تصطدم الأبحاث القائمة على مراقبة سلوك البشر بمشاكل أخلاقيات البحث العلمي، إذ لا تسعى التجارب السلوكية إلى التلاعب بنا فقط، بل يتخللها بعض من الخداع. وكان ذلك سببًا في تجدد ظهور سؤال أزلي:

هل يلغي علم النفس والسلوك العقل البشري الواعي… الناقد… المستقل؟

من وجهة نظر علماء السلوك، فالإجابة نعم، لا يختلف البشر عن الفئران البيضاء التي لا تفكر؛ لذا فإن أبحاث السيكولوجيين أبعد من أن تكون عرضية أو لذاتها، فأبحاث علماء النفس والسلوك تهرب من خدمة البشر بشكل مطلق؛ فهي تخدم فئة خاصة، لأنه لن يفلح السعي خلف الأبحاث العلمية في هذين المجالين إلا إذا تمت في إطار مشروع سياسي واقتصادي، لا تمتلك فيه الأغلبية الساحقة من البشر رأيًا، حتى نراها اليوم وقد أنتجت خطابًا «إنسانيًا» تكمن قوته في ضرورته لتعزيز الثقافة الاستهلاكية، باعتبار الامتلاك طريقنا للسعادة.

كان هذا الربط سببًا في أن يُنظر إلى لغة المال والأسهم على أنها مرتبطة إلى حد ما بمشاعرنا الداخلية، وأن المنزلة الاستثنائية التي نالها الاقتصاد منذ أواخر القرن الـ 19 حتى الآن، بوصفه أقرب إلى أن يكون علمًا طبيعيًا من أن يكون علمًا اجتماعيًا، هي من إرث هذه النظرة إلى العالم المستثمر والمستهلك.

وهذا بالضبط ما يدفعنا «ويليام ديفينز»، أستاذ علم الاجتماع والاقتصاد السياسي، في كتابه «صناعة السعادة: كيف باعت لنا الحكومات والشركات الكبرى الرفاهية؟» لرؤيته من حولنا، وفهمه، وفهم مجرياته، فحتى لو لم يتسنى لأحد -بعد قراءة هذا الكتاب- القيام بفعل المواجهة، ستكفيه معرفته بأننا مخدوعون تمامًا في أنفسنا، ومُساقون كليًا لصالح من يمتلك المعلومة، ولا يمكننا تخيل قدراته التي ظهرت نتائجها في القرن الماضي على الأقرب، وسنعرض ثلاثة أشكال منها بين الماضي والحاضر.


لماذا يعلن رونالدو عن شامبو ضد القشرة؟

في عام 1913 ألقى جون ب. واطسون المتخصص في علم نفس الحيوان أهم محاضراته في جامعة كولومبيا، وكانت بمثابة بيان رسمي للتقاليد العلمية الأكثر تأثيرًا في القرن العشرين، فأعلن واطسون عن نظريته في دخول علم السلوك في الإدارة والسياسة والقانون، وقال:

لو قُدِّر لعلم النفس أن يلتزم بالتصور الذي اقترحه، فسيصبح في مقدور المُربي والفيزيائي والفقيه القانوني ورجل الأعمال استخدام بياناتنا بطريقة عملية بمجرد حصولنا عليها تجريبيًا.

كان هذا هو أكثر عروض تزاوج العلم مع السلطة وضوحًا، والسبب في تعيين واطسون رئيسًا لاتحاد علماء النفس الأمريكيين بعد محاضرته بعامين، على الرغم من أن كل تجاربه كانت على الفئران البيضاء، ولم يكن درس إنسانًا واحدًا قط، واستهان بمصطلحات علم النفس، وسخر من الميزة التي ربطها الفلاسفة بالتجربة الذاتية، وأعلن أنه ما من وجود للشخصية والقدرة الفطرية، وأنه يمكنه تحويل أي طفل مهما كانت خلفيته إلى رجل أعمال أو رياضي فقط باستخدام نظرية الاستجابة للمثير.

