في كتابه «حراس العقيدة: العلماء في العصر الحديث» (مدارات للبحوث والنشر، 2019)، يعرض مائير هاتينا، أستاذ الدراسات الإسلامية وقضايا الشرق الأوسط، مجموعة من الدراسات المقدمة خلال ورشة العمل الدولية التي نظمها مركز نحيميا ليفتسيون للدراسات الإسلامية بالجامعة العبرية في فلسطين المحتلة، في يونيو/حزيران 2006، تحت عنوان: «في مواجهة الحداثة: نظرة جديدة على العلماء في الشرق الأوسط».

تتناول الدراسات التي حررها هاتينا بعناية، ونشرتها دار «بريل» الهولندية العريقة للمرة الأولى باللغة الإنجليزية عام 2008، دور علماء الدين السنة في القرنين الماضيين بمنطقة الشرق الأوسط في المجتمعات الحضرية وشبه القبلية، وإعادة تقييم مكانتهم في الحقبة الحديثة التي سيطر عليها طابع التحديث القومي من جهة، والصعود الأصولي من جهة أخرى.

تتمحور بحوث هذا الكتاب، حول أربعة محاور رئيسية هي: مكانة العلماء في فترة ما قبل الحداثة من التاريخ الإسلامي، والتحديات التي لقوها إبان عملية التحديث في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، والتداعيات التي جرها ذلك التحديث عليهم على المستويات الفقهية والاجتماعية والسياسية، ودور العلماء حاليًّا في البيئات غير الحضرية أو شبه القبلية في الشرق الأوسط المعاصر.

حراس الشريعة : علماء الدين السنة في العصر الإسلامي الوسيط

كان اعتماد المؤسسة الدينية التقليدية على السلطة السياسية في العالم السني، كما يشير هاتينا في مقدمة كتابه، هو نقطة الضعف القاتلة التي أدت إلى تدهور تلك المؤسسة إبان السيطرة الاستعمارية الأوروبية في القرن التاسع عشر، واتساع سلطة الدولة في تلك الأثناء، ومن ثم إعادة تشكيل المجتمع المحلي علي أسس جديدة، على نحو أفضى إلى بقاء تلك المؤسسة دائمًا على هامش الفضاء العام.

على النقيض من ذلك، تمتع علماء الشيعة الإمامية في المشرق الإسلامي بمقومات الاستقلال السياسي والاجتماعي عن السلطة، نتيجة لطبيعة مذهبهم الذي يقوم على فكرة المرجعية، التي تتلقي نصيبًا شرعيًّا من أموال معتنقي المذهب، وهو النصيب المتمثل في «الخمس» الذي يحتسب من فائض الأموال؛ لذلك تولى العلماء الشيعة على خلاف السنة، زمام القيادة للعديد من حركات الاحتجاج السياسية الكبرى، وقادوا انتفاضات وثورات بالغة الأهمية في هذا السياق مثل الثورة الدستورية في إيران مطلع القرن الماضي، وثورة العشرين في العراق ضد الاستعمار البريطاني، والثورة الإسلامية الإيرانية في عام 1979.

في الفصل الأول من الكتاب، يعود «مايكل ونتر» إلى الفترة بين القرن الثالث عشر والقرن الثامن عشر، لبحث الدور الوظيفي واسع النطاق الذي مارسه علماء الدين في العصر المملوكي والعثماني، حيث تولى أولئك العلماء مهام التعليم والإفتاء والقضاء، وشغل بعضهم مناصب سياسية وإدارية داخل الدولة.

لاحظ ونتر أنه رغم غياب السلطة السياسية للعلماء، توقف الحكام المماليك والعثمانيين، مهما بلغوا من درجات الطغيان والتجبر، أمام أحكام الشريعة التي لم يستطع أحد منهم لي أعناقها، دون أن يواجه من يقترف منهم هذا بالإدانة والانتقاد، الأمر الذي كان من شأنه أن ينتقص من شرعية أي حاكم في ذلك الوقت، ويعرضه للمغامرة بسمعته، من خلال نظر الجماهير إليه كحاكم مفرط في حقوق الدين والرعية.

