في الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني 2016،حرّر البنك المركزي سعر الصرف، وجاء في نص القرار:

أن التعويم إنما هو جزء من منظومة متكاملة من الإصلاحات الهيكلية يتم إجراءها بحسم، في إشارة إلى التزام مصر بتنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي المتفق عليه مع صندوق النقد الدولي.

وخلال الأسبوع الماضي،شهد الجنيه المصري صعودًا أمام الدولار بقيمة حوالي 28 قرشًا، في أول ارتفاع له أمام الدولار منذ التعويم، وهو ما احتفى به الإعلام بشدة، واعتبره انتصارًا يستوجب الاحتفال.

جاء هذا الارتفاع في قيمة الجنيه مخالفًا جميع التوقعات التي تشير بأن الجنيه يعاني ضغوطًا شديدة، قد تؤدي إلى تراجع مرتقب في قيمته أمام العملات الأجنبية خلال الفترة القادمة.

وهو ما يطرح تساؤلات عدة حول دور البنك المركزي في إدارة السياسة النقدية، ولماذا ارتفعت قيمة الجنيه خلال الأسبوع المنصرم، وهل حقًا ستنخفض قيمته أمام الدولار خلال الفترة القادمة؟ ولماذا؟


دور البنك المركزي

ينص قانون البنك المركزي رقم 88 لسنة 2003، على أن استقرار الأسعار هو الهدف الرئيسي للسياسة النقدية وأنه يحظى بالأولوية ويتقدم على غيره من الأهداف، وتنص المادة السادسة من القانون على الوسائل والأدوات التي يستعين بها البنك المركزي في تحقيق هذا الهدف ومنها: سعر الصرف.

ما نود التأكيد عليه هنا هو أن سعر الصرف ليس هدفًا في حد ذاته وإنما هو أحد الأدوات التي تخدم الهدف الأول والأخير للبنك المركزي وهو الحفاظ على استقرار التضخم عند معدل منخفض.

ونعني باستقرار معدل التضخم، هو عدم تعرضه لتقلبات شديدة كالتالي يعاني منها الاقتصاد المصري في السنوات الأخيرة. على سبيل المثال،سجل معدل التضخم 32% في الشهور الأولى من 2017، ثم تراجع ليسجل 11% في مايو/آيار 2018، وما لبث أن ارتفع من جديد إلى 18% في أكتوبر/تشرين الأول ثم انخفض مرة أخرى إلى 12% في ديسمبر/كانون الأول من نفس العام.

يؤثر هذا التذبذب الشديد سلبًا على قرارات الادخار والاستثمار وهما المحركان الرئيسيان لأي اقتصاد، فالفرد لا يستطيع أن يحدد جزءًا ثابتًا يمكنه اقتطاعه من دخله شهريًا وادخاره سواء في البنك أو في جمعية مع الأصدقاء، لأنه ببساطة عُرضة لصدمات مفاجئة من ارتفاع الأسعار في أي وقت وهو ما يحد من قدرته على الدخول في التزامات ادخارية طويلة الأجل، كما تحول تقلبات الأسعار دون قدرة المستثمرين على التنبؤ بالعوائد والتكاليف المستقبلية، ومن ثَمَّ عد القدرة على إجراء دراسات الجدوى واتخاذ قرار الاستثمار من عدمه.

وحينما نقول إن مهمة الحكومة الحفاظ على معدل منخفض للتضخم، فإننا نعني بذلك نسبة في حدود 2–3% في العام كما هو الحال في معظم دول أوروبا وأمريكا، أو 4-5% على أقصى تقدير كما هو الحال في دول كالبرازيل وروسيا وفيتنام. أما أن يستهدف البنك المركزي معدل تضخم 9% بزيادة أو انخفاض 3% بحلول عام 2021، فهو معدل أقل ما يُقال عنه إنه مرتفع جدًا مقارنة بالمعايير الدولية.