لم يكن وعد واطسون بتوفير نفع عملي في أيادي المعلنين، وأصحاب الشركات وصناع السياسة والمديرين ممكنًا؛ لولا إعادة تأسيس مدرسة لدراسة سلوك الإنسان بناءً على مبدأ أن الإنسان العادي أقل منزلةً من السيكولوجي الذي يدرسه، ومن السياسي الذي يدفع تكلفة الدراسة.

وبالفعل أصبح مصطلح علم السلوك في كل مكان بدخولنا القرن الحادي والعشرين، فشَغِل تغيير السلوك عقول صانعي السياسة في مساعيهم نحو مكافحة العنف والتدهور البيئي والعزوف عن المشاركة المدنية. كما شاع صدور كتب تقدم النصائح لرؤساء العالم، وغير ذلك من طرق نتعلم بها حيلًا نبدل بها سلوكنا، أو ننكز بها أنفسنا، أو استثمار أوقات الفراغ، لتساعدنا في خلال سعينا إلى تحقيق أنماط حياتية أكثر فاعلية ومرونة.

أخفق واطسون في إثبات نظريته في المعامل التجريبية دون الاستعانة بعلم النفس الذي سخر منه، وطردته جامعة جونز هوبكنز ومعاملها، ليتجه إلى نيويورك وعالم التسويق والإعلان ليحقق لنفسه شهرة وثروة تتجاوزان ما حققه أي سيكولوجي آخر بقي في الحياة الأكاديمية؛ فالتحق واطسون خلال مسيرته بوكالة «جيمس والتر تومبسون» كمسئول الحساب التنفيذي. وبدأ بتطبيق مذهبه السلوكي في تصميم الحملات الإعلانية، وأقرَّ بإمكانية دفع المستهلكين للقيام بأي شيء إذا صُممت عوامل بيئية معينة. وحذر واطسون من السعي خلف رغبات وانفعالات المستهلك الموجودة بالفعل، بل ينبغي تفجير رغبات وانفعالات جديدة.

وقد أثبت واطسون خلال فترة عمله لشركة «جونسون آند جونسون» طرقًا لتسويق مسحوق غسيل بالاعتماد على الانفعالات التي تمر بها الأمهات مثل القلق والخوف والرغبة في التطهير. كما يُنسب له الفضل أيضًا في إثبات أن مباركات المشاهير طريقة فعالة في تحقيق ارتباط المستهلك بالعلامات التجارية، متخطيًا بذلك أخلاقيات البحث العلمي باختبار رد فعل المشتري دون أن يعرف، وتعديل سلوكه بالتبعية.


حلم بنتام: خياراتنا السياسية في المعمل

كان جيرمي بنتام مفكرًا تجريديًا، واشتهر بأنه نصف فيلسوف ونصف تقني، وعمل كثيرًا على مشروعه وهو التأسيس لصناعة قرار قانوني وسياسي قائم على بيانات علمية، وذلك منذ بداية القرن التاسع عشر، وكان هو من اخترع «صناعة السياسات المستندة إلى الأدلة»، وهي الفكرة المعتمدة على نظرية أن التدخلات الحكومية يمكن تخليصها من أي مبادئ أيديولوجية أو أخلاقية، بحيث لا تسترشد إلا إلى الأرقام والحقائق، فتقدر كفاءة السياسة بالقياس وبتحليل التكلفة والفائدة، وبدأ من هنا بنتام طرح وسائل منطقية للتأثير في السلوك الإنساني، وإمكانية تعديل سلوك البشر بإخضاعه للتجربة، من أجل المنفعة العامة.

رأى بنتام أنه من أجل تأسيس الحكومة والقانون على أساس علمي فإننا بحاجة إلى تجريد القضايا، وأن مصطلحات كالحق والعدالة والوجود والعقل هي «مصطلحات خيالية»، وأن الشيء الحقيقي الملموس الذي يصنع السياسة هو «السعادة».