يحلل «شموئيل موريه» في الفصل الثاني من الكتاب، تدهور علماء الدين في مصر أواخر القرن الثامن عشر، كما يظهر في كتاب المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي «عجائب الآثار في التراجم والأخبار»، الذي عبر فيه الأخير عن رثائه لأحوال علماء وحكام المسلمين في تلك الفترة، بعد هزيمتهم على أيدي الأوروبيين، ودخول الحملة الفرنسية إلى مصر.

انتقد الجبرتي التردي البالغ الذي وصل إليه علماء الدين في عصره، حيث اتهمهم باستثناء قلة قليلة، بالوقوع تحت إمرة الحكام، وتربحهم من وظائفهم عن طريق أخذ الرشاوى وارتكاب المظالم، وذلك بعد أن كانوا في العهد السابق هم ورثة الأنبياء في المجتمع المسلم.

على خلفية ما ذكره الجبرتي، يتوقف موريه عند حالة الشعور بالأسى والقلق التي انتابت المجتمعات الإسلامية وهي تشق طريقها نحو العصر الحديث، في أجواء الاستعمار وصعود الخطاب الوطني والقومي، وسيرورات التحديث التي أدت إلى تراجع منزلة الدين، وتحديد دور علماء الشريعة في نطاق محدود على هامش المجال العام. في هذا السياق يبحث موريه في ردة فعل أولئك العلماء على تحولات الواقع الجديد المفروض عليهم، والاستراتيجيات والطرق التي اتبعوها في هذا الإطار.

العلماء في مواجهة العلمنة والتحديث القومي

يتبنى «عاميت باين» وجهة نظر تذهب إلى أن علماء الدين لم يغيبوا تمامًا عن الحضور في المجال العام، خلال الفترة الأخيرة من حياة الدولة العثمانية، على عكس ما هو شائع في الأدبيات التاريخية التركية ولدى المؤرخين الأتراك.

حيث حافظ النضال الذي قاده «مصطفى صبري أفندي» وزملاؤه، على العاطفة الدينية في الأوساط الاجتماعية التركية، رغم نزعة العلمنة المتزايدة التي هيمنت على الفضاء العام في تركيا منذ الصعود السياسي لجمعية الاتحاد الترقي في نهاية حكم الدولة العثمانية.

العلماء والاستعمار: التجربة الليبية نموذجًا

يتناول الكتاب أيضًا تجربة الاستعمار الإيطالي الاستثنائية في ليبيا، التي مد خلالها الإيطاليون جسور التعاون مع عناصر النخبة الدينية من العلماء ورجال الطريقة الصوفية السنوسية. ذلك على عكس ما فعلته القوى الاستعمارية الأخرى، التي نأت بنفسها عن العلماء، وعملت على إضعاف دورهم في المجتمع، كما فعلت بريطانيا وفرنسا في تجاربهما الاستعمارية في كل من مصر وسوريا والجزائر.

وقد كان هذا الموقف الإيطالي الإيجابي من الدين الإسلامي ومؤسساته التقليدية جزءًا من خطة الدعاية الاستعمارية التي قام بها الفاشيون، لاستمالة النخب الاجتماعية المحلية ضد الاستعمار البريطاني والفرنسي في المنطقة.

سؤال التجديد : تلاميذ الأفغاني ومحمد عبده

يبحث «راينر برونير» في الفصل الخامس من الكتاب تراجع دور المرجعية الأزهرية على المستوى الاجتماعي، جراء الصعود الديني لعلماء من خارج المؤسسة من السلفيون الجدد، ويأتي على رأسهم في هذا الإطار «محمد رشيد رضا» صاحب مجلة المنار.

