الضرائب تمثل 75% من إيرادات الدولة.

كلمة ألقاها وزير المالية المصري محمد معيط وسط كلمات وتصريحات عدة، كشف بها الخلل في منظومة الضرائب في مصر، فهي تشكل وحدها نسبة الـ75% من الناتج المحلي الإجمالي. ورغم تلك النسبة المرتفعة التي تتخطى الكثير من دول العالم، فإن الدولة ما زالت تعاني عجزًا بالموازنة العامة بلغ نحو 438 مليار و594 مليون حنيه، وما زالت عاجزة عن توليد دخول تفي باحتياجاتها المالية.

هذا العجز لم يكن وليد اللحظة، فهو نتاج لسياسات قديمة ومنظومة ضريبية شابها العديد من الثغرات التي استمرت منذ عهد الرئيس الأسبق مبارك، نظام كانت فيه الدولة أقرب ما تكون إلى دولة الجباية التي تقاتل لزيادة ما تستقطعه من المجتمع، حتى لو أدى ذلك إلى الإضرار بالنشاط الاقتصادي.


كيف جنت الدولة إيراداتها؟

استدارت الدولة إلى المجتمع، وحاولت بشتى الطرق استقطاع مواردها المالية منه فلجأت إلى الضرائب؛ حيث فرضت ضريبة على المبيعات وعلى الدخل، وطاردت المصريين العاملين في الخارج، فألزمتهم بضريبة جديدة، لتشعر أن جني المزيد من الإيرادات كان الشغل الشاغل للدولة حتى لو لجأت إلى ضرائب غير دستورية.

وسرعان ما تحول سلوك الدولة الاقتصادي ليشبه «دولة الجباية»: تلك التي تعلو فيها اعتبارات تنمية الإيرادات على أي اعتبارات أخرى، وفي ظل هذه الدولة تعددت الطرق التي تُجنى بها الإيرادات وتنوعت، حيث هناك:

1. ضريبة التضخم

تقوم بفرضها الدولة عبر طبع المزيد من النقود لتعويض محدودية الإيرادات، فتضعف بذلك من القيمة الشرائية للعملة، مما يعني استقطاع الأموال من المواطنين. وعادة ما يلجأ النظام لهذه الضريبة لما تنطوي عليه من مزايا وفي مقدمتها طابعها الخفي. فهي تُفرض في إطار من السرية، إذ لا تصدر بقانون بل بقرار من البنك المركزي، وحتى حينما يفتضح أمرها عبر رفع الأسعار، يُمكن للنظام حينها المناورة وإلقاء المسئولية على «جشع التجار» فيتم توجيه الغضب إليهم بدلًا من النظام.

كذلك تتميز هذه الضريبة بالطابع المتناثر «فهي ضريبة على الكل»، لا تنصب على فئة معينة بل تُصيب جميع الفئات، صحيح أنها تؤثر على الفئات الفقيرة والمتوسطة بشكل أكبر، ولكنها بالنهاية تشمل المجتمع بأسره مما يجعل المقاومة الشعبية لها ضعيفة.

وقد لجأت الدولة لهذا النوع من الضرائب في النصف الثاني من الثمانينيات، إذ كانت أكثر دول العالم استخدامًا لها، وفاقت الإيرادات التي جنتها الدول الأخرى. إلا أن التمادي في استخدامها أثّر على قيمة العملة سلبيًا، فبدأت تتهاوى، مما جعل دخول موظفي الدولة تتآكل.

2. الضريبة العامة على المبيعات

في يوليو/تموز 1990 بدأت الدولة تدرس فرض تلك الضريبة على مرحلتين، الأولى، تُطبق على الفور وتشمل الصناعيين والمستوردين، والثانية، تُطبق لاحقًا وتشمل التجار. وبالرغم مما واجهته المرحلة الأولى من ردود أفعال معارضة من قبل منظمات الأعمال، فإن ذلك لم يُثنِ عن فرضها. وبالفعل بدأ تطبيقها في العام المالي 1991 /1992، وارتفع نصيبها من إيرادات الدولة من 13.1% ذلك العام إلى 14.4% عام 1997/1996 وإلى 23% عام 2007 /2008.

وفي أبريل/نيسان 2001، شرعت الدولة في تطبيق المرحلة الثانية. قوبل الأمر باحتجاجات وردود أفعال أشد معارضة من قبل التجار، إلا أنها الحكومة استطاعت مواجهتها أمنيًا، وفرضت الضريبة بسهولة. وبالرغم من الإصرار على فرضها كانت إيراداتها محدودة، حيث ظلت ثابتة عند 5.5% في العام الأول لتطبيقها، كما انخفضت في 2007/2006 إلى 5.3% من الناتج المحلي الإجمالي.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد كشفت تلك الضريبة عن ضعف الدولة الشديد في مجال تعبئة الإيرادات، حيث تميزت حملة تسويق الضريبة بالتشوش والتضارب. فكان للحكومة خطاب مزدوج؛ الخطاب الموجه للتجار يقول:

لمَ أنتم غاضبون؟ أليس المستهلك هو الذي سيدفع في النهاية الضريبة؟

والخطاب الموجه للمجتمع القلق من ارتفاع الاسعار بفعل الضريبة كان يقول:

وهكذا كان الكل في حيرة، لا أحد يفهم من أين ستأتي المليارات المنتظرة من الضريبة إذا لم يتحملها لا التجار ولا المستهلكون.

