في عام 1493، غرس كريستوفر كولوموبس نبتة قصب سكر اصطحبها معه من بلاده خلال رحلته التاريخية إلى جزر الهند الغربية (تُعرف حاليًا بِاسم جُزر الكاريبي)، نمت بشكل مميز شجّعه ذلك على زراعة المزيد منها، دون أن يدرك حينها أن خطوته هذه ستجرُّ أبواب الجحيم على هذه المنطقة بعد عشرات السنوات، وستُنتج واحدة من أعجب طرق استغلال الدين لخدمة الاقتصاد.

السُكر ليس دائمًا «حلوًا»

يقول المؤرخ الأمريكي جون ستيل جوردون في كتابه «إمبراطورية الثروة»، إن جزر الهند الغربية بعد ما جذبت الكثير من المستوطنين، صارت بحاجة إلى استغلالها في زراعة محصول جديد، السكر كان الإجابة، حيث إن أوروبا طورت شهية لا تشبع إزاء هذا المنتج المستخلص من القصب، الذي يزيد الاستهلاك الأوروبي عليه بمعدل 5% سنويًا، مما يجعله استثمارًا مثاليًا لجميع السادة الباحثين عن الثراء بأي ثمن.

نتج عن السعي لتحقيق هذا الحلم مشكلتان، الأولى، أن هذه الصناعة تتطلب رأسمال كبير لإعداد الحقول والمصانع والمعدات اللازمة، وهو أمر يُمكن تدبيره عبر البنوك الأوروبية وتدفقاتها المالية السخية. أما الثانية، فهي أنها تستلزم عملاً يقسم الظهر تحت شمس مدارية شديدة الحرارة، وهو ما لم يكن مقدورًا عليه أبدًا بواسطة أهل القارة العجوز، فقرر أصحاب المزارع جلب العبيد إلى المزارع لتحمل هذا العبء الكبير، وهي الخطوة التي حققت نجاحًا هائلاً.

يشرح تقرير أعدته بي بي سي BBC أن العبيد السود أصبحوا شديدي الأهمية في الاقتصاد الزراعي العالمي الذي قادته إنجلترا، وأن مستعمرات الهند الغربية باتت إحدى أكثر الأماكن ربحية فيه، وأمّنت للمُلاك ثروات ضخمة. فمنذ عام 1791، باتت المُنتج الأول للسُكر الذي أصبح الإنجليز المستهلك الأول له، وأعيد ضخ هذه الأرباح الضخمة في الاقتصاد الإنجليزي وساهمت في تطوير قطاعاته.

وهو الأمر الذي حقق أرباحًا خيالية لكافة تُجار العبيد الذين ضمنوا تدفقًا مريرًا للسود على هذه المستعمرات، وبين عامي 1630 و1807 حصد التجار الإنجليز أرباحًا فاقت 12 مليون جنيه إسترليني بسبب شراء وبيع الأفارقة، الذين أنتجوا 70% من بضائع المستعمرات الجديدة،  إلى أن تم إلغاء الرق عام 1807.

بمرور الوقت والنمو المضطرد في الصناعة والاعتماد المُطلق على العبيد في كل الأعمال الشاقة نما عددهم حتى باتوا كتلة بشرية ضخمة، لفتت الانتباه لأهمية وجود نشاطات أخرى تحاول استغلالهم مجددًا في مجال بعيد عن هدير الماكينات وعصف الحقول كالتبشير بالمسيحية.

انشروا المسيحية إلا قليلاً

مع أوائل القرن الـ19 بدأ بعض المبشرين المسيحيين البريطانيين في الاهتمام بنشر الديانة في أوساط «عبيد الكاريبي»، إلا أن مسعاهم اصطدم بتخوفات قوى رأسمال من أن منح العمال المزيد من التنوير قد يقودهم إلى تمرد غير مأمون العواقب يزعزع أركان القلب النابض لاقتصاد الإمبراطورية الإنجليزية التي بات اعتمادها على «سكر الكاريبي» لا غنى عنه.

الحل أتى بالإقدام على خطوة غير مسبوقة، وهي تقديم دعوة دينية «مهيضة الجناح» تضمن غرس المزيد من الولاء والخنوع وتُبعد عن رؤوس أصحابها أي أفكار تحضُّ على الولاء والحرية وذلك عبر بث «مسيحية مجتزأة» بـ«إنجيل مُنقّح» أعمل فيه (المبشرون/ أصحاب المزارع) أيديهم ومقصاتهم بالنزع والبتر فأطاحوا بكل الفقرات التي شكوا بأنها قد تجعل نسيم الحرية يهفو في رأس كل من يقرؤها ويؤمن بها كقصة هجرة المستعبدين اليهود من مصر، وأبقوا على كل ما يلزم لإقناع السود البسطاء بأن طاعة السادة من طاعة الله، وأن احتمالهم السُخرة والإهانة وظروف العمل القاسية إنما هي من صميم إيمانهم بالرب وبالكتاب المقدس.