كان من شأن القدرة على مباشرة علم كـ «علم السعادة» عند بنتام، أن يمد الحكومات بأساس جديد كليًا، وبناءً عليه تستطيع تصميم سياسات وقوانين لتحسين مستوى رفاهية البشر بالمعنى الواقعي. وربما تمكّن الزعماء السياسيون من خلال فهمهم لدوافع السيكولوجيا الإنسانية، من تحويل النشاط الإنساني إلى اتجاه سعادة البشر الكبرى.

وهكذا أصبح علم السعادة مستخدمًا في توجيه السلوك نحو الغايات المثلى للجميع، ومع تزايد المنحى العلمي للحكومات أصبحت قادرة على التنبؤ بقدر التدخلات المتباينة التي تؤثر في خيارات الأفراد. ولكن هل هذه سعادة حقيقية؟

كان هدف بنتام هو توجيه النشاط الفردي باتجاه غايات تختارها «قوى نخبوية»، لكن من دون قسر واضح، أو الحاجة لتشاور ديمقراطي. واستطاعت أبحاث علم السلوك بالفعل تبسيط حلم بنتام إلى أقصى حد، من خلال تصور أنه أسفل وهم الحرية الفردية تقبع آلية السبب والأثر في حالة هدوء، لم ينبشها أحد من قبل، ولا تلاحظها سوى العين الخبيرة. وبالطبع هذه ليست سعادة بالمعنى الأخلاقي، أو وفقًا لفهم أرسطو، بل سعادة بمعنى الحدوث المادي داخل الجسم البشري، واختزال علم الأعصاب والسيكولوجيا إلى عمليات بيولوجية من أجل أغراض «بنتامية» سياسية ونفعية.

وها نحن نرى في حاضرنا افتتاح الحكومة البريطانية عام 2010 لـ «وحدة استبصارات سلوكي» لتوظيف نتائج الأبحاث السلوكية في صناعة السياسة. وقد حققت هذه الوحدة النجاح الكبير، لدرجة أن جزءًا منها خُصّص لتمكينها من تقديم استشارات تجارية للحكومات حول العالم.

كان بنتام قد طرح حلولًا لقياس السعادة كمحاولة لجعلها علمًا، وحتى لو لم تسر في الطريق الذي أراده -لمصلحة صناديق الاقتراع- إلا أن الاقتصاديين والإداريين نجحوا في تطبيقها، وستدهش كم كانت لنظرته أثر علينا اليوم رغم أنه لم يخضعها للتجريب والبحث؛ فاعتبر بنتام أن معدل نبضات قلب الإنسان قد يوفر مؤشرًا على السرور، كحل أول لقياس السعادة، أما الحل الثاني فكان مراقبة إنفاق الفرد للمال داخل السوبر ماركت؛ وكانت الفرضية هو أنه إذا ما استوجب شراء منتجين مختلفين دفع سعر أحدهما فقط، فإن ذلك سيسبب السعادة، وهي الفكرة التي أدركها الاقتصاديون بعد 30 عامًا من وفاته، لأنه كان مهتمًا بالسياسة وليس الاقتصاد.

ولم يقتصر أمد الفكرة هنا؛ ففي 2014 أُطلق هاتف آيفون 6، وكان التجديدان الجوهريان بنسخته: تطبيق يراقب النشاط الجسدي، والآخر يمكن استخدامه في عمليات السداد داخل المتجر. وهنا يمكننا أن نلحق قائمة طويلة من المقاييس التي طورت هذه النظرية بدءًا من الساعات الذكية التي طورتها شركة آبل وجوجل لرصد الإجهاد النفسي، إلى استبيانات القياس النفسي للوجدان المستعملة لتقييم الاكتئاب.

ومنذ بنتام حتى الآيفون، كانت وستظل الخيارات إما استقلال قرارات الإنسان أو بيع المنتج.


الموظف السيكوسوماتي: الوجه الأسود لاختبارات السعادة

تلا احتضار الاشتراكية في العالم خوفًا من أكبر تهديد للرأسمالية وخاصة في الغرب الليبرالي، وهو ببساطة نقص الهمة والنشاط والحماس. وظهرت عدة دراسات حول الولاء الوظيفي، وقدّرت هذه الدراسات قيمة غياب الولاء الفعال والحماس لدى موظفي الولايات المتحدة الأمريكية بنحو 550 مليار سنويًا.