3. ضرائب على المصريين في الخارج

كانت هذه الضرائب أبرز مظاهر دولة الجباية، فالمفترض أن الضرائب تُفرض على المقيمين داخل الدولة نظير ما تقدمه لهم من خدمات، ولا يتحملها من يعمل في الخارج، إذ لا يحصل على خدمات الدولة في فترة إقامته خارجها.

إلا أن زيادة تحويلات المصريين العاملين بالخارج ووصولها إلى نحو 3 مليارات دولار في ظل ارتفاع العجز المالي كان كفيلًا بأن يغري الدولة ويدفعها نحو فرض ضرائب على هؤلاء العاملين. وبالفعل أصدرت الدولة القانون رقم 228 لعام 1989 الخاص بفرض ضرائب على العاملين بالخارج، وجنت على إثره عائدات بلغت نحو 240 مليون جنيه، فيما بررت تلك الخطوة بأنها تحتفظ لهم بكل الحقوق والخدمات لحين عودتهم من الخارج.

وفي ظل المعارضة الشديدة لهذه الخطوة تم الطعن بها أمام المحكمة الدستورية، والتي قررت عام 1993 عدم دستوريتها. كما قضت بعدم دستورية محاولات الحكومة اللاحقة لتعديل القانون وفرض الضريبة، واستمر الأمر هكذا إلى أن أصدرت الدولة في يوليو/تموز 1998 قانونًا ينص عدم انطباق أحكام المحكمة الدستورية العليا بشكل رجعي في مجال الضرائب، ما تم تبريره بضرورة الحفاظ على الموارد الأساسية للدولة.

4. محاولة إصلاح ضريبة الدخل

أدى الفشل في إيقاف التدهور المالي عبر تلك الضرائب السابقة، وتناقص حصيلة الضرائب، إلى لجوء الدولة لإصلاح نظام الضرائب على الدخل. فأعلنت عام 2000 عن نيتها إصدار قانون جديد يُصلح هذا النظام العاجز عن تحصيل الإيرادات.

قامت الفكرة الأساسية لهذا القانون على أنه إذا أرادت الدولة جني المزيد من إيرادات الضرائب، فعليها تخفيض أسعار هذه الضرائب، إذ إن التخفيض سيؤدي إلى زيادة دخل الشركات القابل لإعادة الاستثمار، وزيادة الاستثمار ستؤدي إلى زيادة الدخول ونمو الإيرادات الضريبية. ودعّم هذه الفكرة ارتفاع معدلات التهرب الضريبي نتيجة ارتفاع أسعار الضرائب، فلو تم تخفيض هذه الأسعار لشجع هذا رجال الأعمال على دفعها وانخفضت تلك المعدلات.

خفض مشروع القانون الجديد من الحد الأقصى للضريبة على الأرباح التجارية من 40% إلى 30%، والصناعية من 32% إلى 30%، وأرباح المهن الحرة من 40% إلى 30%. إلا أن ذلك لم ينل رضا التجار ورجال الاعمال حيث رأوا أن التخفيض غير كاف.

بقي هذا الرفض إلى أن تم طرح القانون مرة أخرى عام 2004 مع بعض التعديلات أهمها تخفيض الحد الأقصى للضريبة على الشركات إلى 20%. فيما بدأ تطبيقه فعليًا العام التالي، وأكدت وزارة المالية حينها ارتفاع إيرادات ضرائب الدخل من 7.1% في 2005 إلى 9% في 2006.

وبالرغم من هذا الارتفاع، فإن التمعن في تفاصيله يؤكد أن هذه الزيادة هي نتاج لارتفاع إيرادات ضرائب البترول وقناة السويس، أما عائدات ضريبة الدخل على القطاع الخاص، فقد انخفضت من 1.7% في السنة الأولى لتطبيق القانون إلى 1.4% في السنة الثانية، مما يعني أن القانون فشل في زيادة احترام رجال الأعمال لقوانين الضرائب.

5. اللجوء للرأسمالية: الدور الاجتماعي لرجال الأعمال

عادة ما تلجأ الدول لهذا النظام لتعويض النقص في إيراداتها، فتلجأ لرجال الأعمال لدفع تبرعات لأعمال المنفعة العامة، كأن يساهموا في بناء مدرسة أو تجميل مدينة أو حي، وعادة ما يكون الثمن الذي تدفعه الدولة ماديًا، حيث يحصل رجال الأعمال على إعفاءات ضريبية، وتُقدم لهم بعض الامتيازات المعنوية؛ كأن يتم تسمية المدرسة أو الحي أو غيره بأسمائهم.