ليس يهوديًا ولا يونانيًا. ليس عبدًا ولا حرًا. ليس ذكرًا وأنثى، لأنكم جميعًا واحد في المسيح يسوع.
رسالة إلى أهل غلاطية (إحدى الفقرات المحذوفة من «إنجيل العبيد»)

طُبعت النسخة الأولى من هذا الكتاب المقدس المختزل لأول مرة في لندن عام 1807، بالمشاركة مع جمعية مجتمعية أطلقت على نفسها اسم «جمعية هداية العبيد السود»، وسعت لجذب هذه الكتلة البشرية الضخمة المنهكة في مزارع القصب إلى «المسيحية المهذبة» شيئًا فشيئًا عبر أنشطة ودودة تعليم القراءة والكتابة وغيرها، وفي سبيل ذلك حذف المبشرون البريطانيون قرابة 90% من محتوى العهد القديم ونصف العهد الجديد من أجل ضمان أن المسيحية التي يسعون لنشرها لن تُفتت إمبراطوريات السُكر، مما أنتج واحدة من أغرب وأندر نُسخ الأناجيل على مدار التاريخ، وهو الإنجيل الذي عُرف رسميًا بـ«إنجيل العبيد».

نسخة من إنجيل العبيد
نسخة من الإنجيل المخصص للعبيد السود في الكاريبي

وتوجد الآن 3 نسخ معروفة لهذا الكتاب، اثنتان في بريطانيا، وواحدة أصدرتها جامعة فيسك الأمريكية، بالتعاون مع مركز بحثي معني بدراسات ديانات الأمريكيين الأفارقة، وبقيت محفوظة داخل الجامعة لعشرات السنوات إلى أن توصلت إلى اتفاق يقضي بعرضها خارجها لأول مرة في متحف الكتاب المقدس بالعاصمة واشنطن لمدة عامين بدآ من 28 نوفمبر/تشرين الثاني عام 2017.

احتفى المتحف بهذا الكتاب بشدة، فأفرد لها قاعة كاملة لعرض محتويات هذا الإصدار النادر على زواره، كما نظّم سلسلة من الندوات والفعاليات بشأنها تحت عنوان «إنجيل العبيد.. دع القصة تُقال»، مقابل تذكرة ثمنها 20 دولارًا للبالغين و10 دولارات للأطفال.

وكشف أنتوني سكميدت المسؤول بالمتحف، أن من مجمل 1189 فصلاً حواها الإنجليل البروتستانتي، فإن هذا الإنجيل ضم 232 فصلاً فقط.

إنجيل العبيد في متحف الكتاب المقدس
إنجيل العبيد في متحف الكتاب المقدس

وهذا الرقم ليس بالغريب، إذا ما علمنا أنه من مُجمل 66 سِفرًا حوتها الطبعة البروتستانتية النموذجية من الكتاب المقدس، و73 سِفرًا تضمها النسخة الكاثوليكية الرومانية، و78 سِفرًا في الترجمة الأرثوذكسية الشرقية، فإن طبعة العبيد تم تخفيضها بشكل مذهل حتى باتت تضمُّ 14 سِفرًا فقط.

أيها العبيد، أطيعوا سادتكم حسب الجسد بخوف ورعدة، في بساطة قلوبكم كما للمسيح.
رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس (إحدى المقاطع التي تم الإبقاء عليها)

يقول المتحف في معرض حديثه عن هذا الكتاب، إن هذه القطعة النادرة تحكي كيفية فهم الناس للدين في بعض العصور واستغلالهم له، بعد ما تم استعمالها لتقديم رسائل تبريرية لنظام العبودية، كما يكشف الدور الذي لعبه الإنجيل في الصراع من أجل الحرية، مضيفًا أن الكتاب جذب الكثير من الاهتمام بين الناس، وكان القطعة الأكثر إثارة للنقاش بين كل ضيوفه، وتمنى أن يساعد الجدل الموجود حول هذه القطعة على نشر المزيد من احترام الاختلافات مع الآخرين، والمزيد من العناية بتاريخ الأديان.