على كل حال يتطلب تحقيق معدلات تضخم منخفضة ومستقرة الاستقلال الكامل للبنك المركزي، وأن تكون سياساته مستندة إلى اعتبارات نقدية وليست مالية كتمويل عجز الموازنة، وهو ما لا يتوافر للبنك المركزي في مصر كونه الممول الرئيسي لعجز الموازنة وفقًا لتصريح محافظ البنك المركزي نفسه، وهو إذ يفعل ذلك يذكي نيران التضخم وهو ما يتناقض مع هدفه الأصلي: تخفيض معدل التضخم!


كيف يؤثر سعر الصرف في معدل التضخم؟

يؤثر سعر الصرف بشكل مباشر على أسعار جميع السلع المستوردة، أو تلك التي يدخل في تصنيعها مواد خام مستوردة. انخفاض قيمة الجنيه يعني ارتفاع أسعار الواردات وإن لم تتغير أسعارها في بلد المنشأ. على سبيل المثال، استيراد ما قيمته 100 دولار كان يكلف مصر 800 جنيه قبل التعويم (سعر الصرف = 8 جنيه)، بينما بعد التعويم أصبح استيراد ما قيمته 100 دولار يكلف مصر 1800 جنيه (سعر الصرف = 18 جنيه).

يؤثر سعر الصرف أيضًا في الموازنة العامة للدولة، إذ يؤدي تراجع سعر الجنيه أمام الدولار بجنيه واحد إلى ارتفاع المصروفات في الموازنة العامة بـ 3 مليار جنيه. على سبيل المثال،ارتفع دعم المحروقات في الموازنة العامة من 35 مليار جنيه إلى حوالي 110 مليار جنيه عقب تحرير سعر الصرف مباشرة، هذا في قيمة المصروفات يعني:

1. ارتفاع عجز الموازنة، ومن ثَمَّ الحاجة إلى الاقتراض أو طباعة النقود لتغطية هذا العجز، مع العلم أن الخيار الثاني يعني مزيدًا من التضخم، كما أوضحنا أعلاه.

2. ارتفاع قيمة الدعم، يعني مزيدًا من تخفيض الدعم وارتفاع أسعار الوقود، ومن ثم ارتفاع أسعار جميع السلع التي يدخل الوقود في أحد مراحل إنتاجها أو نقلها.

في المقابل، من المفترض أن يعزز انخفاض سعر صرف الجنيه تنافسية الصادرات والسياحة المصرية، فبـ 100 دولار يستطيع السائح أو المستورد الحصول على خدمات وسلع بقيمة 1800 جنيه بعد التعويم بدلاً من 800 جنيه فقط قبل التعويم، إلا أن التوترات السياسية وخاصة انفجار الطائرة الروسية في 2015 حال دون استفادة قطاع السياحة من هذه الميزة التنافسية، كما لم تشهد الصادرات المصرية تحسنًا ملموسًا عقب تحرير سعر الصرف لتُسجل 25.8 مليار دولار في 2017/2018 مقابل 26 مليار دولار في 2013/2014 لسببين:

1. اعتماد الصناعة المصرية بشكل كثيف على استيراد المدخلات، فما نجنيه بيد ننفقه على استيراد المدخلات بالأخرى.

2. تعاني الصناعة المصرية من عوائق هيكلية وبيروقراطية لا علاقة لسعر الصرف بها.

3. ارتفاع أسعار الفائدة يحد من قدرة المستثمرين على الاقتراض ومن ثم تثبيط الاستثمار.

4. ارتفاع معدلات التضخم في مصر يؤدي إلى ارتفاع أسعار الصادرات المصرية مقارنة بالشركاء التجاريين. على سبيل المثال سجل معدل التضخم 1% في تونس في يناير/كانون الثاني 2019، أي أنها قادرة على إنتاج سلعة ما بتكلفة أقل من تلك التي ستنتجها بها مصر، وهو ما يجعلها أكثر جاذبية للمستثمرين من السلعة المصرية.