 يتناول برونير أيضًا موقف الأزهر من قضية صعود الهوية الوطنية، ومحاولات الإصلاح الديني في فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، واضطرار الأزاهرة في هذا السياق لمواجهة تحديات الواقع الإسلامي، الذي فرض عليهم الخروج من دراسة الجدالات المذهبية والحواشي المكتوبة على متون العصر الوسيط، إلى الاشتباك عوضًا عن ذلك مع القضايا الجديدة الملحة مثل المبشرين المسيحيين الأجانب، وإلغاء الخلافة الإسلامية.

في السياق ذاته يتناول «أوريت باشكين» تأثر المجتمع العراقي بالتجربة الإصلاحية الإسلامية في مصر والشام، وانعكاس ذلك في قبول التأويلات الدينية الجديدة، وفي الانفتاح على المعارف العلمية دون التخلي بالضرورة عن الإيمان الديني. ويستدل باشكين من هذا التأثير العابر للحدود بين مصر والشام والعراق على وجود مجتمع فكري حقيقي في الشرق الأوسط، يتجاوز الحدود الجغرافية والتقسيمات السياسية المعاصرة.

علماء الشريعة والتحديث القانوني

يتوقف «رون شاهام» عند التحولات التشريعية التي جرت في بلدان الشرق الأوسط إبان عملية التحديث القانوني الواسعة، التي انتقلت فيها الولاية القضائية على العقود والمعاملات التجارية وغيرها من المحاكم الشرعية إلى المحاكم الوطنية المؤسسة على النمط والمرجعية القانونية الأجنبية.

يؤكد شاهام في هذا الإطار، على خلاف ما هو سائد بأثر رجعي لدى قطاعات واسعة من الجماهير في العالم الإسلامي، أن ذلك الأمر لم يكن صادمًا إلى هذا الحد عند العلماء التقليديين، الذين اعتادوا خلال تجربتهم الفقهية الطويلة وجود محاكم لا تقضي بالشريعة الإسلامية، ومخالفة الحكام لأحكام الشريعة الإسلامية في كثير من الأحيان، لذلك لم يكن هذا المنعطف المعاصر يمثل طلاقًا بائنًا عن الماضي، حيث كان يحمل في بعض وجوهه شيئًا من الاستمرار لأوضاع تاريخية سابقة.

ولكن يستثني شاهام في هذا السياق أحكام العبادات وأحكام الزواج والأسرة، التي ظلت لها خصوصية ملموسة، بسبب ردود الفعل التي تبلغ مرحلة العنف في بعض الأحيان، عند محاولة المساس بتلك الأحكام.

المجتمع التقليدي والحداثة في السعودية والمغرب

على عكس ما جرى في البيئات الإسلامية الحضرية في مصر والشام والعراق، خضعت البيئات شبه القبلية في الجزيرة العربية وشمال أفريقيا لموجات تحديث أقل عنفًا وأكثر تصالحًا مع المجتمع المحلي.

وهو الأمر الذي يؤكده دانيال زاسينواين في تناوله لتجربة المقاومة الوطنية المغربية، التي حافظ قادتها على البنية الاجتماعية التقليدية للمغرب، عوضًا عن السعي إلى استبدالها بأطر ثورية جديدة، هذا فضلًا عن انخراط بعض علماء الشريعة في الصفوف القيادية لحركة المقاومة الوطنية الهادفة إلى الاستقلال.

يتعرض زاسينواين في سياق دارسته لمسألة لافتة في الحالة المغربية، ألا وهي تبني النخب الوطنية الجديدة لمرجعية سلفية إصلاحية، في مقابل تبني المجموعات القبلية للمعتقدات الصوفية مثل تقديس الأولياء والممارسات الصوفية الشعبية المعروفة في هذا السياق، وهو ما أدى إلى إخفاق علماء الدين في المغرب، في الوصول إلى صيغة من التوافق بين المجموعات الوطنية وبين المجتمع الريفي والقبلي في المغرب، كما فعلوا في المقابل في بيئات غير حضرية أخرى في الشرق الأوسط.