كما مثّل نقص الولاء من جانب القوى العاملة إرهابًا للحكومات أيضًا؛ إذا كانت تدفع تأمينًا صحيًا، وتأمينًا ضد البطالة؛ حيث تنشأ مشكلة اقتصادية ثم تتنامى مع غياب وتسرب الأفراد من العمل بسبب مشكلات غير ملموسة في الأغلب، ثم التردد بانتظام على الأطباء شاكين من آلام غير قابلة للتشخيص؛ ولكنه الإنهاك؛ إنهاك نفسي، فالموظفون وحيدون وبائسون.

بالفعل هدد انحدار الصحة النفسية والعقلية داخل أسواق العمل، الاقتصاد، بنواحٍ شتى؛ فبخلاف تكرار الغياب غير المبرر والانسحاب من العمل فإن تكلفة اضطرابات الصحة العقلية في أوروبا وأمريكا الشمالية تقدر بنحو 3 إلى 4% من إجمالي الناتج المحلي، وتبلغ تكلفتها في بريطانيا كمثال نحو 110 مليار جنيه إسترليني سنويًا، ما يفوق تكلفة التصدي للجريمة. وكان كل ذلك حافزًا اقتصاديًا كافيًا للمديرين بالاهتمام بـ «سعادة» موظفيهم؛ إذ كشفت الدراسات أن إنتاجية العمال تزداد حين يشعرون بالسعادة.

كان ما فعله صناع القرار بعد ذلك أن لجأوا إلى خبراء ومستشارين يستندون في الرفاهية على سند علمي، وتفاوت هؤلاء بين: ممارسي طب مؤهلين، وحمقى، ودجالين. فكانت الحكومة البريطانية –كمثال- تأمر الموظفين بحضور عدد من برامج التدريب ودورات النشاط السلوكي، وأفاد أحد المشاركين فيها أن معلمًا (للاعتماد على النفس) صرخ فيهم:

تكلم… تنفس… كُل… آمن بنفسك… فأنت المنتج سواء آمنت بذلك أم لا.

ولكن مع سياسات التقشف بدأ التعاطف مع العلاجات السلوكية في الفتور، وأعلنت الحكومة في عام 2014 أنه من يرفض حضور جلسات العلاج السلوكي ستنقطع عنه المساعدات التي تبلغ قيمتها 85 جنيهًا إسترلينيًا.

ولكن لا يأس مع أبحاث السعادة؛ فما زال هناك وجه مشرق ماديًا للبعض -وإن لم نكن منهم- يتمثل في الدور الذي يقدمه مستشارو العافية والسعادة الذين خلّفتهم لنا أبحاث السعادة، والمبالغ الضخمة التي يجنونها من خلال تلقين النخب بالشركات كيفية الإبقاء على أنفسهم داخل حالة من اللياقة السيكوسوماتية؛ أي تحقيق مستوى أداء رفيع للعافية الجسدية والعقلية، فالسيكوسوماتية وصف يشير إلى علاقة النفس أو العقل بالجسد.

وتنتقل دائرة الاستشارات هذه في حاضرنا بسلاسة بين مجالات خبرة منفصلة بوضوح، فهناك العاملون بالصحة والمدربون الرياضيون وخبراء التغذية ومعلمو اليوجا البوذية، ليتداخل علم الأعصاب مع السعادة والإيجابية والنجاح دون شرح وافٍ للكيفية والسبب.

ورغم ذلك ما زال يُوظِف عدد متزايد من الشركات الضخمة «مديرين للسعادة» في حين يوجد بشركة جوجل الأم «معلم تربية روحية» من أجل نشر الاستغراق العقلي والتعاطف، وما زال ينصح هؤلاء المستشارون أرباب العمل بخصوص طريقة إبهاج موظفيهم واستعادة حماستهم.