محددات سعر الصرف

لا يعدو سعر الصرف أن يكون سعرًا في النهاية، وفي الاقتصاد تتحدد الأسعار بالعرض والطلب. على سبيل المثال إذا انخفض إنتاج (عرض) إحدى السلع الغذائية، ولتكن البطاطس، وفي نفس الوقت ارتفع الطلب عليها كما حدث قبل شهور، فإن سعرها يرتفع بشكل تلقائي.

لماذا يرتفع السعر؟ لأن سوق البطاطس لابد أن يصل إلى مرحلة التوازن وهي المرحلة التي تتساوى فيها الكمية المعروضة من البطاطس مع الكمية المطلوبة منها، حينها فقط ستستقر الأسعار، وما لم يتحقق التوازن لن يتحقق الاستقرار.

هذا ما حدث للدولار قبل التعويم ببساطة شديدة، كان المتاح من (عرض) الدولار محدودًا في 2015 بسبب ضعف مصادره، فالسياحة في مأزق بعد انفجار الطائرة الروسية، وإيرادات قناة السويس تتراجع مع تباطؤ حركة التجارة العالمية، أما الصادرات المصرية فهي ضعيفة، في الوقت الذي تتزايد فيه الحاجة إلى الدولار لاستيراد سلع أساسية كالقمح والدواء.

في إبريل/نيسان 2015، انعقد المؤتمر الاقتصادي وما تلاه من ودائع خليجية تُقدر بـ 12 مليار دولار خففت من وطأة الموقف، ووفرت بعض الموارد الدولارية التي لن تستمر طويلاً، فدول الخليج تعاني هي الأخرى بسبب انخفاض أسعار البترول، ولن تستطيع أن تدعم مصر ماليًا أكثر من ذلك.

بعد أشهر قليلة، ما زال الطلب على الدولار مرتفعًا لتمويل الواردات، ولا يوجد دولارات كافية لتمويل ذلك الطلب. المتاح من الدولار (العرض) محدود، والطلب عليه مرتفع، وبنفس الآلية السابقة فإن الطبيعي أن يرتفع سعر الدولار مُقومًا بالجنيه.

ولكن تدخل البنك المركزي وحال دون ذلك ووضع حدًا أقصى لسعر الدولار لا يمكن تجاوزه؛ فاصطف المستوردون أمام البنوك ليحصلوا على الدولار، وكان من بينهم من يسمح له وضعه المالي أن يشتري الدولار بسعر أعلى من ذلك الذي يحدده البنك المركزي، فخرج هؤلاء من الصفوف متوجهين إلى السوق السوداء فوجدوا أهالي المصريين العاملين بالخارج يمتلكون دولارات يريدون استبدالها، فعرضوا عليهم سعرًا أعلى من البنك، وبدأت شرارة السوق السوداء تستحيل نارًا تأكل في الجنيه المصري كل يوم، كلٌ يزايد ويضارب ويرفع سعر الدولار للحصول على أكبر كمية منه لنفسه.

كان من المفترض أن يقوم البنك المركزي حينها برفع يده عن سعر الدولار، وتركه لقوى العرض والطلب، لكنه لم يفعل ذلك، ولو كان فعل لاستقر سعر صرف الدولار عند 10 جنيه كحد أقصى في الربع الأخير من 2015، وهي قيمته العادلة التي كان سيصل إليها إذا تُركت الأمور للعرض والطلب كما توضح الدراسات الاقتصادية المتخصصة، لكنه لم يتخذ قرار التعويم لاعتبارات اجتماعية وسياسية، فاستمرت المضاربة واستمر سعر الدولار في الارتفاع حتى وصل إلى 17 جنيهًا في السوق السوداء.

وللتعامل مع الموقف، وقّعت الحكومة المصرية اتفاقًا مع صندوق النقد، تحصل بموجبه على قرض بقيمة 12 مليار دولار، في مقابل الالتزام بإجراءات الصندوق المعروفة، وأولها تحرير سعر الصرف لاستعادة توازن السوق. وثانيها رفع سعر الفائدة على الودائع بالجنيه المصري لإغراء من لديهم دولارات بتحويلها إلى جنيهات وإيداعها بالبنوك للاستفادة من أسعار الفائدة المرتفعة، فقام البنك المركزي برفع سعر الفائدة بـ 7% منذ التعويم حتى الآن، في المقابل ارتفعت قيمة الودائع بالجنيه المصري بـ 27% في 2016/2017.