يسعى «محمد العطاونة» في سياق مساهمته البحثية في الفصل التاسع من الكتاب، إلى تقديم صورة عن المجتمع القبلي في المملكة العربية السعودية وعلاقته بالمؤسسة العلمية الدينية ونظام الدولة، حيث قام نمط الحكم السائد هناك على علاقة عميقة ومتجذرة بين القبلية والدين، من خلال التحالف التاريخي بين الحركة الوهابية وآل سعود. لذلك لعب العلماء دورًا كبيرًا في هذا السياق على مختلف الأصعدة، وليس على مستوى القضاء والإفتاء وحسب.

صراع الأيديولوجيات في الفضاء الإسلامي

في إطار مشاركته، يقدم ديفيد كومينز مقاربة تؤكد التفريق بين السلفية والوهابية، حيث ينسب للفكر الوهابي الطابع الجذري الذي يمثل أقصى درجات الخطاب الإسلامي عنفًا، بسبب اعتباره باقي المسلمين ليسوا بمسلمين صحيحي الإيمان؛ وهو ما استثار العلماء التقليديين ضد الخطاب الوهابي، على نحو حداهم بمقابلة ذلك التطرف بتطرف مضاد يصف الوهابية بالبدعة والمروق من الدين.

من جهة أخرى، يشير كومينز إلى أن ذلك الزعم الوهابي مسته يد التهذيب خلال مطلع القرن العشرين على أيدي الدعاة الإصلاحيين الذين كانوا يعيشون على هامش الأوساط العلمية الدينية التقليدية في دمشق وبغداد والقاهرة، الذين تبنوا الأفكار الوهابية، ولكن قدموها إلى المجتمع الإسلامي في صورة أكثر إيجابية، على نحو تحولت معه تلك الأفكار إلى دعوة إحياء حقيقية، لا مذهب جديدًا غريبًا خارج عن الإجماع الإسلامي السائد.

مثلت عملية إعادة تقديم الوهابية للجماهير المسلمة في هذا السياق لحظة مفصلية في التاريخ الإسلامي الحديث، من الناحية الفكرية والسياسية والاجتماعية، لا تقل أهمية عن بداية الإصلاح البروتستانتي في أوروبا الغربية خلال القرن السادس عشر، حيث جاء معظم من اقتحم المجال الديني بعدها، من خارج الأوساط العلمائية والتقليد العلمي الموروث والمؤسسة الدينية التقليدية، على نحو أصبح خلاله علماء الدين على هامش المجال الديني نفسه في الشرق الأوسط.

في هذا الإطار، اتهم الدعاة الإصلاحيون الجدد العلماء بأنهم «مرتزقة الدين» وبالتفريط والخيانة، من خلال موالتهم للأنظمة البعيدة عن الدين، وبالجمود الفكري وعدم ملاحقة تحديات العصر، والعجز عن مواجهة تحدياته السياسية والاجتماعية والثقافية.

إلا أن مائير هاتينا يؤكد في الفصل الحادي عشر من الكتاب أن الخنوع السياسي لعلماء السلطة، لم يفض بهم بالضرورة إلى العداء المطلق مع الإسلاميين، حيث عارض أولئك العلماء أيضًا الثقافة العلمانية ودعاتها، ودعوا إلى التأكيد على الهوية الثقافية والتمسك بالأخلاقيات الإسلامية. الإسلاميون بدورهم من جانب آخر لم يقطعوا حبل الود تمامًا مع المؤسسة الدينية التقليدية، حيث ظل هناك حضور مستمر لبعض العلماء في أوساط الحركات الإسلامية.

في مقابل تلك العلاقة من المهادنة النسبية مع الإسلاميين، لاحظ «محمد أبو سمرة» في سياق مشاركته في الفصل الثاني عشر، أن علاقة أولئك العلماء مع الليبراليين سادها التوتر والعداء، بسبب رفض العلماء لمحاولات المثقفين الليبراليين إعادة قراءة النصوص الدينية من منظور تاريخي.