في 30 يونيو/حزيران 2013م اندلعت انتفاضة شعبية أخرى انطلقت في ميدان التحرير وعدد من ميادين مصرية أخرى، تنادي بسقوط نظام الإخوان المسلمين المتمثل في د/محمد مرسي، وذلك بعد عام من توليه منصب رئاسة الجمهورية، والتي حملت العديد من الإخفاقات وبعض الإنجازات.

ودار جدل واسع حول حقيقة هذا الحشد، بين متسائل هل كنا في حاجة إليه؟ هل هو ثورة أم انقلاب على ثورة 25 يناير 2011؟ هل الأسباب التي قامت بسببها هذه الانتفاضة حقيقية أم مجرد ادعاءات؟ وما هي نسبة الحقيقة إلى الادعاءات فيها؟ كل هذه تساؤلات أثارها العديد من الخبراء والكتاب والشباب المصريين الذين شاركوا وعاشوا وشاهدوا مرحلة مهمة من التغيرات والتحولات السياسية والاجتماعية في مصر خلال الخمس السنوات الأخيرة منذ الانتفاضة الأولى 25 يناير 2011.


كيف تتحرك الجماهير: لوبون و30 يونيو

لعل من أهم المراجع التي يمكن العودة إليها والاستناد لها في تحليل حدث مثل انتفاضة وتصرف العقل الجمعي وتحليل سلوك الجماهير في مثل هذا الحدث هو كتاب «سيكولوجية الجماهير» للكاتب والطبيب وعالم النفس الاجتماعي جوستاف لوبون. حيث تعرض لوبون إلى أهم العوامل التي تتعلق بنفسية الجماهير وعقلها وكيف تدير التجمعات وما الذي يدفعها لأن تقوم بفعل مثل ما قام به جزء من جمهور الشعب المصري في 30 يونيو 2013.

في العام الذي حكم في الإخوان مصر كان هناك العديد من الإخفاقات مثل فشل إدارة الدولة من الناحية الفنية، وعدم قدرة النظام على التعامل مع مؤسسات مهمة في الدولة، مثل الإعلام والقضاء والشرطة، الأمر الذي أدى إلى اندلاع العديد من الأزمات وتضخيمها بشكل دفع العديد من الشعب المصري يصل إلى مرحلة الاشمئزاز من هذا النظام.

كما كانت هناك أزمة في إدارة التعددية الحزبية على الساحة السياسية، فلم يكن لدى نظام الإخوان رؤية واضحة في التعامل مع هذه التعددية، الأمر الذي أدى إلى البدء باقتراح إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، ولكن هل هذه الأخيرة هي التي شكلت «روح الجماهير» التي نزلت في 30 يونيو 2013 أم هناك أشياء أخرى؟

إخفاق الإخوان في التعامل مع ملف الإرهاب في سيناء، بل ادعاء بعض أطراف النزاع السياسي أن الإخوان هم من وراء ما يحدث في سيناء بسبب قرار الإفراج عن العديد من المعتقلين ذوي الخلفية الجهادية، إلى جانب ذلك عدم القدرة على إدارة ملفات مست الحياة اليومية للمواطن المصري مثل انقطاع التيار الكهربائي المستمر وأزمات البنزين والسولار والغاز.

إلا أن هذه الأزمات منها ما كان موجودًا في ظل حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ومنها ما تم استحداثه، ومنها ما استمر حتى بعد انتفاضة 30 يونيو. ولكن الأمر كان يتعلق بعملية تضخيم الأزمات مع تزامن زيادة وتيرتها، الأمر الذي زاد الشعب احتقانًا، وهذا جزء كبير مما شكل روح الجماهير والعقل الجمعي لتلك الجماهير التي نزلت في 30 يونيو 2013.

وروح الجماهير يمكن الاصطلاح على أنها حالة نفسية مكونة من «الانفعالات البدائية ومكرسة بواسطة العقائد الإيمانية القوية، وهي أبعد ما تكون عن التفكير العقلاني والمنطقي، في مثل هذه الحالة تتحول نفسية الفرد في إطار ذلك الجمع ويقبل على فعل أمور كان في العادي لا يقبل أن يفعلها ولا يفكر في الإقدام على فعلها». إذن فالإنسان حين ينخرط في جمع ما تتغير حالته النفسية وتصبح أقل إدراكًا وعقلًا ومنطقية، ويصبح أكثر عاطفية واندفاعًا. وفي هذه الحالة يظهر «المحرض» الذي يسعى إلى تحريك الجماهير من خلال استخدام الصور الموحية وتضخيم الأزمات[1].

فظهرت حركة تمرد، تلك الحركة التي نشأت من أجل التحريض على النزول يوم 30 يونيو، وقامت بجمع توقيعات العديد من المواطنين من أجل سحب «الشرعية» من نظام مرسي تمهيدًا لسقوطه، وسط دعاوى إعلامية لسقوط الإخوان وتضخيم الأزمات وتعزيز صورها الموحية التي تحرك مشاعر الغضب عند الجماهير، الأمر الذي جعل الجماهير تستجيب لهذه الحركة وهذه الدعوات.

وكان المحرّض الثاني في هذه الصورة هو الإعلام، وكان ينقسم إلى إعلام محرض بشكل واضح، ويتمثل في العديد من برامج التوك شو المختلفة على العديد من القنوات الخاصة التي يمتلكها رجال أعمال لهم مصالح غير متوافقة مع الإخوان، والقسم الثاني هو السخرية والكوميديا السوداء، والذي كان مثاله باسم يوسف في برنامج البرنامج، الذي كان بمثابة إحدى شرارات انطلاق هذه الانتفاضة.