تراكمت الأرصدة الدولارية في الجهاز المصري، وتكوّن لدى البنك المركزي احتياطي نقدي ضخم يُقدر بـ 45 مليار دولار، يتكون بشكل أساسي من هذه الأموال الساخنة التي تدفقت إلى مصر تبحث عن الربح السريع، وهي ساخنة لأنها على أتم الاستعداد للخروج في أي لحظة إذا رأت أن هناك فرصة استثمارية أخرى تدر عائدًا أفضل.

ولحسن حظ أصحاب الأموال الساخنة، تعاني تركيا والأرجنتين أزمة اقتصادية اضطرا على إثرها لرفع أسعار الفائدة بشكل يفوق مثيلاتها في مصر. فببساطة شديدة قاموا باسترداد ديْنهم من الحكومة المصرية، وتحويله إلى الدولار، والخروج به بسرعة متجهين إلى بنوك تركيا والأرجنتين، فكانت النتيجة هي تدفق حوالي 10 مليارات دولار خارج مصر، خلال الفترة من إبريل/نيسان حتى أكتوبر/تشرين الأول 2018.


الرجوع إلى الخلف

خلال الشهور الأخيرة 2018، بدأت الأموال الساخنة تتدفق خارج مصر على نحو ما أوضحنا أعلاه، في وقت ما زالت فيه مصادر الدولار الأخرى ضعيفة، فالصادرات لم تتحسن منذ التعويم والسياحة تحاول أن تلتقط أنفاسها بعد معاناة طويلة، وتحويلات المصريين العاملين بالخارج عرضة للتراجع بسبب ما تعانيه دول الخليج من ضغوط اقتصادية وقيامهم بإحلال العمالة الوطنية محل الأجنبية، أما قرض البنك الدولي فقد حصلنا على 83% بالفعل وليس ثمة مجال للحصول على قرض جديد في الأفق القريب.

ببساطة شديدة نحن ندخل في مرحلة تشبه تلك التي سبقت التعويم «تراجع المتاح أو المعروض من الدولار» في الوقت الذي ما زالت مصر والمستوردون في حاجة إلى الدولار لاستيراد القمح والأدوية ومستلزمات الإنتاج…. إلخ.

وكان من المفترض وفقًا لهذه المعطيات (محدودية عرض الدولار واستمرار الطلب عليه) أن نرى ارتفاعًا في سعر الدولار خلال العام الماضي، إلا أن البنك المركزي كان مُمسكًا بسعر الدولار عند 17.5 جنيه تقريبًا لأشهر طويلة، وهو نفس ما فعله قبل التعويم عندما استمر في تعطيل آليات السوق وتحديد قيمة الجنيه بشكل جبري، وأدى تأخره في اتخاذ قرار التعويم إلى ارتفاع سعر الدولار أكثر وأكثر بسبب المضاربة.

ما نود الوصول إليه هنا هو:

الوضع الحالي يعني أن قيمة الدولار الحقيقية «المقومة بالعرض والطلب» أعلى من تلك التي يحددها البنك المركزي، إلا أن البنك المركزي يقوم بتثبيت سعر الدولار عند قيمة أقل من قيمته الحقيقية، وهو إذ يقوم بذلك تتسع الفجوة بين السعر الحقيقي (المعبر عنه بالعرض والطلب) والسعر الرسمي المعلن عنه والمُحدد بواسطة البنك المركزي. مع مرور الوقت، وكلما تأخر البنك المركزي في رفع سعر الدولار بحيث يساوي قيمته العادلة، كلما كان الارتفاع المرتقب في سعر الدولار أكبر وأكبر.