ولكن الثمن الذي دفعته الدولة في مقابل هذا الدور لم يكن لكل رجل أعمال على حدة، بل كان لهم جميعًا ودفعة واحدة. فقد وجهت أجهزتها الإعلامية لتحسين صورة رجال الأعمال وتغيير صورتهم التقليدية، والتي كانت أقرب إلى النصابين من صورة رجال الأعمال الأخيار.

6. التوريد الإجباري للعملة الصعبة

في 2003 أصدرت الحكومة قراراً يفرض على المصدرين توريد 75% من العملات الصعبة التي حصلوا عليها في عمليات التصدير، وكان سعر الصرف الرسمي للجنيه 6 جنيهات أما السعر غير الرسمي 7 جنيهات. وهكذا فكل دولار تم توريده لبنوك الدولة تضمن خسارة للمصدر تبلغ جنيهًا، وهذا الجنيه صب في خزانة الدولة، مما يعني أن هذا النظام تضمن ضريبة متخفية على المُصدرين. واستمر الوضع هكذا إلى أن تم إلغاء النظام في 2004، بعدما تعرض للطعن في محكمة القضاء الإداري بمجلس الدولة.


لماذا فشلت الدولة في تحقيق التوازن المالي؟

لا داعي للقلق، لن نفرض ضريبة جديدة، الأمر ينحصر في تحصيل ضريبة كانت قد فرضت بالفعل عام 1991 مع المرحلة الأولى من ضريبة المبيعات.

رغم كافة هذه المحاولات، فشلت الدولة في زيادة إيراداتها المالية من الضرائب، واستمر عجز الموازنة العامة في الارتفاع. حيث تخلل النظام الضريبي المصري العديد من الثغرات التي أبطلت تأثيره:

1. اللجوء إلى إجراءات غير شرعية: وكانت أبرز الأمثلة على هذه الإجراءات نظام الضريبة على المصريين العاملين في الخارج، والقرار الخاص بالتوريد الإجباري للعملة الصعبة كما سبق الإشارة.

2. افتقاد القدرة على تعبئة التأييد السياسي: ففي كثير من الأحيان كان الفشل ناتجًا عن عدم قدرة الدولة على تعبئة التأييد السياسي لمشروعاتها لزيادة الإيرادات، ولعل المثال الأوضح على هذا ما حدث في مشروع القانون للضرائب على الدخل، الذي لم تقرر الدولة الشروع في صياغته إلا في عام 2000 برغم الحاجه إليه منذ التسعينات.

3. تناقص الإيرادات وزيادة النفقات: وهو ما نتج عن بطء الدولة وعدم قدرتها على التكيف سريعًا لتحقيق التوازن المالي. وبشكل أكثر وضوحًا، فتحقيق التوازن المالي يتطلب أن تعمل الدولة على زيادة إيراداتها وتقليص نفقاتها في الوقت ذاته، مما يتطلب بالضرورة أن تكون الجهة المتحكمة في الأمرين جهة واحدة، لا تقوم بأي مصروفات إلا إذا وفرت بادئ ذي بدء موارد لها.

إلا أن ما حدث أن المتحكم كانتا جهتين تعملان بشكل منفصل: وزارة المالية (مسئولة عن تعبئة الإيرادات) ووزارة التخطيط (منوط بها تحديد النفقات). مما جعل عملية تحقيق التوازن المالي أمرًا صعبًا، يكاد يكون مستحيلًا خاصة وأن وزارة التخطيط كانت تقوم بزيادة النفقات دون مراعاة محدودية الإيرادات.

ومنذ 2002 بدأ دور وزارة التخطيط يقل تدريجيًا لصالح وزارة المالية، حيث قررت الحكومة ذلك العام تحويل بنك الاستثمار القومي من سلطة وزارة التخطيط إلى المالية، مما شكّل أولى خطوات عودة وزارة المالية للقيام بمهام السياسة المالية بشكل كامل.

وإلى ذلك يمكن القول إن الدولة حاولت منذ الثمانينات البحث عن إيرادات جديدة عبر نظامها الضريبي، فلجأت إلى الطرق الأكثر تخفيًا مثل ضريبة التضخم، واتجهت فيما بعد إلى ما هو أكثر وضوحًا كضريبة المبيعات والضريبة على الدخل والضرائب على العاملين بالخارج وغيرها. ومع ذلك عجزت عن تحقيق التوازن المالي نتيجة زيادة النفقات في مقابل محدودية الإيرادات، مما فاقم من عجز الموازنة العامة ودفعه إلى التصاعد.