إن ظاهرة باسم يوسف، حتى وإن لم تكن وجدت من أجل ذلك الهدف، تركت للعمل بحرية في ظل هذا النظام لهدف معين، وبدا الأمر كذلك، خاصة حينما تم وقف البرنامج ونقله من فضائية مصرية “سي بي سي” إلى فضائية سعودية وهي «إم بي سي مصر»، وبعدها توقف نهائيًّا، الأمر الذي يبدو أن البرنامج كان – وإن لم يكن هذا هدفه على أحسن التقديرات –نموذجًا في كسر حواجز النظم الديكتاتورية في ظل الإخوان وما بعدهم، ولكن كانت النتيجة الحتمية هي تراجع شعبية مرسي أثناء فترة حكمه.

وبما أن الجماهير لا تتحرك بالحجة المنطقية العقلية، بل تتحرك من خلال المشاعر المتطرفة، الأمر الذي يجعل أي محرض له مصلحة من إشعال روح الجماهير أن يتحدث بلهجة عنيفة[2]، مثل ما كان من أحاديث عن التقسيم «شعبين»، وأحاديث عن بيع «قناة السويس» لقطر، وأخرى عن بيع سيناء للإسرائيليين لتنفيذ ما تبقى من مخطط الشرق الأوسط الكبير بتهجير حماس وفلسطينيي غزة بها، وما إلى ذلك من الأمور التي لم يثبت لها دليل جنائي حتى الآن، ولكن الجماهير عادة لا تفكر في تفاصيل صحة الكلام ودقته من عدمها، أو حتى قبوله عقلًا أو انتفائه منطقيًّا، ولا حتى الشك، فإنها حالة ليس بها مساحة الشك والنقاش، بل هي حالة متوهجة ترى أنه لا بد من إنفاذ الأمر الذي تراه دون أي تعديل من أحد حتى وإن كان زعيمًا.

وما أدى لحدوث ذلك أيضًا هو قابلية الجماهير لقبول وتصديق أي شيء عن طريق عدوى نقل الإشاعات والأخبار، الصحيح منها والكاذب[3] تلك الحالة التي وصفها لوبون في كتابه «القانون النفسي: الوحدة الذهنية للجماهير»[4].


أدوات التنفيذ

إن ما تقدم من روح الجماهير يترجم في حالة حراك في صورة تظاهرات واحتجاجات واعتصامات، وهو ما حدث بالفعل، حيث تصاعدت حدة الاحتجاجات والتظاهرات التي تنادي بسقوط نظام الإخوان تحت شعار «يسقط حكم المرشد».

وفي تفسير لوبون لسلوك الجماهير فهو يفرق بين روح الجماهير الشريرة والطيبة، فالجماهير ليست شريرة وطيبة بالفطرة، ولكن هناك أمورًا تجعلها إما ذلك وإما تلك. إلا أنها في كل الأحوال تفعل أمورًا لا يمكن أن تفعلها في حالة وجود الفرد وحده دون تجمع وانخراط وسط الجماهير. فمثلًا أعمال الشغب والتهليل والرسم على الحوائط وتوزيع المنشورات، والتحدث في المنصات للتحريض، كلها وسائل استخدمت في 30 يونيو 2013.

إلا أن الأمر الذي يبعث على التناقض المنطقي الذي لا تفكر به الجماهير أن كانت الدعوات كلها تقول بأن 30 يونيو هي استكمال لـ 25 يناير – الحديث الذي يراه البعض عبثًا فضلًا عن مساهمته في زيادة التقسيم والتصنيف – بيد أن الأخيرة كان هدفها الأول هو تطهير الداخلية من عناصرها الفاسدة التي تقوم بأعمال القتل والتعذيب داخل السجون وعدم مراعاة حقوق الإنسان المصري وكرامته، إلا أن الأمر بات متناقضًا في مشهد فريد من نوعه في إطار التحول السياسي والاجتماعي، وهو وجود أفراد من الشرطة داخل الميدان في فعاليات 30 يونيو، بل منهم من كان محمولًا على الأعناق في ظل عدم تغير سياسة الداخلية بشكل فعلي، تلك المشاركة التي صورها البعض بمثابة تعاطف الشرطة مع الثورة.

إلا أن الجماهير لم تفكر في ذلك للحظة، فهي من أحد سماتها قبول أو رفض كلي، فهي قبلت بشكل كلي كل من كان مع سقوط نظام الإخوان، ورفضت بشكل كلي كل من كان يؤيد الإخوان، وأيضًا كل من كان يحاول أن يعلي من صوت العقل والمنطق كان يتم تصنيفه أيضًا.


خاتمة

إن روح الجماهير العاطفية المتطرفة تلك يمكن أن تكون وقودًا للحماسة والتغيير والبناء وصناعة مستقبل أفضل لتلك الأمة، بيد أن الحاصل حتى الآن أنها ضحية ووسيلة في يد من لا يريد إلا الهدم والخراب ولا يريد التغيير والتقدم، وهذا ما ذكره لوبون في كتابه، فإن روح الجماهير في كثير من الأحيان لا تعرف إلا الهدم والتدمير[5].

نستخلص من هذا أن التحكم في روح الجماهير مسئولية على من يحرّضها، ومسئولية على من يقوم بتشكيل وعيها، فمن شكلها بروح الإيجابية والبناء والقيم والتغيير، كان وقودًا للتقدم والنهضة، ومن ملأها بحالة من العنف والسلبية والانقسام وكره الآخر، فتكون لها نتائج مدمرة على المجتمع بأسره، بل يمتد أثرها للعالم بفعل العدوى التي تنتقل من جمهور لجمهور آخر يعاني نفس المشكلات ونفس الظروف.