هذا هو المغزى التاريخي لتجربة يوليو، الذي اتضح بعد مرور فترة من الزمن.

كانت النعمة التي جلبها اتساع السوق بحسب أمين، وهي نعمة متعلقة بالاقتصاد، إنما كانت نقمة فيما يتعلق بالثقافة؛ ذلك أن الاتساع الكبير في حجم السوق أدى بنهاية المطاف إلى أن جعل من المربح جدًا أن تنتج ثقافة متوسطة المستوى، تستجيب للقاسم المشترك بين الناس، والذي هو في أغلب الأحيان أكثر الأشياء استجابة لغرائز الإنسان الدنيا: الجنس أولاً ثم العنف، وهو ما يمكن من خلاله تحليل ظواهر كظاهرة الصعود الصاروخي للممثل «محمد رمضان» في السنوات الأخيرة، كتعبير عن التأثير الوازن لشرائح جديدة فاعلة من ساكنة البلاد، في خلق التيار الرئيسي الحالي في السينما والثقافة والدراما والصحافة والأغاني.

ولذلك تمثل الآثار العميقة لاكتساح قيم ورغبات الجماهير الغفيرة وفق ما يعتقد أمين العامل الأكبر في التغيرات التي شهدتها حياتنا الاجتماعية والثقافية، قبل أي عامل آخر، كانتصار الرأسمالية واكتساحها الأنظمة الاشتراكية، والتنمية الاقتصادية السريعة والتقدم التكنولوجي.